لطالما عملت بيئة الأعمال في الصين في ظل "التسلسل الهرمي الشبكي" الذي تقوده الدولة، ويتربع الحزب الشيوعي الصيني، بالطبع، على رأس هذا الهيكل. وبدعم من المؤسسات المالية الحكومية والعديد من الأجهزة الحزبية الأخرى تلعب وكالة حزبية يديرها مجلس الدولة تسمى "لجنة مراقبة وإدارة الأصول المملوكة للدولة" (SASAC) أو "ساساك" دوراً مركزياً في تشغيل هيكل الأعمال من أعلى الهرم إلى أسفله في بكين.
وتدير SASAC الشركات الوطنية الصينية المملوكة بالكامل للدولة التي تتمتع بنفوذ كبير على شبكات التكتلات الممتدة للعديد من الفروع والشركات التابعة، الرسمية وغير الرسمية. وترتبط هذه الشبكات الكبيرة من خلال شراكات استراتيجية، ومشاريع مشتركة، ومقايضات الأصول، ولكن الآن لم يعد هذا التسلسل الهرمي للأعمال المترابطة من أعلى إلى أسفل يظهر فقط في البيئة المحلية الصينية، بل يتعداها لأبعد من ذلك بكثير.
على مدار السنوات الماضية استثمرت الصين بشكل كبير في تطوير البنية التحتية حول المواقع الاستراتيجية البحرية الرئيسية بين الهند والمحيط الهادئ، وكانت تلك الجهود "مثمرة للغاية" بالنسبة لها، من بين مواطئ قدم بكين المتسع في المحيطين الهندي والهادئ، تبرز جيبوتي في القرن الإفريقي، حيث تستضيف الآن أول قاعدة عسكرية صينية دائمة في الخارج، فكيف حوّلت الصين دولة جيبوتي إلى مركز استراتيجي متعدد الأغراض للتجارة والاستثمار والأنشطة العسكرية لها، باستخدام "رأسمالية الدولة"؟
شبكة من التجار وشركات الدولة الصينية تدير الأعمال في جيبوتي
صحيحٌ أنَّ الصين متسامحةٌ حتى الآن مع وجود بعض منافسيها الجيوسياسيين في جيبوتي، وأنَّ الحكومة الجيبوتية سعيدةٌ بالاستفادة من موقعها في جمع الإيجارات من أكبر عددٍ ممكن من القوى الخارجية، ولكن ليس جميع المستثمرين سواسية، إذ تتفوق الصين على غيرها بتمويل مشاريع البنية التحتية.
وأثار انتقال جيبوتي إلى موقع استراتيجي صيني مناقشات نشطة حول الآثار المترتبة على المنافسة الإقليمية وكيفية رد فعل الدول، ولكن الطريقة التي تمكنت بها بكين من تحقيق هذا التأثير المثير للإعجاب على مخطط التنمية في جيبوتي ربما لم تلقَ ما يكفي من تسليط الضوء. في جيبوتي كانت شركة China Merchants Group CMG، وهي تكتل عملاق تديره مباشرة "ساساك"، هي جوهر مشاركة بكين.
في السنوات الأخيرة تحوّلت جيبوتي إلى مركز استراتيجي متعدد الأغراض للتجارة والاستثمار والأنشطة العسكرية للصين. في هذه العملية لعبت شركة CMG بدعم حكومي وافر من بكين دورَ المستثمر والميسّر المهيمن. ويقول جيمس بارك الباحث بمركز الدراسات الصينية والأمريكية بجامعة جونز هوبكنز، في مقالة له بمجلة national interest الأمريكية، إن ظهور CMG لأول مرة في جيبوتي يعود إلى عام 2013، عندما أصبحت الشركة مساهماً بنسبة 23.5% في الشركة المملوكة للدولة الجيبوتية (Port de Djibouti SA) التي تدير ميناء جيبوتي.
وفي الصين، حقَّقت شركة CMG بالفعل نجاحاً كبيراً كمطور بارز للبنية التحتية البحرية. إذ حوّلت نماذج التطوير الخاصة بـCMG بلدة صيد صينية صغيرة في مدينة شنجن، إلى مدينة ساحلية متطورة للغاية تضم حديقة صناعية ومنطقة تجارة حرة، وحاز هذا الأمر إعجاب جيبوتي بشدة، وفي نهاية المطاف كان هذا النموذج الصيني بمثابة إطار لمشروع "بورت بارك-سيتي"، الذي تم تقديمه في "رؤية 2035" لجيبوتي، التي تم إطلاقها في عام 2014.
حضور مهيمن للشركات الصينية في مشاريع البنية التحتية بجيبوتي
منذ دخولها جيبوتي، شاركت CMG الصينية بشكل كبير في العديد من مشاريع التنمية حول منطقة ميناء جيبوتي، باعتبارها صاحبة المصلحة الرئيسية. ومن بين هذه المشاريع، فإن منطقة التجارة الحرة الدولية في جيبوتي (DIFTZ) التي تم إطلاقها، في يناير/كانون الثاني 2017، قد تمثل أفضل حضور مهيمن للشركة الصينية CMG في تطوير وتشغيل منطقة ميناء جيبوتي.
تتكون شركة "شرق عدن القابضة"، وهي شركة تم إنشاؤها خصيصاً لتشغيل DIFTZ، من اثنين من أصحاب المصلحة: الحكومة الجيبوتية (بحصة 40%) ومشروع مشترك بين 5 شركات صينية (بحصة 60%)، وكلها تابعة لساساك.
بينما يقال إن شركة CMG تمتلك أكثر من ثلثي الحصة الصينية البالغة 60%، إلا أن تأثيرها الفعلي قد يكون أكبر، حيث شكلت كل من CMG مع الشركات الصينية DPC وIZP المجموعة التحضيرية لمشروع منطقة التجارة الحرة في جيبوتي، ولعبوا معاً دوراً مهماً في تطوير المنطقة وتشغيلها، وتطوير البنية التحتية الرقمية فيها، بما في ذلك مركز بيانات كبير يغطي جميع أنحاء منطقة ميناء جيبوتي.
ووراء النفوذ الكبير لشركة CMG الصينية في جيبوتي، يوجد دعم كبير من الحكومة الصينية، حيث تم تمويل الغالبية العظمى من المشاريع التي تديرها CMG حول منطقة ميناء جيبوتي، بما في ذلك منطقة التجارة الحرة، ومحطة دوراليه والسكك الحديدية بين إثيوبيا وجيبوتي، من قبل بنك التصدير والاستيراد الصيني، وهو بنك تابع للدولة.
ومنذ دخول CMG إلى جيبوتي لم تكن الطريقة التي تتم بها الأعمال التجارية في جيبوتي بعيدة عن الطريقة التي تتم بها في الصين- تفاعل هرمي شبكي بين وكالة مالية حكومية، وبطل وطني تديره ساساك، والشركات التابعة لها، والشركات الأخرى التابعة لها، وهكذا.
احتكار صيني كبير يقطع الطريق على المنافسين الآخرين بالمحيطين الهندي والهادئ
في مارس/آذار 2018، أنهت الحكومة الجيبوتية من جانب واحد عقد تشغيل حالي لمحطة الحاويات "دوراليه" مع موانئ دبي العالمية ومقرها دبي، وقيل إنها سلمت حصصاً جزئية إلى الشركة الصينية CMG. بعد فترة وجيزة من رحيل موانئ دبي العالمية، جاءت شركة صينية أخرى، شريكة لـCMG لتتولى المهام الهامة في "دوراليه"، مثل تجارة الشحن.
وعلى الرغم من عدم التنازل عن المحطة لبكين، فإن "الملحمة" بأكملها أشارت إلى تحدٍّ كبير قد تواجهه واشنطن والجهات الفاعلة الأخرى في المحيطين الهندي والهادئ في المستقبل- احتكار صيني محتمل يؤدي إلى تقليل وصولهم حول المحطة، وفي نهاية المطاف منطقة ميناء جيبوتي الأوسع.
وكل هذا بفضل هيكل التسلسل الهرمي الشبكي الرأسمالي في الدولة الصينية، الذي مكّن بكين من تشكيل واستنساخ بيئة الأعمال المحلية وتكرارها في جيبوتي، ويبدو أن هذه الجهود قد حققت نجاحاً كبيراً. ومع استمرار توسع الوجود المحلي للجهات الحكومية الصينية وشبكتها في جيبوتي كنظام واحد، فإن التأثير الجيوستراتيجي لبكين هناك سوف يرتفع، بينما قد يشهد الآخرون باستمرار نافذة تضييق للفرص بالنسبة لهم.
في حين أن "دبلوماسية الديون" المزعومة لمبادرة الحزام والطريق كانت النقطة المحورية في خطط التوسع لدى العديد من المراقبين الصينيين، فقد لا تكون الطريقة الوحيدة التي تسعى بكين إلى استخدامها لتوسيع موطئ قدمها الاستراتيجي في المحيطين الهندي والهادئ.
وتمتلك بكين حصصاً في العديد من الموانئ الاستراتيجية الرئيسية حول المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك واحد في مدينة جوادر الباكستانية، حيث تُظهر بالفعل وجوداً جيوستراتيجياً صينياً كبيراً. ومع تقدم المزيد من التوسع الاستراتيجي الصيني في تلك المجالات قد يكون من المفيد الانتباه إلى الانكشاف المحتمل للتسلسل الهرمي الشبكي لرأسمالية الدولة.