سلطت عمليات توزيع لقاحات كورونا على مستوى العالم الضوء على التفاوتات في الدخل والنفوذ العالمي، ولكن جاءت عملية توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط على الأرجح لتظهر تفاوتات أكثر فجاجة.
فعلى المستوى العالمي تستحوذ الدول الغنية على نصيب الأسد من التطعيمات، فيما تجاهد الدول الفقيرة للحصول على مجرد فرصة للاستمرار بعد فيروس كورونا.
والشرق الأوسط نموذج مصغر لتلك المشكلة العالمية، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
ولكن التفاوتات في توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط قد تكون أكبر من أي منطقة على مستوى العالم لأن هذه المنطقة تضم دولاً من بين الأغنى على مستوى العالم وأخرى دمرتها الحروب الأهلية وجعلتها دولاً فاشلة أو شبه فاشلة.
ففي حين كانت دول الخليج العربية الغنية بالنفط من بين أوائل دول العالم التي حصلت على اللقاح، تجد الدول التي مزقتها الحرب مثل اليمن وسوريا نفسها في مواجهة جداول زمنية مبهمة وبرامج توزيع لقاح معقدة، رغم أنهما من بين الدول الأكثر تضرراً من الفيروس.
توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط.. دول الخليج تتقدماً عالمياً
يظهر مؤشر واضح على التفاوتات الهائلة في توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط من بين أربعة بلدان تتصدر العالم في نسبة اللقاحات للسكان ثلاث دول من الشرق الأوسط، اثنتان منهما دول عربية، بينما يوجد دول أخرى في المنطقة ليس لديها خطط محلية للتطعيم، وتنتظر الوعود الخارجية.
والبلدان الأربعة التي تتصدر قائمة أعلى نصيب لقاحات للفرد هي إسرائيل التي طعّمت (24%) من سكانها والبحرين (16.8%) والإمارات العربية المتحدة (8.3%) والمملكة المتحدة (5.3%)، وفقاً للأرقام الصادرة في 19 و20 يناير/كانون الثاني 2020.
كانت أولى الدول العربية التي بدأت في تطعيم مواطنيها والمقيمين فيها هي الأكثر ثراءً: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والبحرين وعمان.
وحالة الإمارات تبرز أكثر من غيرها. إذ توجد في الدولة التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 10 ملايين نسمة، والتي تتمتع بأحد أعلى معدلات الناتج المحلي الإجمالي للفرد في العالم، أحد أعلى معدلات التطعيم على مستوى العالم. وأتمت بالفعل تطعيم أكثر من مليوني مواطن ومقيم باستخدام لقاح بوينتك/فايزر ولقاح سينوفارم الصيني.
ويقول الدكتور إيفان هوتين، مدير قسم الأمراض المعدية في المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط: "دول الخليج العربي لديها أعداد منخفضة من السكان، وأموال كثيرة ومنظومات صحية قوية، لذا فهي في وضع أفضل يمكنها من توزيع اللقاحات مبكراً، وهذه حقيقة واقعة".
ودول أخرى تعتمد على وعود منظمة الصحة العالمية
على أن دول المنطقة التي دمرتها الحرب ليس لديها خطط ملموسة لشراء وتوزيع اللقاحات حتى مع تدخل المنظمات الدولية لمساعدتها.
ولكن منظمة الصحة العالمية حذَّرت من "فشل أخلاقي كارثي"، بسبب النزعة القومية في توزيع اللقاحات، وهو أمر قد ينعكس بشكل كبير على توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط.
وسبق أن قال مدير عام المنظمة تيدروس أدهانوم جيبريسوس، إن العالم على شفا "فشل أخلاقي كارثي" فيما يتعلق بتوزيع لقاحات الوقاية من كوفيد-19، وحث الدول والشركات المُصنِّعة على مشاركة الجرعات بشكل أكثر إنصافاً في مختلف أنحاء العالم.
وأشار إلى توقيع 44 اتفاقاً ثنائياً العام الماضي، و12 على الأقل بالفعل هذا العام.
وقال: "قد يعطل هذا شحنات مبادرة توزيع اللقاحات التي تقودها المنظمة (كوفاكس)، ويخلق الظروف نفسها التي صُمم (كوفاكس) لتفاديها، بالتكديس وبالسوق الفوضوية وبالاستجابة غير المنسقة وباستمرار الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية".
وعرض تيدروس مثالاً لانعدام المساواة، فأشار إلى استخدام أكثر من 39 مليون جرعة من اللقاحات في 49 من الدول مرتفعة الدخل، مقارنة مع 25 جرعة فقط بإحدى الدول الفقيرة.
يقول أرنود بيرنايرت، رئيس صناعات الصحة والرعاية الصحية العالمية في المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF)، إن العالم لا ينبغي أن يتعامل "بسذاجة" مع هذه التفاوتات في توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم.
وقال إن "الدول ذات الدخل المرتفع تتمتع بمصداقية سياسية وقانونية، وهو ما يمكّنها من تنظيم أسرع البرامج الممكنة لحماية سكانها. والوضع سيظل كما هو".
ليس فقراً فقط، ولكن انعدام ثقة.. لبنان والعراق نموذجاً
ويقول الدكتور: "يوجد تفاوت كبير بين دول الشرق الأوسط"، ففي الدول العربية خارج منطقة الخليج، التي تعج بالفقر أو الفساد المستشري أو الصراعات، ما يعقّد برامج التطعيم ليس الإدارة السيئة فحسب، وإنما انعدام الثقة في القيادة السياسية.
ففي لبنان استنزفت النخبة الحاكمة المتهمة بالفساد على مدى عقود موارد البلاد، وبلغ التدهور المالي ذروته العام الماضي. والمنظومة الطبية لم تسلم، وانهارت في ظل نقص الأدوية ونزوح العاملين في مجال الرعاية الصحية. وأدى انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب الماضي، الذي ألحق أضراراً ببعض المستشفيات الكبرى، إلى تفاقم ما وصفه رئيس البلاد "بحالة الطوارئ الصحية".
ويُتوقع وصول مليوني جرعة من لقاح فايزر/بيونتك في أوائل فبراير/شباط، ولكن لا يتوقع أن تكفي سوى حوالي 20% من سكان البلاد. وفي شوارع لبنان، يشكك كثيرون في اقتراب عملية توزيع اللقاح وسلامتها.
والقصة هي نفسها في العراق والأردن، البلدين اللذين يشهدان اضطرابات اقتصادية واحتجاجات من حين لآخر تطالب بالإصلاح السياسي.
وبرنامج التطعيم المجاني في الأردن بلقاح بيونتك/فايزر قيد التنفيذ بالفعل، لكن نسبة صغيرة جداً من السكان تقدموا للحصول عليه، لأسباب مرتبطة بانعدام الثقة، وفقاً لمسؤولي الصحة. أما العراق فلن يوفر سوى 1.5 مليون جرعة من لقاح فايزر/بيونتك لسكانه البالغ عددهم 40 مليون نسمة، رغم مواجهة البلاد لزيادات متكررة في حالات كوفيد خلال العام الماضي.
ولكن حين تتعثر الحكومات يقول المجتمع الدولي إنه يحاول سد هذه الثغرات. إذ تشرف منظمة الصحة العالمية على برامج لتوزيع اللقاح على البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل مثل تحالف مبادرة كوفاكس.
ويقول بيرنارت إنه يتوقع توزيعاً سريعاً للقاحات رغم هذه التحديات العديدة. وقال: "رغم التأخر في توزيع لقاح كوفيد-19 في البلدان ذات الدخل المنخفض، فسيكون أقصر بكثير مما رأيناه في الماضي".
مصر تتعاقد على لقاح أكسفورد وإيران تراهن على منتج محلي
وبدأت مصر، أكبر دول المنطقة من حيث عدد السكان، بتطعيم شعبها، وبدأت بالعاملين في المجال الطبي، بلقاح سينوفارم في 24 يناير/كانون الثاني. كما سيوفر التحالف العالمي للقاح والتحصين (جافي)، المشارك في قيادة مبادرة كوفاكس، التطعيمات لـ20% من السكان، وقالت الحكومة المصرية إنها وقعت على صفقة لتلقي 20 مليون جرعة من لقاح AstraZeneca تكفي 10% من سكان الدولة الواقعة في شمال إفريقيا.
وقال الدكتور خالد عبدالغفار، وزير التعليم العالي والبحث العلمي المصري، إنه يجري العمل في البلاد على تطوير أكثر من لقاح ضد فيروس كورونا.
وإيران التي ترزح تحت ضغط العقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، هي أكثر الدول تضرراً من الفيروس في المنطقة. إذ سجلت أكثر من مليون حالة إصابة وأكثر من 50 ألف حالة وفاة.
وتراهن إيران على خطط محلية لإنتاج لقاحها الخاص. ويقول المسؤولون إن الدولة تعتزم أيضاً استيراد ما يقرب من مليوني جرعة من الهند وروسيا والصين بحلول نهاية الربع الأول من عام 2021. ولن تكفي اللقاحات المستوردة أكثر من 2% من السكان، في مؤشر على واضح على أزمة توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط، وتأثير السياسة عليها.
غموض عملية توزيع اللقاحات في مناطق الصراع
ولكن الأزمة الأكبر التي تواجه عملية توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط تظهر في الدول التي تمزقها الحروب الأهلية.
تواجه سوريا، المرهقة بالفعل من حرب أهلية مشتعلة منذ عقد من الزمن، أزمة اقتصادية. ولا يسيطر رئيس البلاد، بشار الأسد، على كل أراضيها، بعدما انتزعت جماعات المعارضة الكثير منها من نظامه خلال الصراع.
وستعتمد الحكومة في دمشق- التي كثيراً ما اتهمت بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان- على التحالف العالمي للقاحات والتحصين. وستفعل جماعات المعارضة في منطقة شمال شرق سوريا ذات الأغلبية الكردية والشمال الغربي الذي تسيطر عليه قوات المعارضة الشيء نفسه.
وفي اليمن التي مزقتها الحرب، والتي تقاسي أزمة إنسانية مدمرة، يبدو أن الحكومة الشرعية الموجودة في جنوب البلاد والحوثيين الذي يسيطرون على شمالها ليس لديهما فكرة واضحة عما ستبدو عليه عملية توزيع اللقاح.
ففي عدن، مقر الحكومة المدعومة من السعودية، قالت نائبة وزير الصحة الدكتورة إشراق السباعي، إن اليمن قد يتلقى الدفعة الأولى من اللقاح في مارس/آذار المقبل، لكن هذه الكمية لن تكفي سوى 20% من سكان البلاد. وليس واضحاً إن كانت ستشمل الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون، الذين صنفتهم إدارة ترامب السابقة مؤخراً على أنهم جماعة إرهابية.
عنصرية حتى في المرض
وفي إسرائيل وفلسطين، تتجلى التفاوتات في عمليات توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط بشكل مختلف.
فالأزمة هنا ليس سببها نقص الإمكانيات بل ما يعتبره الكثيرون عنصرية واضحة.
إذ تجاهلت حملة التطعيم الإسرائيلية المتقدمة عالمياً، التي تهدف إلى الانتهاء من تطعيم البلاد بأكملها بحلول نهاية مارس/آذار، ما لا يقل عن 4.5 مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وحتى الآن لم يحصل أي منهم على اللقاحات، ويستبعد أن يحصل عليها معظمهم في أي وقت قريب، لأنه لا توجد حملة تطعيم ضد فيروس كوفيد-19 في الأراضي الفلسطينية.
وبحسب خبراء الأمم المتحدة، فسياسة التطعيم التي تميز بين من يحملون الهوية الإسرائيلية ومن لا يفعلون "غير مقبولة".
إذ يقول تقرير لخبراء من الأمم المتحدة، نشره مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يناير/كانون الثاني، إن إسرائيل هي القوة المحتلة في غزة والضفة الغربية، منذ عام 1967، وبالتالي فهي مسؤولة في النهاية عن الرعاية الصحية لمن يعيشون تحت الاحتلال.
وتعترض إسرائيل على ذلك متعللة باتفاقات أوسلو الموقعة في منتصف التسعينيات مع منظمة التحرير الفلسطينية التي نتج عنها تأسيس السلطة الفلسطينية. وتتضمن الاتفاقية الأولى من تلك الاتفاقيات بنداً تتسلم السلطة الفلسطينية بموجبه مسؤولية صحة جميع الفلسطينيين الخاضعين لإدارتها المدنية.
وقال وزير الصحة الإسرائيلي يولي إدلشتاين لشبكة CNN: "إذا تمكنا من تطعيم كل شخص في البلاد يرغب في التطعيم، فسنكون على أتم استعداد لمشاركة اللقاحات مع جيراننا".
وقالت وزيرة الصحة في السلطة الفلسطينية، الدكتورة مي الكيلة، إنهم يتوقعون الحصول على لقاح كوفيد-19 بحلول نهاية مارس/آذار، لكن لم يُحدَّد موعد لوصوله بعد. وتقول الوزارة إنها تعاقدت مع أربع شركات تنتج اللقاح. وقالت السلطة الفلسطينية في بيان أصدرته في 9 يناير/كانون الثاني إن هذه اللقاحات ستكفي 70% من السكان الفلسطينيين وستوفر منظمة الصحة العالمية جرعات إضافية لـ 20% من السكان، من خلال خططها الرامية إلى توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط.
"بداية عهد جديد"
يقول بيرنايرت لشبكة CNN إنه رغم تأخر توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط تحديداً في البلدان منخفضة الدخل، فهو أكثر تفاؤلاً مما كان عليه قبل بضعة أشهر.
وقال: "هل سنتمكن من توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط وتطعيم الجميع عام 2021؟ لا، لا أعتقد ذلك. هل ستستمر قصة التطعيم إلى عام 2022، أو حتى عام 2023؟ نعم، أعتقد ذلك. ولكن ما تمكّنا من فعله حتى الآن علامة على أننا قد نكون في بداية عهد جديد عبر الطريقة التي يخطط لها من أجل توزيع اللقاحات بالشرق الأوسط على".