قابل الحوثيون إعلان إدارة بايدن رفع اسمهم من قوائم الإرهاب سريعاً بتصعيد حملتهم العسكرية على مأرب، فيما بدا أنه اغتنام انتهازي لمحاولة الإدارة الأمريكية وقف حرب اليمن، فهل تؤدي توجهات بايدن إلى تسوية الأزمة اليمنية أم تنتهي بإحكام سيطرة الحوثيين على البلاد؟
وما خيارات الإدارة الأمريكية للوصول إلى تسوية نهائية إذا نجحت في إقناع السعوديين بمسألة وقف حرب اليمن، وهل يمكن أن ينخرط الحوثيون في مفاوضات جدية تقوم على أساس قرار مجلس الأمن، الذي يعتبر الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيساً شرعياً للبلاد.
والآن بعد أن وفى بايدن بوعوده بأن الولايات المتحدة ستنهي دعمها للعمليات الهجومية للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، استجابة للانتقادات واسعة النطاق للحرب التي أفضت لأكبر أزمة إنسانية في العالم، ما الخطوات القادمة لإدارة بايدن في مواجهة أزمات هذا البلد العربي المعقدة، وهل تستطيع وقف حرب اليمن.
تاريخ الثورة اليمنية يشرح لنا نهج الحوثيين
كان رد الحوثيين على كل هذه المواقف الإيجابية الأمريكية التي تسعى للتقدم نحو وقف حرب اليمن وصولاً إلى إطلاق تسوية سياسية، مزيداً من التصعيد.
إذ أثبت التاريخ الحديث لليمن أن الحوثيين مساومون ماهرون أكثر من كونهم مفاوضين جادين، وأنهم انقلبوا على حلفائهم مثلما فعلوا بالثورة اليمنية التي استغلوا حالة التفاؤل المثالية التي تميزت بها السيولة التي خلقتها، ليمارسوا خدعة ماكرة بحق الثوار والنظام المؤقت الذي خلف نظام عدوهم علي عبدالله صالح.
فبدلاً من أن يتعاون الحوثيون مع الثورة التي أطاحت بالرئيس اليمني السابق، علي عبدالله صالح، والتي أنتجت تيارات ثورية متنوعة، من بينها قوى معتدلة، منها حزب الإصلاح اليمني المحسوب على الإخوان والذي بحكم الأيديولوجيا غير مُعادٍ للحوثيين الذين ينتمون للمذهب الشيعي الزيدي مثل السلفيين، فإنهم انقلبوا على هذه الثورة.
وتم ذلك عبر استغلال الحوثيين لأجواء الثورة لتنظيم احتجاجات على قرارٍ للحكومة اليمنية يقضي برفع الدعم عن المشتقات النفطية، ولكن سرعان ما تحولت الاعتصامات التي وصفت بالسلمية في بدايتها إلى اشتباكات بين الحوثيين، وقوات صالح من جهة، وقوات حزب الإصلاح وبعض الوحدات العسكرية اليمنية المؤيدة للثورة من جهة أخرى.
لم يتمكن الحوثيون من الوصول لصنعاء في عهد صالح، ولكنهم وصلوا في عهد الثورة عبر تنظيم اعتصام سلمي على أطرافها انتهى باجتياحها، وتشير تقارير إلى دور للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي والسعودية في تسهيل إجهاض الثورة من قِبل الحوثيين؛ لإضعاف الإخوان المسلمين، قبل أن تكشف الرياض وهادي أنهما طعنا نفسيهما بهذا العمل.
وتمثل هذه الواقعة نموذجاً واضحاً على أن نهج الحوثيين لا يخجل من استغلال الاحتجاجات والمفاوضات، وكل مظاهر العمل العنفي واللاعنفي لتحقيق مآربهم دون الاهتمام بإيجاد شريك في مكونات اليمن الأخرى، وهو أمر سيكررونه مع أي محاولات ترمي إلى وقف حرب اليمن.
المشكلة في الأزمة اليمنية تنبع من إطالة أمد الحرب والخراب الذي سببته، والإخفاق العسكري السياسي والعسكري السعودي قد غطى على حقيقة أن الحوثيين هم الذين بادروا بالاستيلاء على الحكم بالعاصمة صنعاء في توقيت كان يمكن أن يمثل لحظة تأسيسية ليمن جديد يجمع أبناءه، عن طريق تسويات على أساس سياسي وديمقراطي تعددي.
فهل يمكن تخيُّل أن جماعة الحوثيين التي وأدت هذه اللحظة التاريخية وتحالفت مع أعدائها ثم انقلبت عليهم حتى انتهى تحالفها مع علي عبدالله صالح بقتله، يمكن أن تقبل وقف حرب اليمن مقابل تقاسم للسلطة مع الآخرين في غياب ضغوط عسكرية عليها، ومع تزايد احتمالات تحقيقها انتصاراً عسكرياً في حال أوقف السعوديون تدخُّلهم بالبلاد.
وإن قبلت وقف حرب اليمن، هل تقبل تسوية تشمل حقوقاُ معقولة للأطراف الأخرى، التي سبق أن إنقلبت عليها.
يمثل هذا الواقع إرباكاً كبيراً لإدارة بايدن المدفوعة بالأساس، بغضب عالمي مستحق إزاء الوضع الإنساني في اليمن.
ويجعل هذا الوضع المعقد خيارات إدارة بايدن لمحاولة وقف حرب اليمن والتوصل لتسوية على أساس قرار مجلس الأمن مجرد أمنية، لن تتحقق.
بل يبدو أن حتى التزام إدارة بايدن بأمن السعودية الذي أكدته مؤخراً، أمر لن تستطيع لا واشنطن ولا الرياض ضمانه، إذا تذكَّرنا أن أول تحرش حوثي بالمملكة كان قبل سنوات من تدخُّل الرياض العسكري باليمن، عبر إطلاق صواريخ ضد أراضيها في خضم معارك مع الجيش اليمني لم تشترك فيها السعودية أصلاً.
ينظر الحوثيون إلى أنفسهم كأحفاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستندون إلى تاريخ طويل للمذهب الزيدي في اليمن وحكم الأئمة لهذه البلاد المنقسمة قبلياً، لتبرير رغبة جامحة وقناعة راسخة بأنهم الأولى بالحكم باعتباره إرثاً طبيعياً وشرعياً لهم، خاصةً أنهم يمثلون جناحاً متطرفاً من المذهب الزيدي متأثراً بالمذهب الشيعي الإثني عشري، وهو أمر يزيد عداءهم الغزيري للسعودية التي يرونها معقل السلفية المعادية للتشيع (حتى لو خففت الرياض طابعها السلفي بالسماح بالحفلات الغنائية)، مضافاً إليه شعور يمني عام بأن آل سعود قد سلبوا جزءاً من أراضي اليمن خلال إنشائهم للدولة السعودية الحالية.
كما أن هناك عاملاً آخر، يُصعّب من الوصول لتسوية مع الحوثيين، فلقد أظهر الحوثيون كفاءة عسكرية في مواجهة الجيشين الإماراتي والسعودي اللذين يعدان من أكثر الجيوش العربية تطوراً، مضافاً إليهما قوات الحكومة الشرعية التي تمتلك بعضها خبرة قتالية كبيرة، خاصةً بقايا قوات حزب الإصلاح.
وأظهر الحوثيون أيضاً قدراً كبيراً من الصمود والمهارة في مراوغة القصف السعودي والإماراتي عبر الاحتماء بتضاريس اليمن الوعرة، وهو القصف الذي لم يتحول إلى أداة ضغط فعالة حتى اليوم عليهم.
كما أثبت الحوثيون أن الخسائر البشرية لا تمثل عامل ضغط عليهم، ولا طول وقت الحرب، باعتبارهم يمثلون ذروة ثقافة مجتمع جبلي محارب منذ القدم، تزاوج لديهم الإرث القتالي بشعور بالمظلومية وروح آخروية تترجم في رفض تقديم تنازلات للخصوم بالدنيا (يباهي اتباع المذهب الزيدي المذهب على اتباع الجعفري بأنهم ثاروا على ظلم الأمويين عكس الجعفريين، بل إن تأسيس المذهب الزيدي يرجع بدايته إلى قيادة الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثورة في العراق ضد الأمويين أيام هشام بن عبدالملك).
ولكن الأهم أن الحوثيين كشفوا قدراً هائلاً من عدم الاكتراث بالأوضاع الإنسانية في اليمن ويحكمون سيطرتهم عليه رغم هذه الأوضاع، عبر خليط من القوة والطائفية وتحميل السعوديين وحلفائهم المسؤولية وبالأكثر تحميل أعباء الأزمة الإنسانية لمكونات الشعب اليمني غير التابعة لهم.
إضافة إلى أنهم لم يعانوا نقصاً في الأموال ولا الذخائر والأسلحة رغم الحصار البحري المكثف الذي يهدف إلى قطع الطريق على المدد القادم من الحليف الإيراني.
كل ما سبق يشير إلى صعوبة العثور على أدوات ضغط فعالة على الحوثيين تؤدي إلى وقف حرب اليمن بطريقة تفضي لتسوية مقبولة للسعودية وحلفائها وقطاعات واسعة من الشعب اليمني.
إضافة إلى كل ذلك فإن وقف حرب اليمن، هو أحد الأوراق في يد الإيرانيين في الملف النووي، الذي يريد بايدن فيه تحقيق مكاسب لا تقبلها طهران على مايبدو.
فكيف ستتعامل إدارة بايدن مع هذه الأزمة، وإلى ماذا ستفضي محاولات الرامية إلى وقف حرب اليمن وإيجاد تسوية سياسية.
نعم إدارة بايدن ستسعى إلى وقف حرب اليمن، ولكن كيف ستحل أزمته؟
يبدو أن هناك بعض التوجهات غير الرسمية التي تُطرح في الدوائر الأمريكية، تسعى إلى البحث عن سيناريو جديد، يفكر في أكثر من مجرد وقف حرب اليمن، وقد يشمل الاعتراف أو تطبيع الهيمنة الحوثية على اليمن، خاصةً الشمالي.
فموقع Responsible Statecraft الأمريكي بعد أن أشاد بقرارات بايدن ومنها تعيين تيموثي ليندركينغ مبعوثاً خاصاً للولايات المتحدة في اليمن، يشير إلى أن هذه التحركات من قبل الإدارة، وإن كانت تشكّل تطورات إيجابية واضحة في السياسة الأمريكية حيال اليمن، فإنها لا تعني أن الحرب المستمرة منذ ست سنوات، ستنتهي بين عشية وضحاها. إذ منذ اندلاعها في عام 2014، لا تنفك الحرب اليمنية تزداد تعقيداً بطرق مختلفة.
ويقول الكاتب البريطاني العربي عبدالعزيز كيلاني رئيس تحرير جريدة "شرق وغرب" الإلكترونية، في التقرير، إنه في الوقت الحالي، للحوثيين اليد العليا عسكرياً. وإذا أوقف السعوديون تدخُّلهم العسكري، فمن المرجح أن يصور المتمردون السعودية على أنها الخاسر في هذه الحرب. السعوديون، بدورهم، من المستبعد أن يقبلوا ذلك. ومع ذلك، فإن الرياض على ما يبدو، تبحث عن مخرج لها من اليمن.
وحتى لو كان السعوديون على استعداد لإنهاء حملتهم في اليمن، فهم من غير المرجح أن يعترفوا بهزيمتهم.
ويقول: "والحق أن السعوديين هم من أوقعوا أنفسهم في هذا المأزق. فعندما شنوا حملتهم في عام 2015، افترضوا أنهم سيسحقون الحوثيين بسرعة وسهولة. غير أن الحقائق على الأرض جاءت لتبيّن أنهم كانوا واهمين"، حسب تعبيره.
ويرى أن أي حل سياسي للحرب في اليمن لا يمكن أن يقتصر فقط على الحكومة والحوثيين، بل يجب أن يشمل جميع الفصائل السياسية الأخرى أيضاً مثل الحراك الجنوبي ونجل علي عبد الله صالح. بعبارة أخرى، المطلوب هو حوار وطني شامل وليس مجرد محادثات بين الحكومة والحوثيين، بحسب التقرير.
هل حان الوقت للاستعانة ببدائل جديدة عن قرار مجلس الأمن الدولي؟
منذ اندلاعها وحتى الآن، تغير اتجاه الحرب بدرجة كبيرة لصالح الحوثيين.
وهنا يتساءل كاتب التقرير حول ما إذا كانت إدارة بايدن ستمضي في السعي إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2216، لعام 2015، والذي اعترف رسمياً بهادي رئيساً لليمن، وطالب القرار الحوثيين باتخاذ عدة إجراءات، منها إعادة العاصمة صنعاء لسيطرة الحكومة، والتوقف عن استخدام البلاد قاعدة لمهاجمة الدول المجاورة، إضافة إلى التخلي عن جميع أسلحتهم الثقيلة.
وينقل التقرير عن هيلين لاكنر، الخبيرة في الشؤون اليمنية، أن القرار رقم 2216 قد عفى عليه الزمن تماماً وأمسى عاجزاً عن معالجة الوضع الحالي.
وترى لاكنر أن من المبادرات المفيدة التي يجدر بالرئيس الأمريكي الجديد اتخاذها تقديم حل لمجلس الأمن الدولي يعترف بالوضع الفعلي القائم على الأرض، أي حقيقة أن الحوثيين يسيطرون على 70% من المساحة المأهولة بالسكان في البلاد، وأنهم أنشأوا إدارة فعالة بالمناطق التي يحكمونها، حسب تعبيرها.
كما لفتت إلى أن حكومة هادي ليست الممثل الوحيد للقوى المناهضة للحوثيين. فهناك آخرون، منهم مجموعات انفصالية جنوبية [ليس فقط المجلس الانتقالي الجنوبي] وقوات طارق صالح نجل الرئيس علي عبدالله صالح، والعديد من القوى المحلية الأخرى. وتشير لاكنر إلى أن كل هذه الأمور يجب تضمينها ومناقشتها إذا أراد المعنيون بإنهاء الصراع أن يكون قرار مجلس الأمن أداة مفيدة تمكّن الأمم المتحدة من الاضطلاع بدور فاعل في محاولات حل الأزمة اليمنية.
قد لا تكون إدارة بايدن كانت تفكر عندما قررت رفع اسم الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية في هذا الخيار الذي يطرحه الكاتب، بل تسعى بالأساس إلى وقف حرب اليمن لإنهاء المعاناة البشعة لهذا الشعب عبر التوصل لتسوية تضم الحوثيين مع حلفاء السعودية، ولكن سياساتها على الأرجح سوف تؤدي إلى نتيجة مختلفة.
فالحوثيون كما بيَّن تاريخهم لا يقبلون شريكاً حقيقياً، وحتى لو خرجت السعودية وتركت البلاد وأصبح وقف حرب اليمن ممكناً، فعلى الأغلب سيبدأون في مهاجمة الرياص.
إذ لا يريد الحوثيون وقف حرب اليمن فقط، وتحقيق تسوية تشمل كل الأطراف، بل يريدون الهيمنة على اليمن الشمالي وحدهم، ووقف الحرب مع استمرار الأوضاع الإنسانية المزرية سيكون عبئاً عليهم حتى لو انتصروا، لأنهم لن يتمكنوا في هذه الحالة من تحميل الرياض وحلفائها مسؤولية هذا الوضع.
وهم على الأرجح هم مستعدون فقط لمشاركة شكلية ومحدودة من الأطراف الأخرى إذا كان المقابل دعماً خليجياً -لاسيما السعودي والدولي- لاقتصاد البلاد المنهار.
وحتى هذا الدعم لا يمثل أداة ضغط كبيرة عليهم، لأن تركيبة وظروف الحوثيين تجعلهم أكبر قدرةً وتبنّياً لأفكار الصمود والمقاومة والحصار التي تتبناها إيران وبقية أتباعها في المنطقة.
وها نحن نرى حزب الله الذي يحكم لبنان، البلد الذي اشتهر بحياته الأكثر ترفاً وانفتاحاً في الشرق الأوسط، يرفض شروط العون الدولي الذي جاءه على يد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنقاذ البلاد من الإفلاس، تارة لرغبته في تسمية الوزراء الشيعة وأخرى انتظاراً لفوز بايدن وإعادة التفاوض على البرنامج النووي الإيراني، وثالثة لضمان سيطرته على الحكومة وعدم المساس بسلاحه، ورابعة لمساعدة حليفه جبران باسيل على وراثة حماه ميشال عون في الرئاسة.
علماً بأن حزب الله ولبنان جزء من حضارة القرن الحادي والعشرين التي تجعل أبناءها لا يطيقون العيش في ظل حالة الإفلاس التي يمر بها لبنان، أما الحوثيون فهم جماعة جاءت من الجبال الوعرة في بلد معزول وفقير حتى قبل الحرب، وهم يحملون حساسيات وإشكالات تعود لقرون الإسلام الأولى، بينما لا يعنيهم من حضارة القرن الحادي والعشرين سوى الطائرات بدون طيار، الذين أثبتوا أنهم يجيدون التعامل معها جيداً.