الحكم على المعارض الروسي أليكسي نافالني بالسجن ليس مفاجئاً، لكن حجم الاحتجاجات التي اندلعت في 100 مدينة روسية تهاجم الرئيس فلاديمير بوتين فتح باب التكهنات حول تأثير ذلك الغضب على سلطة الرجل الذي يتحكم في مقاليد البلاد كأحد القياصرة لمدة عقدين من الزمان.
طبقاً للحكم الصادر بحق نافالني، الثلاثاء 2 فبراير/شباط، سيقضي المعارض في السجن مدة عامين وثمانية أشهر بعد احتساب الأشهر التي قضاها تحت الإقامة الجبرية وخصمها من العقوبة البالغة 3 سنوات ونصف، والتهمة التي أدين بها نافالني هي انتهاك الإفراج المشروط عنه.
ونافالني صحفي استقصائي يبلغ من العمر 44 عاماً، أصبح أحد أبرز منتقدي بوتين في العقد الأخير، وتعرض للتسميم الصيف الماضي بغاز نوفيتشوك، وهو غاز أعصاب من درجة عسكرية، واتهم نافالني وحكومات غربية الكرملين بالوقوف وراء التسميم.
وخلال علاجه في ألمانيا، أجرى نافالني اتصالاً مع أحد ضباط الاستخبارات الروسية، منتحلاً شخصية مسؤول كبير في الجهاز، مما ورط الضابط في ذكر تفاصيل عن عملية التسميم، وهو ما سبب إحراجاً لروسيا ولرئيسها بوتين، بحسب تقارير إعلامية.
شجاعة نافالني تلهم أنصاره
دفاع نافالني عن نفسه من خلف القفص الزجاجي المخصص للمتهمين شهد نوبات انفعال متكررة، كرر فيها المعارض اتهاماته لأجهزة الأمن الروسية بمحاولة قتله عن طريق تسميمه، لكنه ركز هجومه اللاذع نحو شخص بوتين نفسه، مستخدماً أوصافاً لاذعة: "إن أسلوبه الوحيد هو القتل. وعلى الرغم من أنه (بوتين) يزعم أنه سياسي عظيم، إلا أن التاريخ لن يذكره سوى كمسمم. ولدينا أليكساندر المحرر وياروسلاف الحكيم وبوتين مسمم الملابس الداخلية"، بحسب تقرير لرويترز حول جلسة المحكمة.
وعلى خطى نافالني سار أنصاره المتجمعون خارج المحكمة، حيث هتفوا بمجرد النطق بالحكم "بوتين لص!" و"بوتين قاتل بالسم!"، وهذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها رجل روسيا القوي مثل هذا الغضب الشعبي وهذا الاستهزاء غير المسبوق.
والواقع الآن هو أن نافالني قد تحول بالفعل إلى التهديد الأكبر لسلطة بوتين في البلاد بعد خروج مظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف في موسكو و100 مدينة روسية أخرى بعد عودة المعارض من ألمانيا منتصف يناير/كانون الثاني وتنفيذ السلطات الروسية تهديداتها واعتقاله وإيداعه السجن ومن ثم الحكم عليه.
وخلال الأسبوعين الماضيين اعتقلت قوات الأمن الروسية الآلاف من المتظاهرين، ولكن ذلك لم ينهِ التظاهرات، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن استراتيجية بوتين في التعامل مع نافالني، والتي قامت بالأساس على التقليل من شأنه وما يتمتع به من شعبية في روسيا.
هل تتأثر المعارضة بتغييب نافالني خلف القضبان؟
هذا السؤال هو الشغل الشاغل الآن للمتابعين لما يجري في روسيا، وهناك انقسام في الرأي بين من يرى أن الحركة الشعبية الداعمة لنافالني سوف تتأثر سلباً بغيابه وقد تتلاشى سريعاً، وفريق آخر يعتقد أن حبس نافالني سوف يحوله إلى "مانديلا روسيا" ويقوي من الحركة الداعمة له.
وقالت محامية نافالني أولغا ميكايلوفا إن المعارض سوف يخرج من السجن قبل مرور العامين وثمانية أشهر، لأنها تنوي تقديم استئناف على الحكم. وفي عام 2013 كان نافالني قد حكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات لكن تم إطلاق سراحه بعد يوم واحد من صدور الحكم.
لكن الخبراء يعتقدون أن الأمور مختلفة تماماً هذه المرة، حيث أصبح النظام في روسيا أكثر سلطوية وقمعاً، وأقل تسامحاً مع المعارضة بشكل عام، ومن غير المحتمل أن يتساهل مع نافالني تحديداً، وقالت إيرينا سوبوليفا خبيرة في جامعة ديوك، لموقع Vox الأمريكي: "إما أنه سيقضي فترة أطول في السجن أو أن يطلق سراحه بشرط أن يغادر روسيا بشكل كامل"، مضيفة أنه في كلتا الحالتين "حركته المعارضة سوف تتقلص بشكل كبير".
ويتفق معها آخرون في أن احتمالات نجاح حركة نافالني المعارضة في إحداث تغيير حقيقي تظل ضئيلة، وإن كان هناك بعض الأمل، فقد أصبحت تلك الحركة تمثل أسوأ كوابيس فلاديمير بوتين بالفعل بعد خروج الآلاف للتظاهر دعماً لنافالني وانتقاداً لبوتين، كثير من هؤلاء المتظاهرين يخرجون للشوارع للمرة الأولى، بحسب التقارير الواردة من موسكو.
وأدى اندلاع تلك التظاهرات واستمرارها حتى الآن إلى وصفها بأنها "كرة الجليد" التي قد تتضخم حتى تطيح بقيصر روسيا القوي، أي بوتين، لكن كل هذه تظل تكهنات في ظل عوامل كثيرة، أبرزها إرث بوتين نفسه الذي تولى المسؤولية في البلاد قبل 20 عاماً، وكانت روسيا وقتها شبه منهارة وأصبحت الآن قوة استعادت كثيراً من نفوذها اقتصادياً وعسكرياً، بحسب مراقبين.
فحزب بوتين السياسي "روسيا الموحدة" يتمتع بأغلبية ساحقة في برلمان الاتحاد الروسي، مما يمكنه من تطبيق أي سياسات يريدها أو تعديلات دستورية يريدها، وهو ما قام به مؤخراً بالفعل، حيث أدخل تعديلات دستورية تمكنه من البقاء في السلطة حتى عام 2036.
ويرى البعض أن الانتخابات الروسية المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل تمثل تحدياً لبوتين وحزبه في ضوء خروج تلك الآلاف المطالبة برحيل بوتين، وبالتالي فإن إسكات نافالني قبل تلك الانتخابات يمكن أن يساعد الرئيس القوي في استمرار الحفاظ على الأغلبية المطلقة، وبالتالي السيطرة المطلقة على روسيا.
وفي هذا السياق، يرى الفريق صاحب الرأي أن غياب نافالني خلف القضبان سوف يجعل من مهمة إسقاط بوتين الصعبة جداً في وجود المعارض مهمة شبه مستحيلة بالفعل في غيابه. وهذا الرأي عبرت عنه أنجيلا ستينت، مديرة مركز الدراسات الروسية في جامعة جورج تاون، بقولها: "حركة نافالني سوف تستمر، لكن بغياب زعيمها وعدم قدرته على التعبير عن الحركة بشخصه ستصبح مهمة الحركة غاية في الصعوبة".
نقطة أخرى أثارتها سوبوليفا من جامعة ديوك، هي أن استراتيجية حركة نافالني القائمة على فضح فساد النظام الروسي وترشيح معارضين لبوتين في مناصب حكومية تمت صياغتها في وقت كانت موسكو تسمح بوجود "معارضة تحت السيطرة". بمعنى أن معارضين يمكن أن يترشحوا ضد مرشحي الحزب الحاكم ويفوز بعضهم أيضاً طالما يوافقون ضمنياً على ألا يهددوا قبضة بوتين على السلطة أبداً.
لكن تلك الأيام قد تكون ولت إلى غير رجعة، بحسب سوبوليفا: "لا يوجد الآن سوى طريق واحد أمام بوتين وهو الهروب إلى الأمام والتحرك أكثر نحو مزيد من السلطة الاستبدادية".
هل يصبح نافالني "مانديلا روسيا"؟
لكن فريقاً آخر من المراقبين يرى أن هناك أملاً أمام حركة نافالني المعارضة رغم غيابه خلف القضبان، ومن هؤلاء إلينا بولياكوفا، رئيسة مركز التحليل الأوروبي في واشنطن، إذ قالت لموقع Vox إن فريق نافالني لابد أنهم خططوا بالفعل لما سيقومون به خلال غيابه الطويل: "من المؤكد أنهم كانوا يعرفون أن هذا سوف يحدث لدى عودته إلى روسيا".
ويعني هذا أن فريق نافالني ربما يكون لديه "ذخيرة أخرى للحفاظ على حماس حركته المعارضة"، مثل وجود فيديوهات أخرى تسبب إحراجاً لبوتين، على غرار الفيديو الذي تم بثه على قناة نافالني على يوتيوب حول قصر بوتين، حسب نافالني، رغم نفي الكرملين علاقة الرئيس بالقصر. وقد حقق الفيديو أكثر من 108 ملايين مشاهدة خلال أسبوعين.
وعلى الرغم من أن سجن نافالني سيتسبب في إسكاته، يوجد آخرون في دائرته المقربة وتحديداً زوجته يوليا تتمتع بشعبية هي الأخرى، بحسب مايكل ماكفول السفير الأمريكي لدى موسكو في الفترة من 2012-2014: "إنها شجاعة جداً وقوية وصاحبة مبدأ وملهمة". ويرى ماكفول أن يوليا يمكنها أن تلعب الدور الذي لعبته ويني مانديلا زوجة نيلسون مانديلا المناضل الجنوب إفريقي الأشهر عالمياً أثناء فترة حبسه التي استمرت أكثر من 27 عاماً.
لكن الشيء الذي يتفق عليه معظم الخبراء هو أن انتفاضة روسيا المطالبة بالديمقراطية بدأت فعلاً مع نافالني وارتبطت به، والسؤال الآن هو إذا ما كان غياب نافالني خلف القضبان هذه المرة سوف يكون سبباً إضافياَ في تقوية تلك الانتفاضة أم في بداية النهاية السريعة لها.
ويرى ماكفول أن "بوتين رفع نافالني إلى مرتبة الزعيم المفوه للمعارضة الروسية. وطالما بقى نافالني حياَ داخل سجنه سيستمر في لعب دور مركزي في السياسة الروسية لمدة طويلة، خصوصاً في مرحلة ما بعد بوتين".