يشهد العراق انقلاباً في التحالفات، حيث يبدو أن مصالح تركيا تتقارب مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وحكومة إقليم كردستان، بينما تتزايد المؤشرات على تحالف بين الحشد الشعبي المدعوم من إيران وحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً بأغلب دول العالم، وهو تحالف يُعتقد أنه يعود لفترة طويلة، ولكنه كان سرياً.
وفي مواجهة رغبة رئيس الوزراء العراقي وأكراد العراق في تقليل النفوذ الإيراني وتجاوزات الحشد الشعبي، والتخلص من الفوضى التي يحدثها حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، بدأ الحشد الشعبي حملة ترهيب للأكراد والكاظمي تراوحت بين التهديد والوعيد والرسائل المعمدة بالصواريخ والدماء.
إذ تعرضت قاعدة الحرير العسكرية التي تستضيف القوات الأمريكية، ومطار أربيل الدولي بكردستان العراق للقصف بـ11 صاروخاً في 15 فبراير/شباط 2020، ما أسفر عن مقتل مقاول وإصابة تسعة آخرين، بينهم جندي أمريكي، حسب السلطات العراقية.
رسالة لأكراد العراق بسبب تقاربهم مع تركيا
وأعلنت جماعة مسلحة مجهولة تدعى "حراس الدم"، مسؤوليتها عن الهجوم، عبر قناة تليغرام قريبة من الفصائل الشيعية المدعومة من إيران، قائلة إن منفذيها أطلقوا 24 صاروخاً على بعد 7 كيلومترات من قاعدة حرير، "أصابت أهدافهم بدقة".
ولكن الأمريكيين لم يكونوا المعنيين بهذه الرسالة الدموية، حسب ما نقله موقع Middle East Eye البريطاني عن قادة للميليشيات الشيعية الموالية لإيران.
فالهجوم الصاروخي الأخير على أربيل عاصمة كردستان العراق كان يهدف إلى "تأديب السلطات الكردية، بسبب تقاربها مع تركيا"، حسبما قال قادة الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، لموقع Middle East Eye.
واللافت أن بيان جماعة "حراس الدم" التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم، هدد السياسيين الأكراد الذين "رحبوا" بالوجود التركي على الأراضي العراقية.
وقال مسؤول كردي كبير لموقع Middle East Eye، شريطة عدم الكشف عن هويته: "تعتقد عصائب أهل الحق أن هناك تعاوناً أمنياً بين بغداد وأربيل وأنقرة، وبالتالي ترى ضرورة ضرب أربيل".
وقال قائد كبير في فصيل شيعي مدعوم من إيران، لموقع Middle East Eye، عن هجوم أربيل: "لم ننفذ الهجوم، لكننا سعداء به ونستفيد منه"، مضيفاً أن "الهدف كان تأديب مسعود بارزاني، رئيس الحزب الكردي الحاكم، ويجب على السلطات الكردية احترام نفسها ومعرفة حجمها وألا تطمح إلى تجاوز قدراتها"، حسب تعبيره.
التفاهم بين تركيا وبغداد وأربيل يغضب طهران وحشدها
وجاءت هذه التطورات بعد زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لبغداد وأربيل، ومناقشة تنظيم العمليات التركية ضد أهداف حزب العمال الكردستاني بما يتناسب مع السيادة العراقية.
لكن عملية "مخلب النسر2″ التي نفذتها تركيا، أثارت ردود فعل غاضبة من القوى الموالية لإيران في العراق، حيث يقول النائب البرلماني العراقي أحمد الأسدي، لـ"عربي بوست": "أبلغنا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، مراراً وتكراراً، أننا سنتصدى لهذه العمليات التركية داخل الأراضي العراقية".
وبعد انتهاء عملية "مخلب النسر2" التركية، بدأ الحشد الشعبي، وبالتحديد الفصائل الموالية لإيران، بالتحرك في اتجاه قضاء سنجار، جاء التحرك السريع من قبل الفصائل المسلحة الشيعية العراقية، بعد إعلان وزارة الدفاع التركية، العثور على ثلاثة عشر مدنياً تركياً مقتولين بعدما كانوا محتجزين لدى حزب العمال الكردستاني بجبل غارا في كردستان العراق، وعزمها على التحرك لمواجهة حزب العمال الكردستاني.
وظهر التقاء المصالح بين إيران وحزب العمال الكردستاني في محاولة الحشد الشعبي منع تقوية وجود قوات الحكومة العراقية المركزية في المنطقة، وإضعاف سلطة إقليم كردستان لصالح حزب العمال الموجود في مناطق عدة بشمال العراق، أبرزها إقليم سنجاز الذي شهدت أراضيه ذروة الأزمة.
أهداف إيران من التصعيد ضد تركيا
أولى مصالح إيران وحلفائها من التصعيد الأخير ضد كردستان العراق، عبر هجوم أربيل، وضد تركيا عبر التهديد بالتصدي لتوغل قواتها، تأتي من رغبة طهران ومليشياتها مجفي اختلاق معركة مع كردستان العراق وتركيا؛ لصرف انتباه الشعب العراقي عن الهيمنة الإيرانية على العراق، وهي الهيمنة التي كانت سبباً أسياسياً لغضبة الشباب العراقي في السنوات الأخيرة، وخروجه في تظاهرات حاشدة أدت إلى انهيار حكومة عادل عبدالمهدي ومجيء رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي يسعى تدريجياً للحد من نفوذ الحشد الشعبي وتقليل الهيمنة الإيرانية على العراق.
كما أن التصعيد من قبل طهران ضد الوجود التركي في العراق بما في ذلك استخدام العلاقة القديمة بين إيران وحزب العمال الكردستاني جزء من التنافس الإقليمي الإيراني التركي.
في المقابل، ترى أنقرة أن بلدة سنجار الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا، تمثل ممرات آمنة لمقاتلي تنظيم حزب العمال الكردستاني، وتسهل عليهم التنقل بحرية لشمال سوريا، واستخدام هذه المناطق في هجماتهم ضد الأراضي التركية.
اتفاق لتقوية سلطة الحكومة العراقية المركزية يغضب "الحشد"
في أكتوبر/تشرين الأول 2020، توصلت حكومة بغداد المركزية، مع حكومة أربيل في إقليم كردستان العراق، إلى اتفاق بخصوص قضاء سنجار، من شأنه إخلاء المنطقة من جميع القوات، سواء كانت من الحشد أو قوات المقاومة المحلية، وإنشاء شرطة اتحاديةٍ قوامها 5000 جندي، وتعيين حاكم للمنطقة يتم اختياره من قِبل حكومتي أربيل وبغداد.
يعني الاتفاق سحب الجماعات المدعومة من إيران، من المنطقة وطرد حزب العمال الكردستاني وحلفائه مثل وحدات حماية الشعب الكردية السورية وإعادة النازحين.
رفضت النخبة السياسية الشيعية في بغداد الاتفاق، ووصفه البعض بالتطبيع مع حكومة أربيل، والتنازل عن سنجار لصالح الأكراد، كما أعلنت بعض الجماعات الأيزيدية في سنجار رفضها الاتفاق، باعتباره محواً لدورها في حماية المنطقة من هجمات تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
لقد كان ترتيباً يناسب القوات الفيدرالية العراقية وقوات حكومة إقليم كردستان، لكنه ترك الفصائل الشيعية والمسلحين الأكراد التابعين لحزب العمال ساخطين.
واستغل الحشد الشعبي عزم تركيا على الرد على اغتيال مواطنيها، لتحقيق هدفه باستمرار السيطرة على سنجار.
أما تركيا فتريد من الحكومة العراقية وحكومة كردستان منع هجمات حزب العمال الكردستاني على أراضيها، أو ستتصرف هي كما تقول.
في 10 فبراير/شباط 2021، شنت تركيا حملة عسكرية جديدة ضد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل على طول الحدود الشمالية.
وأعطى ذلك للفصائل المدعومة من إيران فرصة ذهبية لإعادة تأكيد وجودها في محيط سنجار بحجة مواجهة أي محاولات تركية للتوغل، على الرغم من أن قوات تركيا تبعد 250 كيلومتراً عن سنجار.
تم إرسال ثلاثة أفواج قتالية من الحشد الشعبي في اليوم التالي وانتشرت على قمة جبل سنجار ومنحدراته الغربية والشرقية، حسبما قال قادة شيعة لموقع Middle East Eye.
ومع وصول التعزيزات، بلغ عدد قوات الحشد الشعبي المنتشرة في المنطقة 15 ألف مقاتل، بحسب قائد إيزيدي محلي يعمل تحت مظلة القوات شبه العسكرية.
يقول قائد شبه عسكري ضمن فصيل عصائب أهل الحق، المدعوم من إيران، لـ"عربي بوست": "علمنا بنية تركيا دخول قضاء سنجار لمواصلة قصف حزب العمال الكردستاني، ولن نسمح بحدوث هذا الأمر إطلاقاً، لقد حررنا سنجار بدمائنا، ولن نعطي الفرصة لأي أحد أن يقتحم البلدة مهما كانت الدوافع".
حزب العمال الكردستاني يتعاون مع الميلشيات الموالية لإيران
يتخذ مقاتلو حزب العمال الكردستاني قضاء سنجار منطقة آمنة لهم، وقد ساعدوا قوات المقاومة الأيزيدية في التدريب والتسلح لصد هجمات تنظيم داعش، كما أن لديهم علاقات جيدة مع بعض الفصائل المسلحة الشيعية.
وفي هذا الصدد، سبق أن قال مصدر أمني عراقي رفيع المستوى، لـ"عربي بوست"، إن "الحشد رفض منذ اتفاق سنجار إخلاء المنطقة، والآن بحجة التحركات التركية يعزز وجوده في سنجار أكثر من ذي قبل، كما أن لبعض الفصائل المسلحة علاقات مع حزب العمال الكردستاني، والذين كانوا يرتدون ملابس الحشد؛ لعدم ملاحقتهم من قبل أنقرة، لذلك فإن الحكومة العراقية قلقة من التحركات الأخيرة للحشد في سنجار".
التلاعب الإيراني بالأحزاب الكردية يعود لأكثر من نصف قرن
تبدو العلاقة بين إيران وحزب العمال الكردستاني مثيرة للاستغراب.
فكيف تتعاون إيران الدولة الشيعية ذات الحكم الديني والتي لديها مشاكل مع أقليتها الكردية الخاصة، مع حزب ماركسي يقدم نفسه كقائد للأكراد في سوريا والعراق وإيران وتركيا على السواء، ولا يخفي طموحاته لإنشاء كيان كردي في هذه البلدان؟
ولكن التاريخ يُظهر أن إيران كانت الدولةَ الأكثر تلاعباً بالفصائل الكردية في جوارها، وتستغل ذلك في تهميش أكرادها.
لدى إيران أقلية كردية كبيرة تمثل نحو 10% من السكان، أي أكثر من ثمانية ملايين كردي، يمثلون ثالث قومية في البلاد بعد الفرس أنفسهم والأذربيجانيين.
هناك أسباب عدة يُفترض أن تجعل إيران أكثر قلقاً من جيرانها من الأنشطة الانفصالية، فإضافة إلى أن النظام في طهران أكثر قمعاً من معظم الدول الأخرى التي يوجد بها أكراد باستثناء سوريا، فالأكراد كانت لديهم تجربة انفصالية تمت تحت رعاية الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات، كادت تنجح لولا انسحاب الروس.
كما أن الأكراد لا يختلفون قومياً فقط عن الإيرانيين الفرس بل أيضاً مذهبياً، فأغلب الأكراد من السُّنة وأغلب الإيرانيين من الشيعة، بل إن النظام الإيراني ذو طابع شيعي طائفي قح، إضافة إلى التأثير المحتمل للتدخلات الخارجية لطابور طويل من القوى المعادية لإيران مثل أمريكا وإسرائيل والسعودية والإمارات.
ولكن رغم ذلك فإنه من المثير للانتباه أن مشكلات إيران مع الأكراد قد تبدو أقل من جيرانها، ولا يعود ذلك فقط إلى فعالية أساليبها القمعية، بل أيضاً إلى قدرتها اللافتة على التلاعب بالأحزاب الكردية، لاسيما خارج إيران.
فلقد دعم شاه إيران أكراد العراق في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكان ذلك الدعم أداة في يد الولايات المتحدة، حليفة الشاه آنذاك، لإضعاف مواقف بغداد القوية في الصراع العربي الإسرائيلي.
كما كان هذا الدعم سبباً في تنازل بغداد بعهد الرئيس حسن البكر (عندما كان صدّام حسين الرجلَ القوي في النظام)، عن شط العرب لصالح إيران مقابل وقف الدعم الإيراني للتمرد الكردي المسلح، وبالفعل ترك الإيرانيون الأكراد فريسة للجيش العراقي بعد هذا الاتفاق.
ولكن هذا الاتفاق الذي اعتبره صدام مهيناً، دفعه إلى الدخول في الحرب مع طهران عقب الثورة الإسلامية الإيرانية لاسترداده.
وعندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، كانت المفارقة أن النظام الثوري الإسلامي في إيران لم يحاول تجنيد (أو على الأقل لم ينجح في تجنيد) شيعة العراق لقضيته في الحرب، لكنه نجح في ذلك مع الأكراد العراقيين، الذين رأوا الحرب فرصة للانتقام من سقوطهم عام 1975.
وتعاون الأكراد العراقيون بشكل كبير مع الجيش الإيراني وفتحوا جبهة شمالية ضد الجيش العراقي، وكان رد فعل صدام الذي واجه في بعض اللحظات خطر انهيار الجيش العراقي أمام نظيره الإيراني، هو حملة شديدة العنف ضد أكراد العراق، وصلت ذروتها إلى مذبحة الأنفال المروعة التي استخدم فيها الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في حلبجة، حسب تقرير لمركز besacenter.
ويبدو أن إيران قد مدت سياسة التلاعب بالأحزاب الكردية إلى حزب العمال الكردستاني.
متى بدأت علاقة إيران وحزب العمال الكردستاني؟
منذ اندلاع الأزمة في سوريا إثر إندلاع الثورة هناكك عام 2011، لوحظ أن "حزب العمال الكردستاني" أخذ ينفّذ مزيداً من العمليات في تركيا تحديداً بجنوب شرقي الأناضول، مع تسجيل زيادة لافتة في أعداد المقاتلين المصابين من أصل إيراني-كردي (مؤشر لزيادة مشاركتهم في العنف)، في حين أن "حزب الحياة الحرة الكردستاني" (PJAK) (النسخة الإيرانية من حزب العمال الكردستاني) أوقف تقريباً عملياته على الأراضي الإيرانية، وفقاً لتقرير لمركز كارنيغي الأمريكي.
حتى إن بعض التقارير تورد نظريات تتحدّث عن أنه في ذلك الوقت نشأ تحالف استراتيجي بين "حزب العمال الكردستاني" وإيران؛ في محاولة لممارسة ضغوط على تركيا، وتعزيز موقع نظام بشار الأسد الذي كان على وشك الانهيار في ذلك الوقت.
ومن العوامل التي تعزز قوة الصلات بين إيران وحزب العمال الكردستاني، العداء بين الأخير والقوى السياسية في كردستان العراق (الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة آل بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني).
فحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري المعروف باسم حزب الاتحاد الديمقراطي، كانا دوماً في صراع مع آل بارزاني الذين يمثلون الزعامة التاريخية لأكراد العراق، ولهم نفوذ على كل الأكراد بالمنطقة، خاصة أنه يحاول فرض هيمنته على كل الأكراد، وهو ما نجح فيه في سوريا.
فمشاكل الحزب ليست مع تركيا فقط، بل محيطه الكردي والعربي، بسبب الطابع الشمولي للحزب، وهو ما يظهر في مضايقات فرعه السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي السوري) لأي مكونات مستقلة عنه حتى لو كانت كردية، حسب تقارير ميدانية لمراكز بحثية غربية.
وبما أن أكراد العراق لديهم علاقة جيدة نسبياً مع أنقرة، لاسيما في الفترة الأخيرة، إضافة إلى قلقهم من تصاعد النفوذ الإيراني في بغداد وبالأكثر توغل وسيطرة الحشد الشعبي على المناطق المتنازع عليها بين كردستان العراق، وبغداد، فإن ذلك يعزز المصالح المشتركة بين إيران وحزب العمال الكردستاني، الذي يبدو أن المقابل الذي قدمه لطهران هو وقف عمليات فرعه الإيراني في كردستان إيران ولو إلى حين.