"اعتذار كامل عن فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر بأكملها".. أسباب رفض فرنسا الإقدام على هذه الخطوة تكشف الكثير عن الظلال التي لا تزال فترة الاستعمار تلقيها على السياسة الفرنسية الداخلية حتى اليوم.
بعد أن حصلت الجزائر عام 1962 على استقلالها من الاستعمار الفرنسي الذي كان قد بدأ عام 1830، تجاهل الخطاب الرسمي الفرنسي تلك الفترة تماماً، وظلت الحكومات المتعاقبة تلقي برأسها على ما وصفه المؤرخ الراحل بيير فيدال ناكيه "وسادة الصمت". ورسمياً، لم يُطلَق على ما حدث في الجزائر "حرباً" قبل عام 1999، وظلت "حرباً بلا اسم" لسنوات.
لكن أوائل العقد الأول من القرن الحالي شهدت انتهاء فترة الفقدان المتعمد للذاكرة، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى موجة جديدة من الدراسات التي سلطت الضوء على الجوانب الأكثر إزعاجاً في هذا الملف الاستعماري الأبشع، ولا سيما ممارسات التعذيب التي لجأ إليها الجيش الفرنسي المحتل. وبدأ الحديث عن الحرب داخل فرنسا بصورة لم تحدث من قبل، وهذه المرة كانت الشخصيات السياسية الرئيسية حريصة على الانضمام إلى هذا النقاش.
فافتتح الرئيس الفرنسي آنذاك، جاك شيراك، نصباً تذكارياً للقتلى من الجنود الفرنسيين والحركيين، لكنه تحدث أيضاً عن ماضٍ "لا يمكننا نسيانه أو إنكاره" في زيارة تاريخية إلى الجزائر.
تلاعب سياسي بقضية استعمار الجزائر
ومع تراجع اعتبار قضية استعمار الجزائر من المحرمات، أصبحت أكثر عرضة للتلاعب السياسي، وخاصة من جانب اليمين الفرنسي؛ إذ لطالما غذى حزب الجبهة الوطنية، الذي تغير اسمه لاحقاً إلى التجمع الوطني، الحنين إلى ما يشيرون إليه "بالصراع الفرنسي الجزائري"، وفي منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قرر حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" المحافظ ملاحقة الأصوات الانتخابية لليمين المتطرف عن طريق تبني نفس الخطاب.
وتجلت أولى علامات هذا التحول السياسي عام 2005، مع تبني قانون، دفعت به الأغلبية اليمينية، يطالب بتوفير مساحة كافية في المناهج الدراسية "للدور الإيجابي للوجود الفرنسي في الخارج"، لكن تم حذف هذه العبارة لاحقاً. وبعدها بعامين، نجح المرشح الرئاسي وقتها، نيكولا ساركوزي، في حملته الانتخابية التي حملت شعار "لا ندم"، مؤكداً أنه لا ينبغي لفرنسا أن تخجل من ماضيها الاستعماري، وأنها مَدينة معنوياً "للأقدام السوداء" عن معاناتهم.
وفي هذا السياق، يقول بول مورين، الباحث في جامعة ساينس بو، لمجلة Foreign Policy الأمريكية: "يكمن وراء هذا الإصرار على الأكاذيب المتعلقة بالجزائر نقاش حول الهوية الوطنية، وما يفترض أن تكون عليه فرنسا".
ثم سعى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون إلى تعريف ما يفترض أن تكون عليه فرنسا، حتى قبل أن يصبح رئيساً، بالاتجاه إلى الحديث عن "الحرب الجزائرية". فحين كان مرشحاً للرئاسة عام 2017، وصف الاستعمار بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وبعدها بعام، وهو رئيس، اعترف بانتشار ممارسات التعذيب والإعدامات خارج نطاق القضاء من جانب فرنسا خلال هذا الاستعمار. وبشكل أعم، سعى ماكرون إلى استغلال خطاب "الحرب الجزائرية" لتشكيل النقاش حول الهجرة في فرنسا، الذي ظل محتدماً منذ الاحتجاجات التي اندلعت في الأحياء الفقيرة المكتظة بالمهاجرين في البلاد عام 2005.
ولكن رغم استغلال اليسار أيضاً لقضية الجزائر واستعمارها في أجندته، على سبيل المثال للتأكيد على الروابط التاريخية بين فرنسا ومهاجريها من شمال إفريقيا، ما يزال اليمين هو من يرسم حدود هذا النقاش العام الذي انضم إليه ماكرون. ودفع المحافظون بأن الترويج للخير الذي جلبه الاستعمار الفرنسي من شأنه أن يساعد في دمج الشباب المهاجرين المحرومين من الحقوق، رغم أنهم أنفسهم نادراً ما يثيرون الحديث عن الجزائر. واليوم، لا يزال شعار "لا ندم" قانوناً أساسياً في السياسة الفرنسية: ويحرص الإليزيه على التأكيد عليه حتى بعد تلقيه تقرير ستورا، ما يدل على أخذه خطر ابتعاد الناخبين اليمينيين عنه على محمل الجد.
تقرير أغضب جميع الأطراف
وأعاد صدور التقرير الذي وجهت الحكومة الفرنسية بإعداده بهدف الخروج بتوصيات تساهم في حل الخلافات التي ما تزال قائمة داخل فرنسا من جهة وبشأن علاقاتها مع الجزائر من جهة أخرى ملف الاستعمار إلى الواجهة السياسية مرة أخرى.
وقدم مُعدّ التقرير، المؤرخ الشهير بنيامين ستورا، نصائح شملت اتخاذ الكثير من الإجراءات الرمزية، مثل إعادة سيف أحد أبطال مقاومة القرن التاسع عشر إلى الجزائر، ورفع الوعي بالاحتلال الفرنسي للجزائر، إذ قدّر ستورا أن حوالي 7 ملايين شخص يعيشون حالياً في فرنسا مرتبطين بماضي البلاد المتعلق بالجزائر، ويبدو أن قلة قليلة منهم، أو ممن هم في الجزائر، راضون عن تقريره النهائي.
فيُبدي كريستيان فينيش، رئيس جمعية Racine Pieds-Noirs، أسفه إزاء ما زعم أنه وقوع "فرنسا في فخ نصبته لها السلطات الجزائرية"، التي يزعم أن ستورا يسعى إلى استرضائها بإجراءات رمزية "تسير في اتجاه إبداء الندم والاعتذار" . ويرى الرجل البالغ من العمر 58 عاماً، الذي انتقل والداه من الجزائر إلى فرنسا قبل ولادته مباشرة عام 1962، أن الدولة الفرنسية تتجاهل مناقشات أكثر أهمية، مثل تعامل ديغول "الكارثي" مع هذه الحرب، بحسب تقرير فورين بوليسي.
كما انتقدت منظمة بارزة تمثل الحركيين توصيات ستورا لتجاهلها ما يطالبون به منذ أمد طويل، مثل الاعتراف الكامل بمسؤولية فرنسا عن نزع سلاح قواتهم وتخليها عنهم وتركهم تحت رحمة جبهة التحرير الوطني بعد انتهاء الحرب، واحتجاز من نجح في عبور البحر المتوسط منهم في مخيمات قذرة.
وفي الجزائر أيضاً، لم تُقَابل توصيات التقرير بحماس كبير، إذ دعا متحدث باسم الحكومة الجزائرية، دون الإشارة إلى التقرير صراحةً، فرنسا مؤخراً إلى الاعتراف "بجرائمها الاستعمارية".
وتأكيداً على هذا الموقف، رفض محند واعمر بن الحاج، الأمين العام بالنيابة للمنظمة الوطنية للمجاهدين، التي تمثل المحاربين في حرب التحرير، معظم هذه المقترحات، ووصفها بأنها "تفاصيل ثانوية".
وقال لمجلة فورين بوليسي: "الجيش الفرنسي غزا بلادنا وارتكب انتهاكات لا حصر لها. فصادروا أملاكنا واستغلونا واستعبدونا. ولم يأت التقرير على ذكر أي من هذا". ويؤكد بن الحاج أن الشيء الوحيد الذي قد يكون مهماً حقاً لم يكن قصر الإليزيه على استعداد لتقديمه يوماً: اعتذار كامل عن فترة الاحتلال الفرنسي بأكملها.
ماكرون يستغل ملف الاستعمار للهروب من مشاكل الحاضر
ويواجه ماكرون انتقادات بسبب مبالغته في التأكيد على الدور الذي ساهمت به الصدمات الجزائرية فيما أصبحت عليه فرنسا اليوم. ففي خطاب ألقاه عما زعم أنها "النزعة الانفصالية والتطرف الإسلامي" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أشار إلى أن الحرب الجزائرية من بين العوامل التي ساهمت، في رأيه، في رفض القيم الفرنسية من بعض أفراد المهاجرين.
وفي هذا السياق، يشي توقيت تقرير ستورا وجهود فرنسا الأخيرة لمواجهة ماضيها الاستعماري بالكثير؛ إذ أُعِدّ التقرير وسط موجة من الغضب والاضطرابات الشعبية، شبيهة بالتي شهدتها الولايات المتحدة، على خلفية انتهاكات الشرطة والعنصرية، ولم تكن حرب التحرير الجزائرية بالقطع من أولويات المتظاهرين يوماً. لكنها كانت كذلك بالنسبة لماكرون، في تأكيد على الدرجة التي لا تزال بها السياسة الفرنسية، بدءاً من اليمين وعبر الطيف السياسي بأكمله، أسيرة لشبح الجزائر.
وقال مورين الباحث في جامعة ساينس بو، لمجلة فورين بوليسي: "الخطوة السياسية الرئيسية التي اتخذها ماكرون بعد هذا التحرك الشعبي لم تكن إصلاح الشرطة، وإنما التكليف بإعداد تقرير عن الحرب الجزائرية". وأضاف أن هذا التكليف قد يكون أسهل من إصلاح القوات الأمنية، لكنه يدل أيضاً على القناعة الراسخة بأن أحداث فترة استعمار الجزائر "ما زالت تسمم المجتمع الفرنسي".