فيروس كورونا الذي أصبح وباء يهدد صحة الناس وحياتهم كشف مدى الانقسام الذي يشهده العالم بين القوى الكبرى وبين الحكومات والمعارضة والميليشيات المسلحة، وتوظيف الجميع للجائحة لتحقيق أهداف سياسية، فكيف قد تتحول اللقاحات لشكل من أشكال "الحرب البيولوجية" في الشرق الأوسط.
في ظل الصراعات المستعرة في الشرق الأوسط، تخشى منظمات الإغاثة وحقوق الإنسان أن تتحول لقاحات كورونا إلى أداة تستخدمها الحكومات والمعارضة والمجموعات المسلحة الأخرى المشتركة في تلك الصراعات لتحقيق أهدافها الخاصة.
وقالت آني سبارو، خبيرة الصحة العامة في كلية طب إيكان في ماونت سيناي في نيويورك لموقع شبكة Deutsche Welle الألمانية، إن استخدام اللقاحات بهذه الطريقة "شكل من أشكال الحرب البيولوجية غير المباشرة والسلبية".
وأضافت آني أن ذلك القلق نابع من تجارب سابقة حدثت بالفعل بشكل متعمد بدرجة كبيرة، إذ مع تحول الانتفاضة الشعبية ضد النظام السوري إلى مواجهات مسلحة، انتشر في منطقة دير الزور عام 2013 مرض انتهى في معظم دول العالم وهو شلل الأطفال.
فقد كانت سوريا نفسها قد تمكنت من القضاء على شلل الأطفال رسمياً عام 1995، لكن الباحثين الطبيين يقولون إنه في عام 2012 تعمدت حكومة بشار الأسد استبعاد المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة من حملات التطعيم الروتينية، التي كانت تنظمها في السابق. وكتبت آني حينها: "تفشي هذا المرض كان من صنع الإنسان". واليوم، ثارت مخاوف من حدوث الشيء نفسه مع لقاحات كوفيد-19.
النظام السوري والحرب الصحية
تقول سارة الكيالي، الخبيرة في الشؤون السورية في منظمة هيومن رايتس ووتش: "تنتابنا مخاوف كبيرة لعدة أسباب". إذ يراود المنظمة التي تعمل بها شعور بالقلق إزاء تدمير البنية التحتية في سوريا، وكل شيء، بدءاً من الاستهداف المتعمد للمستشفيات والعاملين في المجال الطبي، إلى نقص إمدادات المياه أو الكهرباء. كما تشعر هيومن رايتس ووتش بالقلق إزاء السياسة المرتبطة بإمداد سوريا باللقاحات.
وأضافت الكيالي أن عمليات الإغلاق الحالية والمحتملة للمعابر الحدودية القريبة من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، التي يعيش بها الملايين من المدنيين، تعني أن وكالات الإغاثة الدولية ستحتاج إلى تصاريح من حكومة الأسد لإدخال اللقاحات إلى هذه المناطق. وإذا تمكنت من الحصول على هذه اللقاحات فستضطر للسفر عبر دمشق على الأرجح. وأشارت سارة إلى أن هذا "ينطوي على قيود كثيرة".
وقالت الباحثة موضحة: "يصعب الاعتماد على الحكومة السورية، وهذا ليس بالأمر الغريب، فقد رأيناهم من قبل يستخدمون المساعدات لمعاقبة الناس".
على سبيل المثال، أشار تقرير أصدرته المنظمة الأمريكية "أطباء لحقوق الإنسان"، في ديسمبر/كانون الأول عام 2020، عن الرعاية الصحية في محافظة درعا السورية، إلى أن حكومة الأسد تحتفظ بقوائم سوداء، تستعين بها لحرمان الأسر التي تعتبرها غير موالية لها من المساعدات.
وفي أماكن أخرى من الشرق الأوسط، تستغل مجموعات متنازعة أخرى لقاح كوفيد-19 لتحقيق أغراضها الخاصة. يقول ليونارد روبنشتاين، الأستاذ في كلية جونز هوبكنز بلومبيرغ للصحة العامة في بالتيمور، إن استغلال الرعاية الصحية أداة في الصراع ليس بالأمر الجديد. وقال روبنشتاين لموقع Deutsche Welle: "كل ما في الأمر أن التركيز ازداد عليه هذه الأيام. وما يحدث في إسرائيل أحد الأمثلة على ذلك".
وفي هذا السياق لم تصدر منظمة الصحة العالمية أي إرشادات محددة بشأن موعد تطعيم نزلاء السجون، وهو قرار تقول المنظمة إن الدول الأعضاء والحكومات هي التي يجب أن تحسمه، وهو أمر يترك السجناء والمعتقلين في معظم الدول العربية ودول المنطقة، التي تحكمها أنظمة سلطوية، بغياهب النسيان، في ظل ظروف اعتقال قاسية ومناشدات دولية بمراعاة ظروف المعتقلين أو حتى الإفراج عنهم.
ولا توجد معلومات أو خطط معلنة من قِبل حكومات الدول العربية لتطعيم السجناء أو المعتقلين بلقاحات فيروس كورونا، ومنذ بداية الجائحة تحدثت تقارير عديدة عن وقوع مئات وربما آلاف الإصابات بين السجناء والمعتقلين بالسجون العربية، وتتعاظم حالة القلق في السجون، لأنه إذا أدخل زائرٌ أو سجين جديدٌ العدوى فإن فيروس كورونا قد يتفشى، وسط مجموعة غير قادرة على حماية نفسها، وعدم وجود أي مراعاة من قبل السلطات.
وتشتهر السجون في البلدان العربية والشرق الأوسط بالاكتظاظ، حيث يُكدَّس العشرات أحياناً في زنزانات قذرة، تجعل السجناء الذين يعانون فيها التعذيب وسوء التغذية وانتهاكات أخرى أكثر إنهاكاً وضعفاً. وقبل عدة أشهر تحدث تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" عن وفاة أعداد من السجناء والمعتقلين في مصر، جرّاء إصابتهم بفيروس كورونا.
الفلسطينيون واليمنيون وحروب اللقاح
كانت إسرائيل أسرع دولة في العالم توزع اللقاح على سكانها، وأرسلت جرعات من لقاح كوفيد-19 لمئات الكيلومترات إلى المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية، لكنها رفضت المساعدة في تطعيم أكثر من 2.7 مليون فلسطيني يعيشون حولها، ولم ترسل سوى 2000 جرعة إلى الأطقم الطبية الفلسطينية. وبحسب الأمم المتحدة، صدرت تعليمات في السجون الإسرائيلية بعدم تطعيم الأسرى الفلسطينيين أيضاً.
وتبرر إسرائيل ذلك بالقول إن اتفاقيات أوسلو، التي أبرمت في التسعينيات لتوفير إطار عمل مؤقت لحكم غزة والضفة الغربية، تُملي على الفلسطينيين تولي أمر احتياجاتهم الصحية. على أنه، وفقاً لمنتقدين، فاتفاقيات أوسلو تحوي بنداً أيضاً ينص على ضرورة تعاون الطرفين لمكافحة "الأوبئة أو الأمراض المعدية". وفضلاً عن ذلك، ينص القانون الدولي الإنساني على أن القوة المحتلة يجب أن تتحمل مسؤولية الرعاية الصحية لمن يعيشون تحت الاحتلال، لكن إسرائيل عادة ما تنكر أنها تحتل الضفة الغربية.
وفي اليمن، الذي يشهد حرباً منذ عام 2014، أعلنت الحكومة المعترف بها دولياً أن لقاحات كوفيد-19، التي وفرتها مبادرة كوفاكس التي تشرف عليها منظمة الصحة العالمية، ستصل في أبريل/نيسان أو مايو/أيار. والكمية المُسلَّمة قد لا تكفي أكثر من 20% فقط من السكان، لكن الحكومة تقول إنها ستوزع جرعات اللقاح في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، التي تقاتلها، أيضاً. والحوثيون يسيطرون على الأجزاء الوسطى والشمالية الأعلى كثافة سكانية في اليمن.
على أن جماعة الحوثي تتعامل بعدائية مع منظمات الإغاثة، فعلى سبيل المثال، لم تسمح لها بالوصول إلى المدنيين إلا بعد توفير الإمدادات الطبية للجرحى بين صفوف مقاتليها. ويُعتقد أن حظر حملات التطعيم والمعلومات المضللة هي المسؤولة عن تفشي شلل الأطفال أواخر عام 2020 في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وطلبت بعض الرموز الدينية من السكان المحليين الامتناع عن استخدام "لقاحات يصنعها اليهود والمسيحيون"، وقال وزير الصحة الحوثي في إحدى المرات إنهم سيطورون لقاحاً لكوفيد-19 بأنفسهم.
وفي الوقت نفسه، تعهدت السعودية، التي تدعم الحكومة في جنوب اليمن وتشن حرباً جوية على الانقلابيين الحوثيين المرتبطين بإيران، بالمساعدة في تمويل شراء المزيد من لقاحات كوفيد-19 لليمن. لكن التحالف الذي تقوده السعودية شن أكثر من 130 هجوماً على منشآت طبية في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي بين عامي 2014 و2019، وفقاً لأرشيف اليمن، الذي يوثق انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
مواجهة كورونا مسألة صحية وليست سياسية
وفي الوقت نفسه في ليبيا، من المقرر أن تستقبل الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس ما يقرب من 2.8 مليون جرعة من لقاحات كوفيد-19 من مبادرة كوفاكس. وحتى وقت قريب نسبياً، كانت ليبيا تحكمها حكومتان منفصلتان، واحدة معترف بها دولياً مقرها طرابلس العاصمة والمنطقة الغربية والأخرى في الشرق. لكن كلوديا غازيني، المحللة في شؤون ليبيا لدى مجموعة الأزمات الدولية، قالت إنها لا تعتقد أن اللقاحات ستُستخدم سلاحاً هنا: "الجانبان ينسقان جيداً فيما بينهما والعلاقات المؤسسية تتحسن"، وطرابلس هي المسؤولة عن تنظيم استراتيجية التعامل مع كوفيد-19 لكن العمل بها يجري من خلال ممثلين في الشرق.
ولا تشك خبيرة الصحة العامة آني سبارو في أن بعض الأطراف المشاركة في الصراعات الإقليمية المختلفة قد تحاول استخدام لقاح كوفيد-19 لتنفيذ أجنداتها الخاصة. وقالت لموقع Deutsche Welle: "ما أراه ضرباً من الحماقة أن الحكومات تضر بنفسها بامتناعها عن إعطاء الناس جرعات اللقاح. فلا يمكنك حماية بلدك في الواقع ما لم تحقن الجميع باللقاح في الوقت نفسه". وتختتم آني كلامها بالقول: "الفيروس لا يعنيه إن كنت فلسطينياً أم إسرائيلياً. مهمته الوحيدة أن يصيب الناس ويتطور".