يوصف الجيش الأمريكي بأنه أقوى جيش في التاريخ، ولكن رغم ذلك فقد خسر هذا الجيش العديد من الحروب منذ انتصاره في الحرب العالمية.
مع قرار إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الانسحاب من أفغانستان مع اتفاقه مع طالبان في محاولة لإنهاء أطول حرب في تاريخ أمريكا، يثار تساؤل كيف فشلت الولايات المتحدة في الانتصار على حركة كانت تحكم بلداً صغيراً بالمقارنة مع أمريكا، وتمتلك أسلحة متأخرة بشدة مقارنة بالجانب الأمريكي؟!
تتعلق الإجابات بما يؤمر الجيش الأمريكي بفعله أكثر من كيفية أدائه لواجبه، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
سر عدم انتصار الجيش الأمريكي في حروبه
أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل أمريكا لا يبدو أنها تكسب الحروب في العصر الحديث أنه عندما يتعلق الأمر بالقضايا المتعلقة بالحرب والسلام، فإن كل إدارة تقريباً منذ بيل كلينتون قد سنت سياسة خارجية سيئة. لا يقتصر الأمر على أن القوات المسلحة قد فشلت في إخضاع خصوم أمريكا، بل الأمر لأن الحكومة الأمريكية أمرت جيشها بمحاولة تحقيق ما لا يمكن تحقيقه- وهذا يضمن أنه لن ينتصر، حسب تعبير المجلة الأمريكية.
عندما تم نشر الجيش الأمريكي والقوات الحليفة له للقتال في عملية عاصفة الصحراء في 1990-1991، كان لدى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج إتش بوش هدف سياسي وعسكري واضح: "قوات صدام حسين ستغادر الكويت"، كما أعلن بوش ، و"الحكومة الشرعية للكويت ستعود إلى مكانها الصحيح، وستكون الكويت حرة مرة أخرى".
لقد حشدت الولايات المتحدة قوة ضخمة من جيشها وقوات التحالف (حوالي 500000 جندي أمريكي فقط)، وهزمت الجيش العراقي، وحققت الأهداف الأساسية التي أعلن عنها بوش، وانسحبت ما تبقى من قوات صدام إلى العراق. في غضون أشهر، ثم انسحبت القوات الأمريكية والقوات الحليفة ولم تتوغل داخل العراق.
كانت تلك آخر حرب انتصرت فيها أمريكا بالمعنى الكامل- وكانت آخر مرة أصدر القادة السياسيون للجيش الأمريكي أوامر محددة بأهداف عسكرية وسياسية يمكن تحقيقها.
بوش تجاهل درس والده الأهم
رداً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، قدم الرئيس جورج دبليو بوش مهمة واضحة ومحدودة وممكنة للعملية العسكرية الأولية. وأمرهم "بعرقلة استخدام أفغانستان كقاعدة إرهابية للعمليات ومهاجمة القدرة العسكرية لنظام طالبان". تم إنجاز ذلك بالكامل بحلول صيف عام 2002، وهنا بدأت العجلات في الانطلاق في الطريق العكسي.
وبدلاً من اتباع خطى والده وسحب القوات بعد الانتهاء الناجح للمهمة، ترك بوش حال الجيش الأمريكي يتدهور في أفغانستان، دون أي مهمة محددة، لمدة خمس سنوات غير حاسمة.
كان غزو بوش للعراق عام 2003 بالطبع كارثة بكل ما في الكلمة من معنى. حتى بعد خلع صدام لم تكلف القوات الأمريكية بمهمة متابعة من شأنها أن تشير إلى نهاية الحرب. لقد "قاتل الجيش الأمريكي مقاومة تلو مقاومة، وقام بمهمات تكتيكية متعددة، ما خلق ارتباكاً لقواته".
ثم في عام 2007، غير بوش الأهداف الجيش الأمريكي في أفغانستان، قائلاً إن المهمة الآن هي "هزيمة الإرهابيين وإقامة دولة مستقرة ومعتدلة وديمقراطية تحترم حقوق مواطنيها، وتحكم أراضيها بشكل فعال، وأن تكون حليفاً موثوقاً في الحرب ضد المتطرفين والإرهابيين". بعبارة أخرى: بناء الأمة الأفغانية حسب التصور الأمريكي.
هذه المهمة لا يمكن أن تتحقق عسكرياً. لم تكُن هناك أهداف عسكرية محددة يمكن تكليف لواء مشاة، على سبيل المثال بتحقيقها.
مثل هذه الأهداف السياسية الصريحة ليست حتى ضمن قدرة الجيش الأمريكي ولا أي جيش غالباً.
وأوباما فاقم المشكلة
فاقم أوباما المشكلة في أفغانستان، وضاعف أهداف بوش الرامية لبناء الدولة.
في عام 2009، عندما أمر بزيادة عدد القوات في أفغانستان، قال أوباما إن للبعثة ثلاثة أهداف: "جهد عسكري لتهيئة الظروف للانتقال؛ تعزيز الدولة المدنية؛ وشراكة فعالة مع باكستان".
الأمر الأول لم يتضمن أية مهام عسكرية قابلة للتحقيق. الشرطان الثانيان لم يكونا مهام عسكرية على الإطلاق.
كما أرسل أوباما الجيش الأمريكي للمساعدة في الإطاحة بالقذافي في ليبيا عام 2011 دون خطة لما سيأتي بعد ذلك، وأعاد القوات إلى العراق في 2014 وإلى سوريا في 2015، دون أي أهداف تتجاوز "مساعدة" العراق وقوات سوريا الديمقراطية.
وحذا ترامب حذوه بترك القوات في العراق وسوريا ودعم حرب السعودية في اليمن دون تقديم أي أهداف عسكرية قابلة للتحقيق. كانت نتائج كل واحدة من هذه العمليات هي أن الجيش الأمريكي تُرك فقط يقوم بـ"مهام تكتيكية" بدون أي استراتيجية ترمي للتوصل إلى نتيجة حاسمة.
لقد كان الجيش الأمريكي ناجحاً تقريباً في كل مهمة تكتيكية قام بها منذ عام 1990 (مع غارات ليلية فاشلة في بعض الأحيان وضربات صاروخية/بدون طيار خاطئة قتلت مدنيين أبرياء)، حسب المجلة الأمريكية.
لم تكن المشكلة عدم قدرة الجيش الأمريكي على النجاح في ساحة المعركة. كانت مشكلته أن الإدارات المتعاقبة استخدمت قوات الجيش بشكل غير لائق في محاولة لإنتاج ما لا يمكن تحقيقه. أعطى القادة السياسيون أهدافاً للجيش لحل المشكلات السياسية والمجتمعية التي لا تستطيع القوة العسكرية إصلاحها.
ودوماً تختار ساحة القتال الخاطئة
ولكن لا يمكن اختصار أسباب عدم انتصار أمريكا في عدم وضوح الأهداف الاستراتيجية التي يفترض أن يحددها القادة السياسيون للجيش الأمريكي.
ولكن أيضاً بسبب عدم تقييم قدرة الخصوم جيداً وفهم العوامل الجغرافية والنفسية والحضارية، فلقد تعسر الجيش الأمريكي الذي انتصر في الحرب العالمية الثانية في الحرب الكورية أمام قوات كوريا الشمالية والقوات الصينية الداعمة لها والتي أقل كثيراً من القدرات العسكرية الأمريكية.
ولكن في فيتنام كان الوضع أسوأ، ففيتنام لا تقارن في قدرتها العسكرية والاقتصادية بأمريكا، ولكن الأمريكيين تجاهلوا تأثير الطبيعة الجغرافية الوعرة من جبال وغابات، وقوة العقيدة الوطنية والأيديولوجية للشيوعيين الفيتناميين واستغلالهم كل ذلك في حرب عصابات لم تفلح القوة الأمريكية في وقفها.
وفي أفغانستان يتكرر الخطأ، صدق الأمريكيون دعاياتهم أن الأفغان سيرحبون بهم وسيقيمون دولة مدنية حديثة بواسطة أمراء الحرب، بينما ستدحر طالبان، متناسين الطبيعة الجبلية الوعرة والخلطة الدينية القبلية للشعب الأفغاني التي جعلت من الصعب إقامة حكومة وجيش قويين، ولكن جعلت أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات، وليس صدفة أن تكون أفغانستان الجبلية الفقيرة أول بلد يهزم الإمبراطورية البريطانية في ذروة قوتها في القرن التاسع عندما كانت تحتل الهند التي يبلغ عدد سكانها أضعاف أفغانستان.
وكرر الأمريكيون الخطأ نفسه في غزو العراق، فبعد أن هزموا الجيش العراقي في ذروة قوته في حرب تحرير الكويت، تصوروا أن المهمة ستكون سهلة بعد أن أصبح الجيش العراقي مجرد ظل أو هيكل عظمي لما كان عليه في أوائل التسعينيات، ولكن المفاجأة قاوم الجيش العراقي قليلاً عام 2003 وبعد أن انهار نظام صدام بدأت الحرب الحقيقية، وتجاهل الأمريكيون أن كراهية أغلب العراقيين لصدام لا تعني بالضرورة قبولهم الاحتلال، كما تجاهلوا التركيبة النفسية والاجتماعية والطائفية للعراق، مضافاً إليها ما توفره المدن من بيئة مثالية للمقاومين المحليين في تنفيذ هجمات لا تقل ضراوة عن أدغال فيتنام وجبال أفغانستان.
وبصرف النظر عن التكلفة الفادحة التي دفعت لعقود من سوء الاستخدام العسكري (والتكلفة الأكبر التي دفعتها شعوب البلاد المحتلة) جراء هذه السياسات فإن المجلة الأمريكية ترى أن الخطر أن الولايات المتحدة أمضت الكثير من الوقت والطاقة والتركيز على الحرب الصغيرة، مما أدى إلى تآكل المهارات القتالية الأساسية للجيش الأمريكي في الوقت الذي كان فيه عدواه المحتملان- روسيا والصين- يعملان على تحسين قدراتهما.
وتعلق المجلة قائلة: أفضل طريقة لضمان عدم اضطرار أمريكا لخوض حرب ضد إحدى تلك القوى النووية هي التأكد من أن قواتها التقليدية قوية وبالتالي ردع أي هجوم.
وتطالب المجلة بتعلم هذه الدروس المؤلمة من العقود القليلة الماضية وإنهاء نزعة الهزيمة الذاتية المتمثلة في إرسال الجيش الأمريكي لمحاولة إنجاز مهام غير قابلة للتحقيق عسكرياً.