"قمت ببيع شعري إلى أحد صالونات التجميل مقابل 55 دولاراً؛ حتى أعيل أسرتي"، يكشف ما فعلته هذه السيدة حجم الأزمة الاقتصادية السورية، التي لم يجد رئيسها، بشار الأسد، لها حلاً سوى مطالبة التلفزيون الحكومي بوقف برامج الطبخ!
إذ تعاني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري في سوريا أوضاعاً معيشية واقتصادية صعبة منذ سنوات، بسبب الحرب والعقوبات الغربية وانهيار العملة المحلية التي أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية السورية.
تقول السيدة السورية التي رفضت الإفصاح عن اسمها، لصحيفة The New York Times الأمريكية: "كنت أمام خيارين؛ إما أن أبيع جسدي وإما أن أتخلى عن شعري".
ومع تفشِّي فيروس كورونا في سوريا واتخاذ النظام إجراءات "وقائية" للحد من توسُّع رقعة انتشار الفيروس بين المواطنين كـ"حظر التجول وفرض العزل، وتوقف الحركة الصناعية والتجارية المحلية"، تفاقمت الأوضاع المعيشية، وبلغت الأزمة الاقتصادية السورية حداً غير محتمل.
في مدينة طرطوس الواقعة بمعقل النظام في منطقة الساحل السوري ذي الأغلبية العلوية والتي لم تشارك تقريباً في الثورة السورية، احتشد الآلاف من أبناء المدينة مؤخراً أمام مبنى المحافظة، بسبب الأزمة الاقتصادية السورية، مطالبين النظام وحكومته برفع رواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين، مهددين باعتصامات مفتوحة لحين الاستجابة لمطالبهم.
"سائر نيوف"، وهو ناشط مدني في مدينة طرطوس، قال لـ"عربي بوست"، إنه بعد تدهور الأوضاع المعيشية التي عاشها المواطنون بعد الثورة السورية والعقوبات الدولية التي فرضت على النظام، وأعقبتها الإجراءات الوقائية من خطر توسع رقعة انتشار فيروس كورونا بين السوريين، وما رافقها من إغلاق الحدود من قِبل لبنان والعراق، بات السوريون بين مطرقة الفقر المدقع وسندان فشل وعجز حكومة النظام على الخروج من الأزمة الاقتصادية وتحسين أسعار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.
رد فعل بشار على الأزمة الاقتصادية السورية لا يصدق
كان رد فعل بشار الأسد صادماً ولا يمكن تصديقه، على الأزمة الاقتصادية السورية، فلقد كشفت صحيفة New York Times الأمريكية، الثلاثاء 23 فبراير/شباط 2021، في تقرير لها، عن تفاصيل اجتماع غير معلن بين رئيس النظام السوري الأسد وصحفيين موالين له؛ لمناقشة الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في البلاد.
في اللقاء الذي نقلت وقائعه الصحيفة الأمريكية، سُئل بشار الأسد عن الأزمة الاقتصادية السورية التي تتمثل أبرز مظاهرها في: انهيار العملة المحلية الذي استنزف قيمة الرواتب، والارتفاع الهائل في أسعار السلع الأساسية، والعجز المزمن في إمدادات الوقود والخبز.
جاءت إجابة بشار، بحسب المصادر: "أعلم، أنا مُدرك لذلك".
في تقريرها، تشير صحيفة The New York Times الأمريكية إلى أن بشار الأسد، ورغم علمه بواقع الأزمة الاقتصادية السورية الحادة، لم يقدِّم أي خطوات ملموسة لوقف تلك الأزمة، واكتفى بطرح فكرة، مفادها: يجب على القنوات التلفزيونية إلغاء برامج الطهي؛ حتى لا تزعج السوريين بصور طعام بعيد المنال!
وترى الصحيفة الأمريكية أنه مع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية وما تبعها من حرب بين النظام ومعارضيه في سوريا، فإن التهديدات الأشد خطراً على بشار الأسد ليست فصائل المعارضة ولا القوى الأجنبية التي لا تزال تسيطر على مساحات شاسعة من البلاد، بل الأزمة الاقتصادية السورية الطاحنة التي أعاقت إعمار المدن المدمرة، وفاقمت فقر السكان، وتركت عدداً متزايداً من السوريين يعانون للحصول على ما يسدون به رمقهم.
جاء الاجتماع الخاص الذي عقده بشار مع صحفين سوريين موالين له الشهر الماضي، دون إعلان سابق، ليقدّم نظرة نادرة صريحة على الأسد الذي بدا منفصلاً عن واقع الأزمة الاقتصادية السورية التي تكوي نيرانها شعبه، وعاجزاً عن فعل أي شيء حيالها.
يشير التقرير إلى أن بشار، حتى وهو يتحدث في اجتماع خاص من تنظيمه، ظل متمسكاً بدعاواه المبتذلة التي لطالما اتسمت بها خطاباته العامة، حتى بعد أن بلغت الأزمة الاقتصادية السورية هذا المدى المفجع.
فبينما كان يرتدي بذلة سوداء ويتحدث بطريقة الأستاذ الجامعي، أعاد بشار توجيه اللوم إلى مجموعة من القوى الأجنبية فيما تعانيه سوريا من ويلات، وهذه القوى هي: "وحشية" الرأسمالية العالمية، و"غسيل المخ" من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، وتيار مبهم سماه بتيار "الليبرالية الحديثة" الذي ما انفك يقوّض قيم البلاد. وبالطبع، لم يفُته أن يؤكد للصحفيين أن سوريا لن تقيم سلاماً مع إسرائيل ولن تقنن زواج المثليين.
نقلت تعليقات الأسد خلال اللقاء عبر ما نقله مصدرٌ خاص لصحيفة The New York Times، وما ورد إليها من تأكيدات مباشرة لتفاصيل اللقاء من أحد الحاضرين.
الليرة السورية تتحول إلى ورقة للف السجائر
وجاء هذا في وقت يمر فيه الاقتصاد السوري بأسوأ مراحله منذ عام 2011، حيث هبطت الليرة إلى مستوى قياسي، هذا الشهر، مقابل الدولار الأمريكي في السوق السوداء، ما أدى إلى انخفاض قيمة الرواتب وارتفاع تكلفة الواردات.
في مؤشر على استفحال التضخم، أصدر مصرف سوريا المركزي، في 24 يناير/كانون الثاني 2021، عملة جديدة بقيمة 5000 ليرة سورية، وأعلى قيمة سابقة كانت ألفي ليرة، وانخفض سعر الصرف غير الرسمي لليرة السورية بنسبة 4% الشهر الماضي مقارنة بديسمبر/كانون الأول 2020، حيث وصل إلى 2899 ليرة سورية مقابل الدولار الأمريكي، كانت قيمة الليرة السورية مقابل الدولار قبل الحرب، نحو 50 ليرة لكل دولار.
قيمة الليرة السورية متدنية جداً لدرجة أن الناس نشروا صوراً على وسائل التواصل الاجتماعي لأوراق نقدية تستخدم في لف السجائر قبل عدة أشهر، حسبما ورد في تقرير آخر لصحيفة New York Times.
تعاني الحكومة ضائقة مالية لدرجة أنها تضغط على رجال الأعمال الأثرياء للمساعدة في تمويل الدولة، وهي خطوة دفعت رامي مخلوف، ابنة خالة الأسد وأبرز حلفائه الأثرياء، إلى مهاجمة الحكومة قبل عدة أشهر، وبطبيعة الحال لم ينجُ مخلوف من عقاب النظام.
النتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية أكثر من الضعف في العام الماضي، وحذّر برنامج الغذاء العالمي بدوره من أن 60% من السوريين، أو 12.4 مليون شخص، معرضون لخطر الجوع، وهو أعلى رقم تم تسجيله على الإطلاق منذ بداية الأزمة في البلاد.
وسط هذه الأزمة أصبح معظم السوريين يكرسون أيامهم لإيجاد الوقود للطهي وتدفئة منازلهم، فيما يقضي معظمهم ساعات طويلة للحصول على الخبز.
أما الكهرباء فبعض المناطق تحصل على بضع ساعات فقط من الكهرباء، وهو ما يكفي بالكاد للناس لشحن هواتفهم، حسب صحيفة The New York Times.
لقد أصبح المواطنون الذين كانوا يعتبرون من الطبقة المتوسطة، في عداد الفقراء جراء الأزمة الاقتصادية السورية.
أسماء الأسد.. ظهور مستفز
وفي تناقض آخر مع الأزمة الاقتصادية السورية، كثيراً ما تظهر زوجة بشار الأنيقة المولودة في بريطانيا، أسماء، علناً، والمقصود من ذلك الإشارة إلى أن الحياة بسوريا تسير على نحو طبيعي، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
وفي كلمة ألقتها مؤخراً إلى جمع من المشاركين في مسابقة وطنية للعلوم، ترويجاً للتعليم عبر الإنترنت، قالت أسماء، إن التعليم من هذا النوع "يوفر الوقت والجهد والمال، علاوة على أنه يضمن العدالة"، ويجعل المعلومات "متاحة لجميع الطلاب في جميع المناطق"، وفقاً لما نقلته وكالة الأخبار المحلية.
ومع ذلك، لم تتطرق أسماء الأسد إلى السبل التي من المفترض أن ينخرط بها الطلاب في دراستهم عبر الإنترنت، في ظل الواقع الذي يشهد أزمة انقطاع مزمنة للتيار الكهربائي بمناطق عديدة في البلاد.
فساد حتى في توزيع الخبز.. الأولوية لأتباع النظام والوشاة
وينقل تقرير الصحيفة الأمريكية عن مواطن سوري يُدعى وسيم، ويعمل في إحدى الوزارات، قوله إنه وزوجته كان راتباهما يتيحان للأسرة تحمُّل تكلفة الوقود والخبز وغاز الطهي والملابس، حتى قبل بضع سنوات عندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مساحات كبيرة من البلاد، وفي وقت كانت المعارك مستعرة مع قوات النظام.
لكن الآن، ومع انهيار العملة الذي بدأ في أواخر عام 2019، يقول وسيم إنّ دخل الأسرة قد تقلص بدرجة كبيرة، ما أجبرهم على الاكتفاء بطعام أقل وشراء الملابس المستعملة. كما أنه افتتح منذ وقت قريب متجراً لبيع العطور بعد الدوام الوظيفي اليومي؛ لزيادة دخله.
يبذل السوريون جهداً مضنياً للوصول إلى رغيف خبز، أو أسطوانة غاز، ومع هذا يواجهون الواسطة والمحسوبية حتى في تدبير أبسط احتياجات حياتهم.
سعيد نزار والمقيم في مدينة حلب، قال لـ"عربي بوست": "نواجه فساداً حتى في توزيع مادة الخبز على المواطنين بالمركز المعتمدة لدى حكومة النظام، فمن يصرف الخبز في أي حي أو مدينة لديه معلومات أمنية، يوزع على أثرها الخبز والحاجيات، وليس على حسب حاجة الأسر وعدد أفرادها".
يستخدم موزعو الخبز المعتمدون في المراكز الحكومية سلطتهم للاختيار من بين المواطنين من يستحق رغيف العيش ومن لا يستحقه، حسب توجهاتهم السياسية.
حتى لقاحات كورونا تبدو بعيدة المنال في ظل الأزمة الاقتصادية السورية، فلقد نفت وزارة الصحة السورية، الأربعاء، تقريراً نشرته صحيفة تابعة للنظام، قال إن لقاحات فيروس كورونا الصينية وصلت إلى البلاد ويتم توزيعها في جميع أنحاء البلاد.
وقال مصدر مسؤول بوزارة الصحة لـ"رويترز"، إن التقرير غير صحيح، وأصدرت الوزارة في وقت لاحق، بياناً قالت فيه إنها ستعلن تفاصيل التطعيمات الخميس.
أين الدور الروسي؟
تواصل روسيا مساعيها دعما لمساعي الأسد الرامية للسيطرة على كل أراضي سوريا، وتلعب دوراً في إخماد الاضطرابات عبر الوساطة في كثير من المناطق التي تحظى فيها بنفوذ خاص. ولكن ذلك يتم دون محاولات تلبية مطالب السوريين، كما ظهر في مظاهرات منطقة السويداء ذات الغالبية الدرزية والتي تقع في الجنوب السوري الذي تحظى فيه موسكو بنفوذ خاص، حسبما ورد في تقرير لموقع Atlantic Council.
وفي درعا التي أبرم فيها النظام مع المعارضة تفاهمات بواسطة روسية تتضمن تطمينات أمنية أيضاً لإسرائيل والأردن، يزداد الأمر سوءأ.
فمع استمرار النظام في المضايقات والاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والاغتيالات، ستبقي على الشروط المسبقة للانفجار في المستقبل.
ويضاف إلى الظروف المعيشية المتدهورة بشكل عام في سوريا، إلى جانب التعقيدات الخاصة بدرعا، تترك الباب مفتوحاً أمام احتمال تحول المحافظة الجنوبية إلى اشتباكات متجددة. في ظل هذه الظروف، لا الأردن ولا إسرائيل -ولا أي طرف آخر لديه مخاوف أمنية جدية على المحك- يجب أن يعتمد على روسيا لضمان الهدوء النسبي في جنوب سوريا بشكل دائم.
فروسيا غير مستعدة وغير قادرة على الحفاظ على هذه التأكيدات إلى أجل غير مسمى، حسب تقرير Atlantic Council.
خيار الأسد المر والوحيد
يقول داني مكي، المحلل السوري في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، إن مشكلة الأسد هي أنه ليس لديه حل، الأوضاع الحالية سوف تؤدي إلى انزلاق الأزمة الاقتصادية السورية إلى كارثة عالية الحدة.
وبالتالي الحل الوحيد أمام الأسد "هو التحدث إلى الأمريكيين لتخفيف العقوبات، مقابل تقديمه تنازلات، من ضمنها على الأرجح تخفيف القمع وإجراء بعض الإصلاحات السياسية التي قد تشمل بحث أزمة اللاجئين الذين يفضل الأسد بقاءهم في الخارج؛ لضمان تغيير الهوية الديموغرافية لسوريا لضمان أن يكون العرب السنة أقلية، وهو ما حدث في البلاد بالفعل جراء عملية التهجير الكبيرة التي نفذها النظام".
أما إذا رفض الأسد هذا الخيار فعليه تحمّل ما يمكن أن تتحول الأزمة الاقتصادية السورية إلى انهيار اقتصادي كبير، بحسب ما نقلت صحيفة New York Times عن مكي.
فالأزمة الاقتصادية السورية لا يمكن إنهاؤها بالمذابح أو بالبراميل المتفجرة التي تلقى من الطائرات المتهالكة التي تعود للحقبة السوفييتية، كما فعل مع المدن السورية التي ثارت عليه.