منذ توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل برعاية واشنطن قبل نحو 43 عاماً، تميزت العلاقات المصرية-الأمريكية بالشد والجذب في إطار استراتيجي محدد وهو المعونة الأمريكية مقابل رعاية مصر لمصالح واشنطن في الشرق الأوسط، فهل تغيرت تلك العلاقة مع مجيء جو بايدن الآن؟
إذ بعد سنوات حكم الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر التي شهدت تقارباً مصرياً سوفييتياً وقطيعة مع الولايات المتحدة "رمز الإمبريالية"، جاء أنور السادات وغيَّر بوصلة تلك العلاقات من الشرق إلى الغرب تدريجياً وصولاً إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين القاهرة وتل أبيب برعاية واشنطن، والتي فتحت فصلاً لا يزال مستمراً في العلاقات بين مصر وأمريكا عنوانه "علاقات استراتيجية بين حليفين".
ويمكن القول إن توقيع معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية يوم 26 مارس/آذار 1979 بوجود الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجين والرئيس الأمريكي جيمي كارتر، مثّل البداية الحقيقية للعلاقات المصرية-الأمريكية، حيث بدأت واشنطن في تقديم معونة عسكرية لمصر قيمتها 1.3 مليار دولار سنوياً إضافة إلى 815 مليون دولار كمعونة اقتصادية، وأصبحت مصر منذ ذلك الوقت أحد حلفاء أمريكا الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط.
وتحت هذا الإطار الاستراتيجي، شهدت العلاقات بين البلدين فترات من الشد والجذب والمد والجزر لأسباب متنوعة، أبرزها في البداية كانت التحركات الإسرائيلية التوسعية والاستيطانية في المنطقة العربية، وصولاً إلى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي تم إجباره على ترك منصبه يوم 11 فبراير/شباط 2011 نتيجة لثورة 25 يناير/كانون الثاني التي أنهت 30 عاماً من حكم مبارك.
وكانت الأحداث التي شهدتها مصر منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تمثل في أحد جوانبها اختبارات متعددة للعلاقات المصرية-الأمريكية، إذ شهدت تلك الفترة تعليق إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما للمعونة الأمريكية لمصر في أعقاب انقلاب يوليو/تموز 2013 الذي أطاح خلاله الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي (وكان وقتها وزيرا للدفاع) بالرئيس السابق محمد مرسي الذي توفي في محبسه في 17 يونيو/حزيران عام 2019.
المعونة الأمريكية لمصر وقيمتها لواشنطن
وبما أن المعونة الأمريكية لمصر تمثل العامل الرئيسي في علاقة البلدين، فمن المهم التوقف عند أبرز المعلومات الخاصة بها؛ إذ تبلغ القيمة الإجمالية للمعونة أو المنحة التي لا تُرد من واشنطن إلى القاهرة سنوياً مبلغاً ثابتاً قيمته 2.1 مليار دولار، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية و1.3 مليار دولار معونة عسكرية.
وشهدت قيمة المعونة الاقتصادية تخفيضاً في مبلغها، على عكس المعونة العسكرية التي ظلت ثابتة دون تغيير، ففي 17 يونيو/حزيران عام 2014، قدم مجلس الشيوخ مقترحاً لخفض المعونة العسكرية إلى مليار دولار فقط، إضافة إلى تخفيض المعونة الاقتصادية إلى 150 مليون دولار، وكان ذلك في إطار الإجراءات العقابية التي اتخذتها إدارة أوباما بحق القاهرة في أعقاب الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي.
المقترح الذي قدمه الديمقراطيون كان رداً على مقترح آخر قدمه الجمهوريون في مجلس النواب وقتها ينص على عدم المساس بالمعونة العسكرية وتركها عند نفس المستوى، أي 1.3 مليار دولار سنوياً، وخفض المعونة الاقتصادية بواقع 50 مليون دولار لتستقر عند 200 مليون دولار فقط سنوياً.
وتكشف تلك الأرقام مدى التراجع في قيمة المعونة الاقتصادية التي كانت 815 مليون دولار سنوياً عندما بدأت مطلع ثمانينات القرن الماضي وصولاً إلى مستواها الحالي عند حدود 200 مليون دولار فقط سنوياً، في مقابل ثبات المعونة العسكرية، فما المقابل الذي تحصل عليه واشنطن من القاهرة حتى يتم التمسك بعدم تخفيض المعونة العسكرية رغم كل الظروف والتوتر في العلاقات؟
المحللون يستبعدون من الأساس أن تُقدِم واشنطن على خطوة قطع المعونة العسكرية لمصر، إذ تساعد تلك المعونة في الحفاظ على الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وتستفيد أمريكا من خلالها بكثير من المميزات الحيوية مثل السماح لطائراتها العسكرية بالتحليق في الأجواء العسكرية المصرية، ومنحها تصريحات على وجه السرعة لمئات البوارج الحربية الأمريكية لعبور قناة السويس، إضافة إلى التزام مصر بشراء المعدات العسكرية من الولايات المتحدة.
ويظهر تقرير عن مبيعات الأسلحة الأمريكية لمصر في الفترة من 1999 وحتى 2005 أن واشنطن قدمت حوالي 7.3 مليار دولار في إطار برنامج مساعدات التمويل العسكري الأجنبي، بينما أنفقت مصر خلال نفس الفترة حوالي نصف المبلغ، أي 3.8 مليار دولار لشراء معدات عسكرية ثقيلة أمريكية.
العلاقات في عهد ترامب
الواضح إذن أن العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن وفي القلب منها المعونة العسكرية الأمريكية لمصر -منذ بدأت مع توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل- لا تتأثر بالتجاذبات السياسية والتوتر الذي يطرأ على علاقات البلدين من وقت لآخر، وفي هذا السياق تعتبر رئاسة دونالد ترامب المنتهية مؤخراً ورئاسة جو بايدن التي بدأت للتو نموذجاً لدراسة تلك العلاقات.
إذ شهدت العلاقات المصرية-الأمريكية دفئاً ملحوظاً خلال سنوات رئاسة ترامب الأربع، وانعكس ذلك الدفء في العلاقة الوثيقة التي ربطت ترامب بنظيره المصري عبدالفتاح السيسي الذي زار البيت الأبيض مرتين خلال رئاسة ترامب، وكانت زيارة الرئيس المصري الثانية لواشنطن في أبريل/نيسان 2019 متزامنة مع إجراء القاهرة استفتاء على تعديلات دستورية هدفها الرئيسي بقاء السيسي في الحكم حتى 2034.
وخلال تلك الزيارة، وصف ترامب السيسي بأنه "رئيس عظيم يقوم بعمل عظيم في مصر"، وتجاهل الإجابة عن سؤال بشأن التعديلات الدستورية كما تجاهل ملف حقوق الإنسان في مصر بصورة تامة، رغم الانتقادات العنيفة لملف القاهرة الحقوقي منذ تولي السيسي الرئاسة عام 2014 من جانب المنظمات الحقوقية الدولية والحكومات الغربية وأيضاً من جانب الكونغرس الأمريكي نفسه.
ولم تشهد رئاسة ترامب حديثاً جاداً بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر أو ربط تقديم المعونة العسكرية بتحرك القاهرة للرد على تلك الانتهاكات والتخفيف منها، إذ لم يكن ملف حقوق الإنسان أو تعزيز الديمقراطية على أجندة الرئيس الأمريكي السابق من الأساس.
ففي أغسطس/آب 2019، وقُبيل لقائهما على هامش قمة "مجموعة السبع"، نقلت صحف ووسائل إعلام أمريكية أن ترامب وخلال وقوفه وسط عدد من المسؤولين الأمريكيين والمصريين، نادى بينهم بصوت عالٍ قائلاً: "أين ديكتاتوري المفضل؟"، في إشارة إلى نظيره المصري عبدالفتاح السيسي، وكانت تلك الحادثة إشارة إلى طبيعة العلاقة التي حظي بها السيسي مع ترامب، وهو ما اعتبره أمريكيون غض طرف من واشنطن عن أي انتهاكات قد تقع على يد النظام المصري. وطوال سنوات ترامب، كان السيسي يتمتع بعلاقات قوية ومتينة مع ترامب على الرغم من تعالي بعض الأصوات الأمريكية المنتقدة لملفات حقوقية في مصر وسجن عشرات آلاف من الناشطين والمعارضين.
وعلى النقيض تماماً وأثناء حملته الانتخابية أشار بايدن لتلك النقطة بالتحديد عند الحديث عن حقوق الإنسان في مصر، وأكد مراراً أن "اعتقال وتعذيب ونفي نشطاء مثل سارة حجازي ومحمد سلطان أو تهديد عائلاتهم أمر غير مقبول". وأضاف: "لا مزيد من الشيكات البيضاء للديكتاتور المفضَّل لترامب".
وهذا يعني أن الأمور قد تنقلب بصورة سيئة بالنسبة للقاهرة، ما يطرح سؤالاً بشأن خطوات النظام المصري استعداداً لإدارة بايدن المهتمة بحقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية.
مصر تستعد لأسئلة صعبة من إدارة بايدن
والواقع أنه بمجرد أن ظهرت المؤشرات على أن ترامب قد خسر الانتخابات لصالح جو بايدن، لم تضيّع القاهرة وقتاً، إذ كان الرئيس عبدالفتاح السيسي من أوائل القادة العرب الذين أرسلوا برقيات تهنئة إلى الرئيس الديمقراطي، رغم استمرار ترامب وقتها في مزاعمه بشأن كونه الفائز في الانتخابات.
وفي الوقت نفسه، وقَّعت الحكومة المصرية، من خلال سفيرها في واشنطن معتز زهران، اتفاقاً مع شركة Brownstein Hyatt Farber Schreck بقيمة 56 ألف دولار شهرياً، بهدف الدفاع عن "مصالح مصر" لدى الإدارة الأمريكية الجديدة. والشركة من شركات الضغط السياسي التي تعمل لشرح وجهات نظر حكومات أجنبية للمسؤولين في الإدارة الأمريكية، وتضم أعضاء سابقين بالكونغرس وكذلك مسؤولين سابقين، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
تحرُّك النظام المصري يشير إلى مدى القلق الذي تشعر به القاهرة تجاه الخطوات والإجراءات التي قد تتخذها إدارة بايدن الجديدة تجاه مصر بسبب ملف حقوق الإنسان، بعد أربع سنوات من تمتع النظام المصري بحماية تامة من جانب إدارة ترامب السابقة، كما رصد تقرير لموقع ساسة بوست عن مستقبل العلاقة بين القاهرة وواشنطن بعد وصول بايدن
وتواصل القاهرة إضافة مزيد من السياسيين والمشرعين الأمريكيين السابقين لقائمة المدافعين عنها والمتحدثين باسمها، ومنهم إيد هاريس الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب (جمهوري من كاليفورنيا)، ونديم الهاشمي الرئيس السابق لموظفي رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وغيرهما، بغرض تشكيل فريق، مهمته "توفير خدمات العلاقات الحكومية والمشورة الاستراتيجية" لمصر في المسائل المعروضة أمام الحكومة الأمريكية، بحسب ملفات وزارة العدل الأمريكية.
هذه التحركات التي تقْدم عليها القاهرة تجعل السؤال حول ما يمكن أن تشهده العلاقات المصرية الأمريكية في ظل إدارة بايدن مادة دسمة للتحليلات، ومن هذا المنطلق، من المهم التوقف عند بعض المحطات المشابهة للمحطة الحالية بين القاهرة وواشنطن.
هل يحدث تغيير في الطبيعة الاستراتيجية للعلاقات؟
إذ ضغطت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب على مبارك في ملف الديمقراطية بمصر في أعقاب إطلاق أمريكا حربها على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وما تلاها من غزو أفغانستان ثم العراق، ورفع الإدارة الأمريكية شعار التغيير في الشرق الأوسط. ونتج عن الضغوط الأمريكية على نظام مبارك وقتها إدخال بعض التعديلات الشكلية على نظام انتخاب رئيس الجمهورية، ليتحول من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر، وظل مبارك رئيساً بعد أن أُجريت الانتخابات الرئاسية وفاز بها رغم التقارير المحلية والدولية التي أشارت إلى تزوير تلك الانتخابات بصورة أو بأخرى.
وفي عهد إدارة أوباما وعندما اندلعت الثورة الشعبية بمصر في 25 يناير/كانون الثاني 2011، لم تتخلَّ إدارة أوباما عن مبارك إلا بعد التأكد من أن بقاءه في السلطة أصبح شبه مستحيل مع إصرار المتظاهرين على رحيله؛ وهو ما دفع أوباما إلى التخلي عن مبارك، الذي تنازل عن الحكم لصالح المجلس العسكري وقتها.
وعندما وقع الانقلاب في يوليو/تموز 2013، لم تتخذ إدارة أوباما إجراءات عقابية بحق مصر حتى أكتوبر/تشرين الأول 2013، حينما قررت تعليق جزء من المعونة العسكرية وفرض قيود على بيع معدات عسكرية أمريكية للنظام المصري كردِّ فعل على مواصلة النظام قمع الحريات واعتقال المعارضين الرافضين للانقلاب، خصوصاً مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية في أغسطس/آب من ذلك العام. وحتى ذلك الإجراء تم التراجع عنه من جانب إدارة أوباما في مارس/آذار 2015، تحت ذريعة حاجة مصر للسلاح الأمريكي لمحاربة الإرهاب.
وبالطبع مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض أصبحت العلاقات الأمريكية-المصرية في مرحلة قوية من التقارب، والآن مع تولي إدارة بايدن والقلق من جانب النظام المصري يصبح السؤال: هل تشهد تلك العلاقات تغييراً جذرياً في طبيعتها الاستراتيجية أم تغييراً شكلياً فقط، في شكل فتور مرت به تلك العلاقات من قبل وتنديد أمريكي بانتهاكات حقوق الإنسان؟
هناك فريق من المحللين يرى أن أهمية مصر الاستراتيجية في المنطقة بالنسبة للمصالح الأمريكية، تنبع بشكل أساسي من عدة عوامل، أهمها تحكُّم مصر في قناة السويس التي تمثل أهمية كبيرة لتحركات القوات الأمريكية في المنطقة، إضافة إلى المجال الجوي المصري، وكذلك علاقة النظام المصري الحالي القوية بإسرائيل، بجانب أهمية مصر كأكبر دولة عربية من حيث عدد السكان وما لها من ثقل جغرافي وسياسي وثقافي، وهذه العوامل مجتمعة تضع قيوداً على مدى الضغوط التي يمكن أن تمارسها إدارة بايدن على مصر. ومن ثم يتوقع أصحاب هذا الرأي أن تدخلات إدارة بايدن في ملف حقوق الإنسان وحرية التعبير والمسار الديمقراطي بمصر ستكون محسوبة وتنطلق من إطار الحفاظ على الإطار الاستراتيجي للعلاقات بين البلدين، أي أشبه بموقف إدارة جورج بوش الابن من نظام مبارك وإدارة أوباما من النظام الحالي.
وهناك فريق آخر من المراقبين يرى أن إدارة بايدن ستكون أكثر صرامة في الضغط على النظام المصري من إدارة أوباما، وهناك عدد من المؤشرات على ذلك، أبرزها القرار الذي اتخذته الإدارة بالفعل بشأن تعطيل صفقة مبيعات الأسلحة التي أقرتها إدارة ترامب للسعودية والإمارات، وهو ما يعني أن بايدن مستعد بالفعل للتحرك الجاد نحو وقف انتهاكات حقوق الإنسان من جانب الأنظمة الحليفة لواشنطن في المنطقة ومنها الرياض والقاهرة وأبوظبي.
والمؤشر الثاني هو قرار الإدارة بالتعليق المؤقت لحصانة رئيس وزراء مصر الأسبق حازم الببلاوي، المتهم بتعذيب الناشط المصري الأمريكي محمد سلطان، وهو مؤشر قوي على أن إدارة بايدن عازمة على مواجهة ملف انتهاكات النظام المصري الحالي لحقوق الإنسان، وهو ملف يرى كثيرون أنه غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.
ولا يستبعد أصحاب هذا الرأي استخدام واشنطن التلويح بوقف المعونة العسكرية لمصر كورقة ضغط على القاهرة، رغم أنها لن تكون المرة الأولى بالفعل التي تهدد فيها الولايات المتحدة بورقة المعونات، والسؤال بشأن مدى جدية إدارة بايدن في وقف تلك المعونة بالفعل وما قد ينتج عن مثل هذه الخطوة من تأثير على طبيعة العلاقات المصرية الأمريكية للمرة الأولى منذ توقيع معاهدة السلام، والأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.