أثار التعديل الوزاري الأخير الذي عرضه رئيس الوزراء التونسي، هشام المشيشي، على مجلس نواب الشعب للتصويت بمنح الثقة، جدلاً واسعاً في الأوساط النيابية والسياسية والإعلامية، بين من يرى فيه ضرورة مُلحَّة لتطوير الأداء الحكومي وبين من يعتبره رضوخاً من رئيس الحكومة لحزامه السياسي، وانحرافاً عن الأسس التي قامت عليها حكومة المشيشي والمتمثلة في الاستقلالية والكفاءة.
يأتي ذلك في سياق اجتماعي مليء بالاضطرابات والاحتجاجات المتصاعدة على أكثر من واجهة بسبب الوضعية الصعبة التي أصبحت عليها البلاد، بعد انسداد آفاق التغيير والتنمية وارتفاع نسب العاطلين عن العمل وضحايا إجراءات الغلق التي تطلبتها إجراءات مكافحة جائحة كورونا.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها رئيس الحكومة هشام المشيشي لإقناع حزامه السياسي بالتصويت على فحوى التعديل فإن مكونات من هذا الحزام أو "الوسادة" السياسية، مثلما اصطلح على تسميته مؤخراً، من لديه احترازات على بعض الوزراء الموجودين في قائمة التعديل الوزاري والذين ارتبطت بهم شبهات تضارب مصالح وفساد.
وما زاد الطينة بلّة، هو موقف رئيس الجمهورية قيس سعيد من التعديل الوزاري الذي أفصح عنه خلال اجتماع مجلس الأمن القومي بحضور رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي في الليلة التي سبقت جلسة التصويت على منح الثقة للوزراء المقترحين، إذ طعن رئيس الدولة في دستورية التعديلات الوزارية من ناحية عرضها على البرلمان قبل التداول حولها في مجلس وزاري، والأهم من ذلك أنه أعلن صراحة عن رفضه أداء القسم أمامه بالنسبة للوزراء الذين تعلقت بهم شبهات فساد.
الوزراء الجدد في ميزان الاستقلالية والكفاءة
تتكون قائمة الوزراء المقترحين للتعديل الحكومي من أحد عشر وزيراً من بينهم ثلاثة وزراء لسد الفراغات الحكومية الموجودة في وزارة البيئة والشؤون المحلية ووزارة الثقافة ووزارة الداخلية والبقية سيشغلون مناصب في وزارة الصحة ووزارة الطاقة والمناجم ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الفلاحة ووزارة التكوين المهني والتشغيل ووزارة الصناعة ووزارة التنمية الجهوية والاستثمار ووزارة العدل، وهو ما يعني أن ثلث الحكومة تقريبا سيتم تغييرها في التنقيح الوزاري المنتظر الذي تم عرضه على البرلمان التونسي لمنحه الثقة أو إسقاط هذه القائمة الوزارية إعادة تحويرها مرة ثانية بسبب شبهات الفساد وتضارب المصالح التي تحوم حول بعض عناصرها.
غياب الاستقلالية عند بعض الوزراء
هذه القائمة جوبهت برفض وانتقادات واسعة من الكتل النيابية والأحزاب المعارضة للحكومة، وهنا نذكر أساساً الكتلة الديمقراطية وحزب التيار الديمقراطي وحزب حركة الشعب وبعض المستقلين، وذلك لعدة أسباب يمكنها اختزالها في: أولاً، وجود وزراء داخل هذه القائمة قريبين من أحزاب سياسية موجودة في الحزام السياسي لرئيس الحكومة هشام المشيشي، وهم خصوصاً أسامة الخريجي وزير الفلاحة، ووليد الذهيبي وزير الداخلية، ويوسف الزواغي وزير العدل، المحسوبون على حركة النهضة. ووزير الطاقة والمناجم سفيان بن تونس ووزير الشباب والرياضة زكريا بلخوجة ووزير التكوين المهني والتشغيل يوسف فنيرة المحسوبون على حزب قلب تونس، وهو ما يتناقض، بحسب خصومهم من أحزاب المعارضة البرلمانية، مع المعايير التي قامت عليها الحكومة أساساً وهي الاستقلالية على الأحزاب السياسية والكفاءة والمهنية في مجال اختصاصهم.
شبهات فساد وتضارب مصالح
ثانياً، من المسائل الأخرى التي أثارت حفيظة معارضي التعديل الوزاري وحتى منتقديه من داخل هذا الحزام هي وجود شبهات تضارب مصالح وفساد لدى بعض الوزراء المقترحين والقريبين من حزب قلب التونس، أحد أهم داعمي هذه الحكومة ومن الوزراء الذين اختارهم المشيشي نفسه، حيث تحوم حول وزير الطاقة والمناجم، سفيان بن تونس، شبهة تضارب مصالح، بحسب ما نشرته منظمة أنا يقظ (منظمة حقوقية مهتمة بمكافحة الفساد).
على اعتبار أنه يرأس شركة Oscar Infrastructure Services التي تضم كذلك محمد الزعنوني بصفته نائب رئيس مكلفاً بالشؤون القانونية للشركة ومحامي رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي المسجون بتهم تتعلق بقضايا تهرب ضريبي وتبييض أموال، حسب ما ورد في نص بيان المنظمة. الوزير الثاني في قائمة المتهمين بشبهات تضارب المصالح والفساد هو يوسف فنيرة؛ حيث تعود شبهة تضارب المصالح المتعلقة بفنيرة عندما كان على رأس الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل إثر حصول شركةٍ ملك والدته و شقيقته على عقود مع الوكالة لتأمين جملة من التدريبات لفائدة إطارات وأعوان الوكالة.
أما الوزير الثالث في قائمة مَن تحوم حولهم شبهات فساد فهو وزير الصحة المقترح الهادي خيري المتهم بالتستر على جريمة قتل ارتكبها شقيقه وتغيير ملفات الطب الشرعي، إضافة إلى شبهات استغلال نفوذ وتحيل وتدليس وثائق ديوانية، بحسب تحقيق أجرته منظمة "أنا يقظ".
الملاحظ في الاحترازات على الوزراء المتهمين بالفساد وتضارب المصالح أنها لم تأتِ من اتجاه واحد، بمعنى أن مصدرها لم يكن من معارضي التعديل الوزاري فقط، بل وكذلك من داخل حزب حركة النهضة. فالأصداء القادمة من داخل أروقة الحركة تكشف عن عدم رضا قيادات من النهضة عن الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد.
وكان الوزير السابق والقيادي في الحزب، سمير ديلو، قد عبّر عن موقفه الرافض لاقتراح وزراء تتعلق بهم شبهات في منشور على صفحته الرسمية بالفيسبوك، جاء فيه خصوصاً "بعض الوزراء المقترحين تحوم حولهم شبهات بعضها جدّيّ.." وفي منشور آخر قال: "الثقة لا تمنح إلا لمن يستحقها ممن لم تتعلق بهم أية شبهات". وهو ما سيزيد في استعصاء مهمة المشيشي لإيجاد توافق حول وزرائه المقترحين ومنحهم الثقة عند التصويت أمام جلسة البرلمان أو، وهو الأقرب للواقع، إجراء تحوير على التحوير الوزاري المقدم بعد سقوط الوزراء الذين تعلقت بهم شبهات عند التصويت على منح الثقة بالبرلمان.
إقالة وزراء الرئيس والقطيعة مع قرطاج
أما بالنسبة للمسألة الثالثة التي أثارتها خطوة التعديل الوزاري، فهي أن التعديل استهدف ما تبقى من وزراء رئيس الجمهورية قيس سعيد داخل الحكومة (وزير العدل محمد بوسته ووزير الصحة فوزي مهدي..)، بعد أن سبق وأقال وزير الداخلية توفيق شرف الدين ووزير الثقافة وليد الزيدي المحسوبين على رئيس الدولة، والتي فهم منها خروج المشيشي على حكومة الرئيس وانسجامه الكامل مع حزامه السياسي الذي يدعمه، لينهي بذلك فصلاً من التجاذبات مع قرطاج فيما يخص التعيينات الوزارية وتأثير سعيد السياسي داخل الحكومة.
هذا التعديل من المتوقع أن يضع هشام المشيشي وفريقه الحكومي الجديد، إن حظي بثقة البرلمان ولم يقع تغيير في تركيبته، في مواجهة مع الرئيس قيس سعيد وديوانه الرئاسي الذي تديره نادية عكاشة، خصوصاً أن العديد من التعيينات الوزارية في حكومة المشيشي تُعزى لهذه المرأة لما لها من نفوذ داخل قصر قرطاج.
قيس سعيد لن يقف وحيداً إن حصل تصعيد أو مواجهة مع المشيشي وحزامه السياسي، إذ إن الرئيس تربطه علاقات قوية بأحزاب المعارضة البرلمانية (حزب التيار الديمقراطي، حزب حركة الشعب)، وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة اللقاءات التي جمعته مع قيادات ونواب عن هذه الأحزاب في قصر قرطاج سواء في علاقة بحادثة العنف التي حصلت في البرلمان والتي تم فيها الاعتداء على النائب أنور بالشاهد من قِبل نواب عن ائتلاف الكرامة، حيث استقبله سعيد شخصياً في قصر قرطاج مع مجموعة من نواب الكتلة الديمقراطية، وعبَّر له عن تضامنه معه وتنديده بالعنف. ومرة أخرى استقبل النائبة عن التيار سامية عبو لمساندتها في إضراب الجوع. وقبلها استقبل زوجها الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي محمد عبو لاستشارة في مسائل سياسية راهنة، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، لمؤسسة الرئاسة علاقات جيدة مع المجتمع المدني، وخصوصاً الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ما فتئ أمينه العام، نور الدين الطبوبي، يستشير رئيس الجمهورية قيس سعيد ويعلمه بأي خطوة رسمية تهم الشأن العام، وآخرها مبادرة الحوار الوطني التي تقدم بها اتحاد الشغل لمؤسسة الرئاسة وتفاعل معها سعيد إيجابياً.
وبالتالي فإن التعديل الوزاري ليس معزولاً عما يحصل من حوله من تجاذبات وتحالفات سياسية بين الحكومة في القصبة وحزمها السياسي والرئاسة في قرطاج والقريبين منها من المعارضة واتحاد الشغل والمجتمع المدني، الذين يبدو أنهم مستعدون للذهاب معه لآخر الطريق إذا ما حصلت مواجهة أو تصعيد من أي نوع بين مركزَي الحكم في البلاد.
مصير الحوار الوطني في ظل التعديل الوزاري
يأتي التعديل الوزاري المقترح بعد أسابيع قليلة من قبول رئيس الجمهورية بمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل لإجراء حوار وطني لإيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتنموية التي تعيشها البلاد، ومن ثم النقاش حول تعديل القانون الانتخابي والنظام السياسي في البلاد، الأمر الذي اعتبره متابعون للشأن السياسي محاولة من رئيس الحكومة هشام المشيشي ومن يقفه معه لقطع الطريق على هذا الحوار الذي ارتأى له سعيّد وجهة أخرى تتعلق حسبما قال بـ"تصحيح مسار الثورة".
إذن من المتوقع أن يتم خلال جلسات الحوار الوطني، مع مختلف مكونات المشهد السياسي، التطرق لأداء الحكومة ومردوديتها، ومن ثم البحث في توسيعها لتمثل أغلبية الأحزاب البرلمانية في شكل حكومة وحدة وطنية تهدف لإنقاذ البلاد من الأزمة العميقة التي إن بقيت دون معالجة وحلول عميقة متفق عليها من غالبية الطيف السياسي الوطني، فإنها ستجر البلاد لعتبة الإفلاس والفوضى. وقد رأينا إرهاصات هذه الأزمة في انفجار الاحتجاجات والاضطرابات الأخيرة التي شملت مناطق وأحياء عديدة من البلاد.
هذه الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها في الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة لتصل لسواحل البلاد وشمالها وتهدد السلم الاجتماعي الهش الذي تسعى القوى السياسية الموجودة في الحكم والمنظومة التي تقف وراءهم للمحافظة عليه حتى لا تتضرر مصالحهم. كما أنها تحمل رسالة قوية لكل مؤسسات الدولة بما فيها رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان بأن جماهير الشباب المهمش والعاطل عن العمل والمجهضة أحلامه في عيش كريم لن ينتظر تفاهمات السياسيين وحواراتهم وتعديلاتهم الوزارية، وبأن المبادرة صارت بيده ولن يقبل بالظلم بعد اليوم.