تواجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن معضلةً وهي تعيد التفكير في تمركز القوات العسكرية حول العالم، وهذه المعضلة هي كيف تركِّز أكثر على الصين وروسيا دون التراجع عن تهديدات الشرق الأوسط طويلة الأمد، علاوة على إجراء هذا التحوُّل بميزانيات البنتاغون التي يُحتَمَل أن تكون أقل.
وبحسب وكالة Associated Press الأمريكية، فقد أمر وزير الدفاع لويد أوستن بمراجعة "الوضع العالمي" لمدة شهر، بعد أيامٍ فقط من توليه منصبه. وسيقيِّم وزير الدفاع السبل التي يمكن بها للولايات المتحدة أن ترتِّب وتدعم شبكتها من القوات المسلحة والقواعد والتحالفات لدعم السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن.
إعادة رسم مسار جديد للجيش الأمريكي
وتُعَدُّ المراجعة جزءاً من جهود الإدارة لرسم مسار الجيش الذي لا يزال عالقاً في صراعات الشرق الأوسط المتواصلة على مدار عقود، ويعمل بميزانيات ثابتة أو متراجعة، ويصارع مشكلاتٍ داخلية مثل العنصرية والتطرُّف.
وقد تكون لنتائج هذه المراجعة تأثيراتٌ طويلة الأمد على الأولوية الأولى للجيش، ألا وهي ضمان استعداده للحرب في عصر السيطرة المتزعزعة على الأسلحة. وعلاوة على ذلك، فإن العلاقات مع الحلفاء والشركاء على المحك، وأضعفها في بعض الحالات نهج إدارة ترامب "أمريكا أولاً" إزاء العلاقات الدبلوماسية.
ترتبط مراجعة أوستن ارتباطاً وثيقاً بقرارٍ إداري مُتعلِّق بشأن ما إذا كان يجب الوفاء بوعد الإدارة السابقة بالانسحاب الكامل من أفغانستان بحلول الربيع المقبل. وهي تتقدَّم بشكلٍ منفصلٍ عن القضايا الكبرى المتعلِّقة بتحديث القوة النووية الاستراتيجية.
الصين التحدي الأمني الأول لأمريكا
ومثلما كانت إدارة ترامب، ينظر فريق الأمن القومي لبايدن إلى الصين، وليس المتطرِّفين المتشدِّدين مثل تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، باعتبارها التحدي الأمني الأول على المدى الطويل. ولكن على عكس سلفه، يرى بايدن قيمةً كبيرةً في التزامات الولايات المتحدة تجاه الدول الأوروبية في حلف الناتو.
وقد يؤدِّي ذلك إلى تحوُّلاتٍ كبيرة في "البصمة" العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وأوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، رغم أن هذه التغيُّرات قد جُرِّبَت من قبل بنجاحٍ محدود. على سبيل المثال، شعرت إدارة ترامب بأنها مُضطرَّة لإرسال الآلاف من القوات الجوية والبحرية الإضافية إلى منطقة الخليج في عام 2019، في محاولةٍ لردع ما وصفته بالتهديدات على الاستقرار الإقليمي. وشهد بايدن تذكيراً بهذه المشكلة في الأيام الأخيرة بالعنف في العراق وأفغانستان.
وقد يعني هذا أيضاً تبني بايدن للجهود الأخيرة التي بذلها القادة العسكريون للبحث عن طرقٍ مبتكرة لنشر القوات، غير المرتبطة بالقواعد الدائمة التي تحمل تكاليف سياسية ومالية وأمنية. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك زيارة حاملة طائرات أمريكية لميناء فيتنامي. ويرى القادة قيمةً في نشر القوات في مجموعاتٍ أصغر في دوراتٍ أقل قابلية للتنبؤ لزعزعة التوازن لدى الصين.
وكانت تلميحات التغيير تطفو على السطح قبل أن يتولَّى بايدن منصبه. في ديسمبر/كانون الأول، تحدَّث الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، عن وجهة نظره الخاصة بأن التغيُّر التكنولوجي والجيوسياسي يتطلَّب إعادة التفكير في الطرق القديمة في تنظيم ومركزية القوات.
وقال ميلي إن بقاء القوات الأمريكية في حدِّ ذاته سيعتمد على التكيُّف مع صعود الصين، وانتشار تقنياتٍ مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وظهور تهديدات غير تقليدية مثل الأوبئة وتغيُّر المناخ.
وقال في مؤتمرٍ في واشنطن: "القوات الأمريكية الأصغر ستكون أفضل في المستقبل. القوة التي يمكنها البقاء هي الصغيرة غير الظاهرة تقريباً، والتي تكون في حالة حركة ثابتة ومُوزَّعة على نطاقٍ واسع".
وأشار أوستن إلى نقطةٍ مماثلة، لكن أضيق أفقاً، الشهر الماضي يناير/كانون الثاني، حول تمركز القوات الأمريكية في آسيا والمحيط الهادئ.
كتب أوستن رداً على أسئلة مجلس الشيوخ التي طُرِحَت مسبقاً في جلسة الاستماع لتأكيد منصبه: "ليس هناك شكٌّ في أننا بحاجةٍ إلى موقف أكثر مرونة وتوزيعاً لقوة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، استجابةً لقدرات الصين في مواجهة التدخُّل المضاد".
ماذا عن روسيا؟
وأشار أوستن إلى قلقه بشأن التنافس مع روسيا في القطب الشمالي. وكتب: "تتحوَّل هذه المنطقة سريعاً إلى منطقة منافسة جيوسياسية، ولديّ مخاوف جدية بشأن التعزيزات العسكرية الروسية والسلوك العدواني في القطب الشمالي وحول العالم". وأضاف: "أنا قلقٌ بالمثل للغاية بشأن النوايا الصينية في المنطقة".
لا يعني هذا التخلي عن المراكز الكبيرة للجيش الأمريكي في الخارج، لكنه يشير إلى مزيدٍ من التركيز على نشر مجموعاتٍ أصغر من القوات في فتراتٍ تناوب أقصر وإلى وجهاتٍ غير تقليدية. وهذا التحوُّل جارٍ بالفعل.
يطوِّر الجيش على سبيل المثال ما يسميه بـ"لواء القطب الشمالي"، من الجنود، كجزءٍ من التركيز المتزايد على القطب الشمالي. ويُنظَر إلى هذه المنطقة باعتبارها نقطة اشتعالٍ مُحتَمَلة تتنافس فيها القوى الكبرى على الموارد الطبيعية التي يمكن الوصول إليها بشكلٍ أسرع مع انحسار الكتل الجليدية. وبالمثل، ترسل القوات الجوية لأول مرة قاذفات بعيدة المدى من طراز B-1 إلى النرويج، حليفة الناتو وجارة روسيا.
وتعتبر الصين نفسها دولةً في القطب الشمالي، لكن الشغل الشاغل للولايات المتحدة مع بكين هو تأكيد نفسها بصورةٍ متزايدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. من وجهة نظر الولايات المتحدة، تهدف الصين إلى بناء القوة العسكرية لردع أو منع أيِّ جهدٍ أمريكي للتدخُّل في تايوان، الديمقراطية شبه المستقلة التي تعتبرها بكين مقاطعةً منشقة يجب أن تعود في نهاية المطاف إلى الحظيرة الشيوعية.
ووصف تقريرٌ لمجلس العلاقات الخارجية هذا الشهر، فبراير/شباط، تايوان بأنها الشرارة الأكثر ترجيحاً للحرب بين الولايات المتحدة والصين، وهو احتمالٌ له عواقب إنسانية وخيمة. وقال التقرير إنه ينبغي أن يشغل هذا الاحتمال فريق بايدن. وذكر التقرير أن "ملايين الأمريكيين قد يموتون في الحرب الأولى في تاريخ البشرية بين دولتين نوويَّتين".
وأعربت واشنطن عن قلقها بشأن جهود الصين لتحديث ترسانتها النووية، وربما توسيعها، بينما ترفض المشاركة في أيِّ مفاوضاتٍ دولية للحدِّ من الأسلحة النووية.