كشفت احتجاجات حركة المعارض أليكسي نافالني عن مدى عجز أوروبا في مواجهة روسيا، فهل أوشك الاتحاد الأوروبي على التفكك تماماً بسبب غياب سياسة خارجية موحدة تجمع بلاده؟
وكانت زيارة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية جوزيب بوريل لموسكو قبل أيام قد كشفت عن مدى "قلة الحيلة" التي تغلف الاتحاد الأوروبي في تعاملها مع روسيا منذ اندلاع موجة الاحتجاجات الحالية بقيادة نافالني الذي كان يعالج في ألمانيا من التسمم وتم اعتقاله لدى عودته إلى موسكو يناير/كانون الثاني الماضي.
اعتقال نافالني والحكم عليه بالسجن لمخالفته شروط خضوعه للإقامة الجبرية رغم تعرضه للتسمم بغاز أعصاب من الدرجة العسكرية واتهام أجهزة الأمن الروسية بمحاولة اغتياله أثار ردود فعل غاضبة من جانب الدول الأوروبية والولايات المتحدة والتهديد بفرض عقوبات على موسكو.
زيارة "المهانة" إلى موسكو
وفي هذا السياق جاءت زيارة بوريل إلى موسكو الأسبوع الماضي، في محاولة لإقناع السلطات الروسية بالإفراج عن نافالني تفادياً لفرض عقوبات، لكن ما حدث في المؤتمر الصحفي لبوريل مع وزير الخارجية سيرغي لافروف كان مفاجئاً للجميع لحد وصفه بأنه "مهانة" غير مسبوقة للاتحاد الأوروبي.
فقد شهد المؤتمر الصحفي تصريحات عدائية تماماً من جانب لافروف الذي وصف الاتحاد الأوروبي بأنه "شريك لا يمكن الاعتماد عليه أو الوثوق به"، بينما وقف بوريل صامتاً وعلى وجهه شبح ابتسامة تنم عن العجز، وهو ما أثار انتقادات عنيفة من جانب مسؤولين وبرلمانيين أوروبيين ألقوا باللوم على بوريل لأنه قرر من تلقاء نفسه القيام بتلك الزيارة.
لكن ما حدث في المؤتمر الصحفي لم يكن رد الفعل الوحيد من جانب موسكو، إذ قامت روسيا بطرد ثلاثة دبلوماسيين من ألمانيا والسويد وبولندا تزامناً مع وجود بوريل على الأراضي الروسية، بزعم مشاركتهم في الاحتجاجات على اعتقال نافالني.
وبينما كان بوريل في موسكو، أصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً قالت فيه إن الدبلوماسيين الثلاثة شاركوا في "احتجاجات غير قانونية" يوم 23 يناير/كانون الثاني. وردت ألمانيا وبولندا والسويد بالمثل بعد أيام من مناشدة روسيا التراجع عن قرارها، فقامت كل منها أيضاً بطرد دبلوماسي روسي من أراضيها.
أوروبا بلا سياسة خارجية موحدة
زيارة بوريل إلى موسكو وما صاحبها من جدل بشأن قدرة أوروبا على الوقوف في وجه روسيا لم تكن، في حقيقة الأمر، أمراً مفاجئاً أو نابعاً من فراغ، ففقدان الاتحاد الأوروبي لموقف موحد في قضايا السياسة الخارجية بشكل عام أمر ليس بالجديد بل يعتبر سمة أساسية صاحبت الاتحاد منذ تأسيسه، والسبب الرئيسي هو المواقف المتناقضة لكثير من أعضائه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، بحسب مراقبين.
ونشرت مجلة Politico الأمريكية تقريراً أعده كبير مراسليها السياسيين في أوروبا قال فيه إن زيارة بوريل إلى موسكو علامة فارقة تؤشر على نهاية الطموحات الجيوسياسية لأوروبا، وإن إعلان وفاة السياسة الخارجية الموحدة لأوروبا تم بالفعل خلال تلك الزيارة، بينما مراسم الدفن مؤجلة حتى ربيع العام الحالي وهو الموعد المحدد لانتهاء السفينة الفرنسية Fortuna من وضع الجزء الأخير من خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 على عمق 35 فرسخاً تحت مياه بحر البلطيق.
الاتحاد الأوروبي منذ البداية كان يركز على المسائل التنظيمية والتجارية بين أعضائه وإلغاء الحدود والعملة الموحدة وغيرها من الأمور الخاصة بتنظيم العلاقة بين أعضائه كسوق أوروبية مشتركة وغيرها من الأمور المشابهة، أما مواقف السياسة الخارجية فلم تكن أبداً نقطة قوة أوروبا ولن تكون على الأرجح بسبب تنوع واختلاف المصالح القومية لكل دولة على حدة.
ولو عدنا بالذاكرة إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، على سبيل المثال، نجد أن بريطانيا وكانت وقتها لا تزال عضواً في الاتحاد الأوروبي اتخذت موقفاً مطابقاً للموقف الأمريكي، بينما كانت ألمانيا وفرنسا لا تتبنيان الموقف نفسه وبالتالي شاركت بريطانيا ودول أخرى من الاتحاد الأوروبي في الغزو دون أن يتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً واضحاً وموحداً كما يفترض به أن يفعل.
روسيا تدرك نقاط ضعف أوروبا
من المهم التوقف عند تبرير بوريل لزيارته لموسكو وما كان يطمح لتحقيقه، إذ كتب منسق السياسة الخارجية للقارة العجوز لأن ذلك يكشف مدى الانفصال بين واقع الأمور وبين ما يدور في كواليس بروكسيل مقر الاتحاد الأوروبي، إذ قال: "عدت للتو من زيارة معقدة للغاية إلى موسكو حاولت خلالها مناقشة الحالة المتوترة للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا".
وأضاف بوريل أن غرضه من تلك الزيارة كان التعبير مباشرة للمسؤولين الروس عن "إدانتنا القوية" للأحداث المتمثلة في تسميم نافالني بغرض اغتياله ثم اعتقاله والحكم عليه واعتقال الآلاف من المتظاهرين، لافتاً إلى أنه أراد توضيح التداعيات الخطيرة التي تنتظر العلاقات الأوروبية الروسية إذا لم تتراجع موسكو عن تلك الإجراءات.
لكن ما لم يعبر عنه بوريل هو أن تلك الزيارة لم تظهر أكثر من مدى عجز الاتحاد الأوروبي عن مواجهة روسيا بشكل فعلي، لأن تسميم نافالني يرجع إلى أغسطس/آب الماضي والاتحاد الأوروبي هدد روسيا بالفعل في أكثر من مناسبة بضرورة إجراء تحقيق شفاف وتقديم المسؤولين عن محاولة الاغتيال للمحاكمة، ثم عندما أعلن نافالني عن نيته العودة إلى موسكو في ديسمبر/كانون الأول هددت مصلحة السجون الفيدرالية باعتقاله، وهنا أيضاً هدد الاتحاد الأوروبي بعقاب موسكو.
وعاد نافالني وتم اعتقاله مباشرة وأثار ذلك موجة احتجاجات غير مسبوقة ضد رجل روسيا القوي فلاديمير بوتين، وردت روسيا بالحكم على نافالني بالسجن واعتقال الآلاف من المحتجين، وتزامن ذلك مع رفض موسكو لأي تدخلات غربية سواء من واشنطن أو من الاتحاد الأوروبي في قضية نافالني، وهو ما يجعل زيارة بوريل غير مفهومة، بحسب المحللين.
وربما يتبادر إلى الذهن أن الاتحاد الأوروبي ينتهج "سياسة قائمة على المبادئ الدبلوماسية" بالفعل، بحسب وصف بوريل، في تعامله مع روسيا، وأن هذا هو السبب في تمهل الاتحاد الأوروبي قبل اتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه موسكو وتعاملها مع حركة نافالني الاحتجاجية، إلا أن استمرار العمل في خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 بين روسيا وألمانيا يشير إلى أن مسألة الاتفاق داخل الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على موسكو قد لا تكون محل إجماع.
وحتى في حالة فرض عقوبات جديدة على موسكو، التي تخضع بالفعل لعقوبات أمريكية وأوروبية منذ عام 2014 بسبب ضم موسكو القرم من أوكرانيا بالقوة، فإن الواضح أن موسكو لا تشعر بالقلق من تأثير أي عقوبات جديدة وبصفة خاصة من جانب الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو أن ما هو قادم لا يبشر بالخير لتجمع دول القارة العجوز، في ظل التباينات الكبيرة بين المصالح القومية لأبرز أعضائه، خصوصاً ألمانيا وفرنسا.