شهد عدد سكان منطقة الخليج تراجعاً ملحوظاً مؤخراً جراء توسع ظاهرة رحيل الوافدين من الخليج، بسبب تداعيات جائحة كورونا، وسط تساؤلات حول الآثار الاقتصادية لهذا الخروج الكبير للعمالة على اقتصادات المنطقة.
وتسبب تفشي فيروس كورونا في انخفاض أسعار النفط، جراء قلة الطلب عليه عالمياً، ما أثر على الموازنات الخليجية التي تعتمد بمعظمها على عوائده، بالإضافة إلى الإغلاق الاقتصادي الذي استمر عدة أشهر، وتسبب في خسائر فادحة للشركات والمؤسسات الخليجية التي تعتمد بمعظمها على العمالة والخبرات الوافدة.
وعانت اقتصادات الخليج إثر انهيار أسعار النفط بين عاميّ 2014 و2016. ثم جاءت جائحة فيروس كورونا مطلع عام 2020 متزامنةً مع أزمة انهيار أسعار النفط لتجبر صناع القرار في بعض الدول الخليجية على التصرّف سريعاً وفرض ضرائب لم يكن من الممكن تصوّرها، كمحاولة لحماية الوضع المالي للبلاد.
الآثار الاقتصادية الناتجة عن رحيل الوافدين من الخليج
وقالت وكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال" للتصنيفات الائتمانية إن اقتصادات دول الخليج عانت من خسائر في التعدادات السكانية نتيجة رحيل الوافدين من الخليج، محذرةً من أن تدفق العمالة الوافدة إلى الخارج قد يعقِّد أهداف التنويع الاقتصادي على المدى البعيد.
وبحسب تقرير نُشر الإثنين 15 فبراير/شباط، فإن السكان في دول مجلس التعاون الخليجي انخفضت أعدادهم بنسبة 4% في العام الماضي. ويقدم التقرير واحدةً من أولى اللمحات التي تسبر أغوار الديناميكيات الديموغرافية الإقليمية خلال جائحة كورونا.
ومن المنتظر أن تتراجع نسبة الأجانب أمام نسبة المواطنين عند الوصول إلى عام 2023 "بسبب النمو الخافت للقطاع غير النفطي والسياسات المتعلقة بتوطين الوظائف"، وذلك وفقاً لمحللي الائتمان لدى وكالة ستاندرد آند بورز، وعلى رأسهم المحللة ذهبية جوبتا.
واستبعدت ستاندرد آند بورز أن يعود العدد الكلي لسكان دول مجلس التعاون الخليجي إلى مستوى 2019 البالغ 57.6 مليون نسمة قبل 2023.
وأشارت تقديرات ستاندرد آند بورز إلى أن أكبر تراجع في عدد السكان، حدث العام الماضي، كان في دبي، مركز الأعمال بالشرق الأوسط، حيث أدى تأثير الجائحة على قطاعات توظيف رئيسية مثل الطيران والسياحة والتجزئة إلى انخفاض السكان بنسبة 8.4%.
وفي ذروة جائحة كورونا، سجّل مئات الآلاف من المهاجرين، وأكثرهم آسيويون، طلبات لإعادتهم إلى دولهم حسبما تفيد الأرقام لدى سفارات بلدانهم في دول الخليج، حيث تفشى فيروس كورونا بين العمال الأجانب من أصحاب الدخل المنخفض الذين يعيشون في مساكن مكتظة.
ويمثل نحو ملايين الأجانب (مع أسرهم) العمود الفقري لاقتصاد الخليج، ولكن في الوقت ذاته يشكو المواطنون، ولاسيما الشباب من البطالة، كما تكافح الحكومات لسد عجز الموازنات الناتج عن انخفاض الإيرادات النفطية بسبب تأثر نشاط الاقتصاد العالمي جراء جائحة كورونا.
وبلغ عدد سكان دول الخليج نحو 57.4 مليون نسمة في أحدث الإحصائيات الرسمية التي أعلنها مركز الإحصاء الخليجي التابع لمجلس دول التعاون لدول الخليج العربية، في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020.
وتختلف التقديرات بشأن عدد العمالة الأجنبية في دول الخليج، فبينما تشير بعض التقديرات إلى أن عددهم قبل الأزمة كان نحو 20 مليوناً، تصل تقديرات أخرى بعددهم إلى أكثر من 30 مليوناً (مع أسرهم).
وتشير إحدى التقديرات إلى أن إجمالي عدد الأيدي العاملة في دول المجلس 20 مليون عامل، وأن عدد العمالة الوافدة 13.86 مليون عامل، ويرتفع العدد إلى 24 مليونا، بعد إضافة أفراد الأسر؛ ما يعني قرابة نصف سكان دول الخليج، والبالغ عددهم نحو 50 مليون نسمة تقريباً، في حين لا يشمل هذا الإحصاء أرقام دولة الإمارات التي يوجد بها واحدة من أعلى نسب العمالة الأجنبية في المنطقة.
هذا الخيار قد يقلص إيرادات الحكومات
ويبدو تقليل العمالة الوافدة خياراً أسهل سياسياً من فرض ضرائب أو تقليل الامتيازات المالية للمواطنين.
ولكن خيار تقليل العمالة لا يخلو من أضرار.
فإنتاجية دول مجلس التعاون الخليجي، ومستويات الدخل، والتنويع الاقتصادي قد تركد على المدى الطويل بدون وجود استثمار كبير في رأس المال البشري الخاص المتمثل في السكان المحليين، وإدخال تطويرات في مرونة سوق العمل، حسبما نقل تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية عن "ستاندرد آند بورز".
وتعتمد دول مجلس التعاون الخليجي الست، وهي السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين وعمان، اعتماداً كبيراً على العمالة الأجنبية في الصناعات المتنوعة، مثل البناء والتمويل. ويعتمد القطاع الخاص في المنطقة على العمالة الوافدة لتغطية حوالي 90% من القوة العاملة، وذلك بحسب ما أوضحته ستاندرد آند بورز.
وتفيد دراسات بأن أصحاب الشركات في الخليج يترددون في توظيف المواطنين لأنهم يعتقدون أن المواطنين يطالبون بساعات عمل أقل أو رواتب أعلى (39%)، كما يمكن أن يكونوا أقل تنافسية من حيث التدريب والخبرة (14.5%) بالإضافة إلى إمكان تفضيلهم العمل في مجالات معينة (10%).
وحذر خبراء الاقتصاد من قبل أن رحيل الوافدين من الخليج قد يقلص إيرادات الحكومات من الرسوم وضريبة القيمة المضافة ويبطئ جهود الإصلاح، بما يشمل خفض الإنفاق العام على الرواتب والدعم.
الخطر مازال طفيفاً على المدى المتوسط
برغم التحديات طويلة المدى، فإن "تسريع وتيرة التحول في سوق العمل" تشكل خطراً طفيفاً في الوقت الراهن"؛ نظراً إلى أن غالبية العمال الأجانب العائدين إلى أوطانهم كانوا يعملون في وظائف منخفضة الدخول"، حسبما ورد في تقرير ستاندرد آند بورز.
وقال المحللون في التقرير: "هذه التحولات الديموغرافية سوف يكون لها تأثير محدود على النمو الاقتصادي للمنطقة وعلى تقييماتنا لأداء دول مجلس التعاون الخليجي الاقتصادي في المدى القصير، مع بقاء إنتاج الهيدروكربونات وأسعارها المحرك الرئيسي".
ولكن رحيل الوافدين من الخليج على المدى البعيد يحتاج إلى خطط لإيجاد بديل لهم.
الحل لمواجهة أزمة رحيل العمالة الوافدة من الخليج؟
يحذر تقرير وكالة ستاندرد آند بورز من أنه إذا لم تصاحب عملية رحيل الوافدين من الخليج إصلاحات ضرورية فسيكون الضرر على المدى البعيد كبيراً.
ويحدد التقرير النقاط التي يجب مراعاتها مع استمرار سياسة تشجيع تقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية التي تؤدي إلى رحيل رحيل الوافدين من الخليج.
- إذا لم تُقابَل هذه التغيرات بإصلاحات اقتصادية واجتماعية تعزز رأس المال البشري، فيمكن أن تكون لها تداعيات على الاقتصاد الإقليمي في المدى الطويل، وتشكل تحديات إضافية على كاهل التنويع الاقتصادي بعيداً عن تقليل الاعتماد الكثيف لدول مجلس التعاون الخليجي على قطاع الهيدروكربونات".
- سياسات توطيف الوظائف يمكن أن تؤثر على النمو والتنويع إذا أعاقت الإنتاجية أو الكفاءة أو التنافسية.
- الميزانيات العمومية الحكومية القوية بجانب الرغبة والقدرة على تطبيق الإصلاحات التي تدعم قطاعاً خاصاً قوياً، سوف تكون جميعها مهمة للأنظمة الاقتصادية لدول الخليج على المدى الطويل.
وتشير دراسة أعدها مركز ذا كونفرنس بورد الخليج للبحوث الاقتصادية والتجارية، إلى الحاجة الماسة إلى خطط حقيقية لتطوير نظم التعليم والتدريب وبناء المهارات، وتنويع الأنشطة الاقتصادية في القطاعات التي تتميز بقدرتها على استيعاب العمالة الوطنية الأكثر مهارة، مقابل أجور أعلى نسبياً.
وأوصت الدراسة، التي تتكون من 3 فصول، صناع القرار في دول المنطقة، بدعم وتطوير قطاعات اقتصادية جاذبة للعمالة الوطنية، واستبدال أنظمة حصص العمالة الحالية، بحصص تأهيل وتدريب للمواطنين، وإعادة هيكلة التعليم، في ضوء متطلبات سوق العمل، وتعميق استخدام التكنولوجيا، بما يقلل من الحاجة إلى العمالة غير الماهرة، في مقابل زيادة الطلب على العمالة الماهرة والمتعلمة، وإشراك مجتمع الأعمال، والمؤسسات الأكاديمية، في رسم سياسات توطين الوظائف، ووقف تضخم القطاع العام، وإعادة التوازن للأجور بين القطاعين العام والخاص.