يبدو أن جيش ميانمار يحاول التحصن في العاصمة الجديدة التي أسسها لتكون ملاذاً من الاحتجاجات على انقلابه على الديمقراطية، ولكنه ليس الوحيد الذي فعل ذلك، فلقد أصبح إنشاء عواصم جديدة حلماً لكثير من الأنظمة المستبدة والديمقراطية على السواء.
ولأسباب مختلفة كثير منها غير معلن، تنتشر ظاهرة العواصم الجديدة والمُصمَّمة بحسب الطلب في أنحاء العالم، من أستراليا إلى البرازيل.
فكانبيرا أصبحت عاصمة مخططة لأستراليا في عام 1911، وحلت برازيليا، وهي مدينة مخططة أخرى، محل ريو دي جانيرو كعاصمة للبرازيل في عام 1960، حيث كانت في موقع أكثر مركزية من ريو دي جانيرو الساحلية.
وحتى العاصمة الأمريكية واشنطن كانت مُصمَّمة لوظيفة الحكم فقط، وبُنِيت لتكون في موقع وسط بين الشمال والجنوب الأمريكي المتنافسين.
تسعى بعض الدول لبناء عواصم جديدة مؤخراً أو بنتها بالفعل، بما في ذلك مصر وإندونيسيا وميانمار، وبينما يقول القادة إن الهدف هو التخلص من عبء الزحام، فإن كثيراً من المحللين يرون أن الهدف الحقيقي في الأغلب حماية الحكام من الشعب، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
ميانمار.. ستة أضعاف حجم نيويورك ولكنها خاوية على عروشها
اكتسبت نايبيداو سمعة سيئة لخلو طرقها السريعة بحاراتها المرورية الـ20، وفنادقها وملاعب الغولف والمنتجعات الصحية الفاخرة، إلى حدٍّ مخيف من البشر، وفقاً لصحيفة The Guardian البريطانية، ويبلغ حجمها 6 أضعاف مدينة نيويورك، وتقع في واحدة من أفقر دول جنوب شرق آسيا. ولَخصتها الصحيفة البريطانية في كلمة "نصب تذكاري لهرم القيادة".
ونايبيداو هي وليدة أفكار قائد جيش ميانمار السابق، ثان شوي، الذي تنازل عن الحكم في عام 2011 حين بدأت الدول تحولها الديمقراطي. ولم تُقابل تصريحات شوي بحاجة ميانمار إلى عاصمة جديدة بسبب الكثافة السكانية والازدحام المروري في العاصمة القديمة، يانغون، بأية معارضة علنية. لكن المحللين وصفوا القرار بأنه مدفوع بالرغبة في تأمين مقعد الجيش في السلطة ضد أي تهديدات من الاحتجاجات والغزوات.
لكن لم تُستَوطَن نايبيداو بالفعل. فبالرغم من أنَّ موظفي الخدمة المدنية أُمِروا بالانتقال إلى هنا، ورد أنَّ العديد منهم أبقوا عائلاتهم في يانغون. وبالمثل فَضَّل الدبلوماسيون وعمال الإغاثة الأجانب السفر إلى نايبيداو للاجتماعات بدلاً من الاستقرار هناك. ومع ذلك، تتمتع المدينة بجاذبيتها، مثل الإنترنت السريع وشبكة واي فاي واسعة النطاق- على الرغم من تعطيل الحكومة للإنترنت في معظم أنحاء ميانمار يوم السبت 6 فبراير/شباط.
وجاء تطوير المدينة بتكلفة باهظة، سواء المليارات التي يُزعَم أنها أُنفِقَت على الأبنية، أو المجتمعات التي قيل إنها هُجِّرَت من منازلها حتى يتمكن الجيش من بناء منازله الخاصة.
سيمثل صمود انقلاب ميانمار أمام الاحتجاجات المطالبة بعودة الديمقراطية، اختباراً حقيقياً لمدى نجاح فكرة العاصمة الجديدة في حماية القادة المستبدين من المعارضة الشعبية.
مصر.. العاصمة الجديدة مشروع السيسي الأكبر
منذ 10 سنوات، أدت احتجاجات ضخمة في شوارع مصر إلى الإطاحة بحسني مبارك، الذي استمر حكمه لفترة طويلة من الزمن. وخلال 18 يوماً من الاضطرابات، سيطر المحتجون على الكباري والميادين في العاصمة، القاهرة، وكان أهمها ميدان التحرير، قلب الثورة النابض.
وفي عام 2013، استعاد الجيش الحكم بتنظيم انقلاب إثر مظاهرات 30 يونيو/حزيران، حسب وصف الصحيفة الأمريكية.
والآن تحت حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، القائد العسكري السابق، يخضع ميدان التحرير لتأمين مكثف، وأُزيلَت أية آثار لماضيه الثوري: ففي محل مخيمات الاحتجاج، تقف الآن ساحة انتظار سيارات، ونصب تذكاري لأحداث 2011 شيده الجيش.
وتعاني القاهرة من التكدس والفقر والتلوث. وتُشكِل العشوائيات الجزء الأكبر من المدينة. لكن بدلاً من توجيه الجهود نحو تحسين العاصمة الحالية وصيانتها، يخطط السيسي لنقل المقار الحكومية الإدارية والسياسية لمدينة جديدة تماماً تقع على بعد 30 ميلاً (48.2 كيلومتر) من القاهرة، بمساعدة قروض من مستثمرين؛ مثل الصين والإمارات العربية المتحدة.
ويسرع هذا توجهاً قائماً بالفعل بإبقاء الفقراء من المناطق الحضرية- وشكواهم- منفصلين عن النخبة السياسية والاقتصادية في الدولة: إذ صارت تنتشر على أطراف القاهرة الأحياء الراقية، ومنها مدينة الإنتاج الإعلامي، حيث تُشجَّع النشاطات الإعلامية على العمل من هناك.
وهذا ما سيحدث بشكل أكثر فجاجة في العاصمة الإدارية الجديدة، فحسب ما ذكره مصدر مصري مطلع لـ "عربي بوست"، نقلاً عن مسؤول كبير في شركة العاصمة الجديدة "فإنه في الأغلب لن يكون هناك إسكان اجتماعي في العاصمة الجديدة (إسكان مدعوم للفقراء)، وإن وجد فسيكون بشكل رمزي. أما العمال والطبقات الفقيرة العاملون في المدينة فسيسكنون في الأغلب بمدينة بدر المجاورة للعاصمة الجديدة".
وارتبطت العاصمة الجديدة بالمشهد الشهير الذي يرفض فيه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الجدول الزمني الذي اقترحه رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار الذي تمتلك شركته خبرة كبيرة في مثل هذه المشروعات.
قال رجل الأعمال الإماراتي إن بناءها سيستغرق 10 سنوات.
ولكن السيسي الذي كان يقف بجانبه حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم اعتبرها وقتاً طويلاً: أريد الانتهاء منها أمس.
وانسحبت شركة إعمار الإماراتية من المشروع بعد إطلاقه بشهور، وفي فبراير/شباط 2017، أعلنت شركة العاصمة الإدارية أيضاً انسحاب شركة CSCEC الصينية من تنفيذ الحي الحكومي بالعاصمة، لكن عادت الشركة لتتفق مع مصر على تنفيذ منطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية والتى تضم 20 برجاً منها أعلى برج فى إفريقيا، بارتفاع نحو 385 متراً باستثمارات تصل إلى 3 مليارات دولار. وقالت الشركة الصينية إن جميع أعمال البناء فى العاصمة ستنتهى فى 3 سنوات ونصف كحد أقصى.
وتعرضت الجداول الخاصة بتعمير المدينة ومنها مواعيد نقل المقرات الحكومية إلى التغيير عدة مرات.
إندونيسيا.. عاصمة موجهة للجيران
تغرق جاكرتا، العاصمة الحالية لإندونيسيا، تحت وطأة الضغوط المتراكمة. إذ تعاني المدينة التي يزيد عدد سكانها على 10 ملايين نسمة من التلوث، والاختناق المزمن، والنمو السكاني الهائل. وأصبح هناك ضغط هائل على موارد المياه في المنطقة، جنباً إلى جنب مع التأثيرات الأخرى لتغير المناخ؛ مما أدى إلى غرق الأرض الموجودة تحتها حرفياً.
وفي عام 2019 أعلن الرئيس جوكو ويدودو عن خليفة مختارة: مدينة لم تُبنَ بعد في كاليمانتان بجزيرة بورنيو، على بعد أكثر من 620 ميلاً (1000 كيلومتر تقريباً) عن العاصمة الحالية. وبموجب خطته، ستظل جاكرتا المركز المالي والتجاري لإندونيسيا.
ستقع العاصمة الجديدة بجوار منطقتين غير مطورتين نسبياً، وهما كوتاى كيرتانيغارا وبيناجام باسر أوتارا.
من الشائع أن يتولى السياسيون مناصبهم بوعود بتنظيف الأشياء في العاصمة "لتجفيف المستنقع". لكن هذا الخطاب أكثر حرفية وأكثر تعقيداً في جاكرتا، التي يُنظر إليها على أنها "أسرع مدينة غارقة في العالم، مع ما يقرب من نصف مساحتها تحت مستوى سطح البحر"، حسبما أفاد كينيدي.
وقال ويدودو: "موقع العاصمة الجديدة استراتيجي للغاية– إنه في وسط إندونيسيا وقريب من المناطق الحضرية، كما أن الموقع الجديد معرض لاحتمال "ضئيل" لخطر حدوث كوارث طبيعية".
من خلال بناء عاصمة في مقاطعة كاليمانتان الشرقية في جزيرة بورنيو أكبر جزر البلاد، ستضع إندونيسيا عاصمتها الجديدة بالقرب من العديد من الجيران، فجزيرة بورنيو موطن لسلطة بروناي المجاورة، والثلث الشمالي لها هو جزء من ماليزيا، والأهم أنها أقرب للصين، الدولة التي تسعى جاكرتا للحد من طموحاتها البحرية وبينهما نزاع على عدة جزر رغم علاقتهما الوثيقة.
ولكن هناك مخاوف من موقع العاصمة الجديدة المحتملة لإندونيسيا، إذ تعد منطقة كاليمانتان موطناً لأنشطة التعدين الرئيسية وكذلك الغابات المطيرة، وهي من الأماكن القليلة التي يعيش فيها إنسان الغاب (نوع من القردة الضخمة) في بيئته الطبيعية.
وتقول الحكومة إن المدينة الجديدة ستُبنى على أراضٍ تابعة للدولة بالقرب من المراكز الحضرية القائمة في باليكبابان وساماريندا، ووعدت بأن يكون التأثير البيئي إيجابياً.
ونقلت صحيفة ساوث تشاينا مورنينغ بوست عن وزير التخطيط بامبانغ برودونجورو قوله: "لن نضر أي غابة محمية قائمة، بل سنقوم بإعادة تأهيلها".
ولكن هناك مخاوف من أن الخطة وما يترتب عليها من زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون على الجزيرة ستكون لها آثار بيئية خطيرة بما في ذلك مناطق الغابات المطيرة التي تعتبر إحدى رئات العالم.
وكان من المفترض أن تبدأ أعمال البناء في المشروع الذي تبلغ تكلفته 33 مليار دولار في عام 2021، لكن في أغسطس/آب، أوقفت الحكومة العمل، قائلة إنه كان عليها تركيز جهودها على الوباء بدلاً من ذلك. وبموجب الجدول الزمني الأصلي، من المتوقع أن يبدأ البيروقراطيون في الانتقال إلى العاصمة الجديدة في عام 2024.
ماليزيا.. مدينة مهاتير محمد التي لم يسكنها
وعلى نفس المنوال، بنت ماليزيا، لنفسها عاصمة إدارية جديدة تسمى بوتراجايا.
اقترح رئيس الوزراء الماليزي آنذاك مهاتير محمد نقل العاصمة الإدارية للبلاد من كوالالمبور في الثمانينيات، واختيار موقع يقع على بعد 25 كيلومتراً فقط جنوب العاصمة السابقة.
تم تسمية العاصمة الجديدة بوتراجايا على اسم أول رئيس وزراء للبلاد، تونكو عبدالرحمن بوترا الحاج ، وتم تصميم وبناء المشروع بالكامل من قبل الشركات الماليزية مقابل 8.1 مليار دولار.
بينما ظلت كوالالمبور العاصمة المالية والتجارية للبلاد، أصبحت بوتراجايا مقراً للحكومة. بدأت الوزارات والوكالات الحكومية الاتحادية الانتقال إلى هناك في عام 2003 وهو نفس العام الذي استقال فيه مهاتير من منصب رئيس الوزراء.
جميع الهيئات الحكومية تقريباً، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء والمقر الرسمي، موجودة الآن في بوتراجايا. شمل العمل في العاصمة الجديدة لماليزيا تطوير مرافق سكنية وترفيهية، وفتح مساحات مكتبية مع فتح مناطق لتطوير القطاع الخاص، مما يساعد منطقة كوالالمبور الكبرى على التحول إلى مركز للأعمال التجارية العالمية.
كوريا الجنوبية: بعيداً عن جبهة القتال
في عام 2002، استقطب مرشح الحزب الديمقراطي روه مو هيون، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية في ذلك العام، الناخبين في المقاطعات الواقعة في وسط كوريا الجنوبية مع تعهده بنقل بعض المهام الحكومية بعيداً عن سيول إلى المنطقة.
تعتبر سيول قريبة جداً من كوريا الشمالية، كما تعاني من الازدحام.
تأسست مدينة سيجونغ في عام 2007 كعاصمة إدارية. انتقلت المكاتب والوزارات الرئيسية تدريجياً إلى هناك، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء ووزارات المالية والتجارة والنقل ولجنة التجارة العادلة ودائرة الضرائب الوطنية.
تدرس كوريا الجنوبية الآن ما إذا كانت ستنشئ فرعاً للجمعية الوطنية في سيجونغ، والتي تبعد أقل من ساعة بالقطار فائق السرعة عن سيول.
كازاخستان: الخوف من الروس
كانت كازاخستان قد خرجت لتوها من عقود من الحكم السوفييتي عندما نقل رئيسها آنذاك نور سلطان نزارباييف عاصمة البلاد من ألماتي إلى أكمولا الأقل شهرة، التي غُيِّر اسمها منذ ذلك الحين إلى أستانا، ثم أعيدت تسميتها مؤخراً بنور سلطان. لكن لا تزال ألماتي أكبر مدينة في كازاخستان والمركز التجاري والثقافي للبلاد.
وعلى الصعيد الرسمي، برَّرت الحكومة هذه الخطوة بأنها وسيلة لزيادة الاستثمار في المناطق الداخلية في كازاخستان، وتجنب مدينة ألماتي المُعرَّضة للزلازل. لكن المحللين في ذلك الوقت قالوا إنَّ الهدف من ذلك هو تأمين عاصمة أقرب إلى منشآت إنتاج النفط في البلاد وزيادة عدد السكان من الإثنية الكازاخية في شمال البلاد في مواجهة أعداد السكان ذوي الأصول الروسية في شمال البلاد. ولأنه كان قائداً استبدادياً، لم يواجه نزارباييف أية معارضة.
غينيا الاستوائية: ملاذ من الانقلابات
يوجد في مدينة أويالا- العاصمة الاقتصادية الجديدة لغينيا الاستوائية- فندق خمس نجوم وملعب غولف، والأهم من ذلك بالنسبة للرئيس تيودورو أوبيانغ نغويما، عدم وجود أي شخص هناك لتحدي حكمه في بلد يعيش فيه أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر.
وفي عام 2017، نقل تيودورو أوبيانغ، الذي تولى السلطة لأكثر من أربعة عقود، رسمياً حكومة غينيا الاستوائية من العاصمة الساحلية مالابو إلى أويالا، المعروفة أيضاً باسم جيبوهو. وأفادت هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، بأنَّ المدينة التي ما زالت غير مكتملة، والتي تقع بين الغابات المطيرة والمتنزهات الوطنية تعمل منذ سنوات، ويحكم منها الرئيس، كونها تعتبر ملاذاً جذاباً بعيداً عن الانقلابات العسكرية أو التهديدات الأخرى لسلطته.