كانت قضية كتابة تاريخ استعمار فرنسا للجزائر هي العقبة الجوهرية أمام تطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين اقتصادياً واجتماعياً بشكل نهائي، وبعد الانتهاء من تقرير ملف "الذاكرة" لماذا يرفض إيمانويل ماكرون الاعتذار؟
السؤال أصبح ذا مغزى الآن بعد أن انتهى المؤرخ بنيامين ستورا- الذي اختاره ماكرون نفسه قبل أشهر للعمل على تجميع تقرير ملف "الذاكرة"، ووضع ستورا عدداً من الخطوات التي يتعين على فرنسا القيام بها كبوادر على حسن النية.
وكان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد اتفق في يوليو/تموز 2020 مع نظيره الفرنسي ماكرون على تكليف خبيرين بتاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر للعمل على ملف الذاكرة بين البلدين، وفي 19 يوليو/تموز عين تبون المستشار لدى رئاسة الجمهورية عبدالمجيد شيخي كممثل للعمل على الملفات المتعلقة "بالذاكرة الوطنية واستعادة الأرشيف" مع الجانب الفرنسي، فيما كلف ماكرون ستورا.
وأثارت الخطوة وقتها ردود فعل متباينة لكن مراقبين رأوا أن تعيين شخصيتين متخصصتين في فترة استعمار فرنسا للجزائر يشير إلى أن البلدين قد وضعا "خطة عمل جديدة يفهم منها ترك قضية الذاكرة للمؤرخين بدل السياسيين".
ويوم الأربعاء الماضي 20 يناير/كانون الثاني، أصدر الإليزيه بياناً أن ستورا قدم تقريره حول الاستعمار وحرب الاستقلال (التي يسميها الفرنسيون حرب الجزائر) وتضمنت توصيات التقرير خطوات رمزية لكنها لا تتضمن تقديم ماكرون اعتذاراً فرنسياً عن حرب الجزائر (حرب الاستقلال التي استمرت منذ 1954 وحتى 1962).
مصادر في الإليزيه صرحت وقتها بأن التقرير تضمن توصيات "بعملية اعتراف"، ولكن "الندم (التوبة) وتقديم اعتذارات غير وارد"، وذلك استناداً إلى رأي أدلى به ستورا الذي ذكر أمثلة اعتذارات قدمتها اليابان إلى كوريا الجنوبية والصين عن الحرب العالمية الثانية ولم تسمح "بمصالحة" هذه الدول.
وبين "الخطوات" التي سيتم القيام بها، نقل رفات المحامية المناهضة للاستعمار جيزيل حليمي، التي توفيت في 28 تموز/يوليو 2020، إلى البانثيون الذي يضم بقايا أبطال التاريخ الفرنسي. وقبل ذلك، ستقام مراسم تكريم لها في الإنفاليد في الربيع "عندما تسمح الظروف الصحية بذلك"، بحسب "فرانس برس".
تناقضات ماكرون تثير الجدل
وعلى الرغم من أن ماكرون سيصبح أول رئيس فرنسي على الإطلاق يشارك في إحياء ذكرى مقتل عشرات الجزائريين على يد شرطة باريس، إلا أنه يرفض في الوقت ذاته الاعتذار عن مثل هذه الفظائع أو التحقيق فيها جدياً، وهو ما يعتبر تناقضاً صارخاً يتيمز به التقرير الرسمي عن فترة الحكم الاستعماري الفرنسي للجزائر الذي دام 132 عاماً وحرب التحرير الوحشية التي أنهته، بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
هذا التناقض تسبب في انتشار اتهامات لماكرون بأنه يرغب في كسب الناخبين الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية، وبأنه في الوقت نفسه يغازل القوميين الفرنسيين الذين يمجدون إمبراطوريتهم القديمة، خصوصاً بعد أن أعرب صراحة أنه لن يعبر عن "ندم ولا اعتذار" عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الجزائر.
ومن بين "بوادر حسن النية" تأتي مشاركة ماكرون في إحياء الذكرى الستين لمجازر باريس المروعة التي حدثت في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، والتي قُتل خلالها العشرات من المتظاهرين المؤيدين لاستقلال الجزائر، وتعرض بعضهم للضرب، وأُلقي بالبعض الآخر في نهر السين. ولم يُقدّم أي ضابط شرطة أو أي شخص آخر للعدالة على هذه الجرائم، رغم أن العديد منها وقع على مرأى من الجمهور.
وأكد مصدر في قصر الإليزيه أنه من المقرر أن يحضر ماكرون هذا العام بعض الفعاليات المرتبطة بحرب الجزائر مثل "إحياء ذكرى التعامل العنيف مع المتظاهرين الجزائريين في باريس" في أكتوبر/تشرين الأول.
لكن بعض الناجين من هذه الفظائع سارعوا إلى اتهام ماكرون بالدعاية الانتخابية قبيل انتخابات 2022 الرئاسية للفوز بولاية ثانية في منصبه. إذ قال بلحوت ذهبي، الذي كان يبلغ من العمر 21 عاماً وكان عامل بناء يعيش في بلدة فقيرة في ضواحي باريس حين شاهد بعضاً من أصدقائه يقتلون عام 1961: "الأمر كله متعلق بالسياسة".
وقال: "الكثير من الجثث تم إخفاؤها وقالت الشرطة ببساطة إنها اختفت، لتساعد في التستر على هذه الجرائم". وأضاف: "لم نتوقف عن مطالبتنا بالاعتذارات والتعويضات والمحاكمات منذ عقود، لكن كل ما نملكه الآن وعد بمشاركة ماكرون في إحياء ذكراهم للفوز بأصوات الناخبين الجزائريين في فرنسا".
وتابع قائلاً: "وسيقول ماكرون أيضاً للقوميين اليمينيين المتطرفين إن هجماتهم على الجزائريين شيء لا يُخجل منه، وهذا بغيض".
وكانت مارين لوبان الخصم الرئيسي لماكرون قبل فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2017 وتعود جذور حزبها، التجمع الوطني (RN)، إلى الحرب القومية التي كانت تهدف لاستمرار استعمار الجزائر. إذ تأسس حزب التجمع الوطني، الذي كان يسمى في البداية بالجبهة الوطنية، على يد والد لوبان، جان ماري لوبان، المعروف بعنصريته، والذي كان أيضاً جندياً في حرب التحرير الجزائرية، التي اندلعت من عام 1954 حتى عام 1962.
وقال أرزقي أمازوز، أحد منظمي الاحتفال السنوي على جسر سانت ميشيل للصحيفة البريطانية: "توجد العديد من الأسباب التي تجعل الاعتذار والتعويضات غاية في الأهمية، ولم يفُت الأوان بعد لتقديم المذنبين إلى العدالة".
وقال محمد بادي، المتحدث باسم لجنة الاتصال الوطنية للحركيين، إن توصيات تقرير ستورا خذلت كل ضحايا الاستعمار، مضيفاً: "ما يهم حقاً هو أن تعترف فرنسا اعترافاً قاطعاً بما فعلته. وهي تشوه التاريخ بإخفائها هذا الجزء منه".
ولا يزال الاستعمار الفرنسي للجزائر من القضايا الخلافية الكبرى في فرنسا، في ظل استمرار شكوى من ينتمون لأصول جزائرية من التمييز في كل جانب من جوانب حياتهم. ويقول الطالب الجزائري هشام لحويدجي (26 عاماً): "على فرنسا أن تعترف بجرائمها، القتل والتعذيب والتهجير القسري للشعب الجزائري".
ويضيف: "من واجب الدبلوماسية الجزائرية شجب هذا الموقف لأن الاستعمار الفرنسي كان من أسوأ أشكال الاستعمار".
ومارين لوبان، التي ستظل المنافس الرئيسي لماكرون في انتخابات عام 2022، تربط من حين لآخر مظاهر الأسف على ما فعلته فرنسا في الجزائر بـ"العداء لفرنسا". وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية عام 2017، قالت مارين: "الاستعمار جلب الكثير للمستعمرات السابقة، وخاصة الجزائر".
وفي الوقت نفسه تقريباً، وصف ماكرون تصرفات فرنسا في الجزائر بأنها "جريمة ضد الإنسانية" مليئة بـ "التصرفات البربرية"، وهو تصريح آخر كان جلياً أنه يستهدف آذان الجزائريين خلال زيارته للدولة الواقعة في شمال إفريقيا.
وجيرالد دارمانان، الذي ينحدر من عائلة "حركي" وأصبح وزير داخلية ماكرون، مثال آخر على الألاعيب السياسية المرتبطة بهذه القضية، إذ اتهم ماكرون بـ"البصق على قبور" الفرنسيين الذين ماتوا في الجزائر "من أجل فرنسا التي أحبوها".
وكان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد دعا الفرنسيين إلى تقديم اعتذار كامل وتعويضات، وقال: "تلقينا بالفعل أنصاف الأعذار. ومن الضروري اتخاذ خطوة أخرى".
غضب جزائري متجدد
وقد أعاد رفض فرنسا الاعتذار عن استعمارها للجزائر، والذي يوصف بأنه الماضي الاستعماري الأبشع، تجديد مشاعر الغضب في الداخل الجزائري مرة أخرى تجاه فرنسا، حيث يرى الخبراء أنه على التيار الوطني الصاعد في الجزائر إعادة النظر في العلاقات والاتفاقيات الموقعة مع الجانب الفرنسي.
وقالت حدة حزام الكاتبة والسياسية الجزائرية لوكالة سبوتنيك الروسية إنه كان متوقعاً عدم طرح مطلب الاعتذار في الاقتراحات التي قدمها ستورا إلى الرئيس ماكرون، مضيفة أن "هذا الإغفال أفقد العملية برمتها قيمتها. رفض فرنسا الاعتذار والاعتراف بجرائمها سيبقى جرحاً نازفاً في الذاكرة الجماعية الجزائرية".
واعتبرت حزام أن ذلك سيحول دون بناء علاقات حقيقية بين الشعبين، رغم أن الحكام الجزائريين باستثناء الرئيس الراحل هواري بومدين الذي رفض أن تطأ قدماه فرنسا ربطتهم علاقات ومصالح جيدة بفرنسا، ورأت أن تهرب فرنسا من الاعتراف والاعتذار قد يفتح عليها العديد من الأبواب في كل إفريقيا التي ما زالت الكثير من بلدانها تدفع حتى اليوم ثمن استقلالها، وهو ما يفوق 50 مليار يورو سنوياً.
ومن جانبه قال العقيد المتقاعد عبدالحميد العربي شريف، الخبير الأمني والاستراتيجي الجزائري لسبوتنيك إن فرنسا لا تريد الاعتذار لأنها ارتكبت مجازر مروعة، حيث قتل أكثر من خمسة ملايين منذ 1832 إلى 1962، وضمنها مجازر جماعية، حيث أبيدت بعض القرى والمدن بالكامل، مضيفاً أن الإرث الاستعماري سيلاحق فرنسا، وأنها تخشى الاعتذار أو الاعتراف به، نظراً لأنها ستكون مطالبة بدفع التعويضات عن هذه الجرائم.
لماذا ترفض فرنسا الاعتذار؟
ويرجع مراقبون رفض ماكرون الاعتذار عن جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر إلى الخوف من أن ذلك سيفتح باب طلب التعويضات على مصراعيه، ليس فقط من الجزائر ولكن أيضاً من البلدان الإفريقية الأخرى التي استعمرتها فرنسا.
وهذا ما عبرت عنه حزام في حديثها لسبوتنيك، إذ قالت إن اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر واعتذارها سيجعلها تعترف بكل جرائمها الاستعمارية، وبالتالي تسقط عن البلدان فرض دفع التعويضات، عما تدعي فرنسا أنه بنية تحتية تركتها في إفريقيا، في حين أنها بنيت بوسائل وسواعد الأفارقة.
وعلى جانب آخر ترى حزام أن: "المسؤولين في الجزائر خذلوا الذاكرة ومنعوا طرح قانون تجريم الاستعمار ومطالبة فرنسا بالاعتذار في البرلمان، وأن بعض الأحزاب منعت نوابها طرح القانون تحت التهديد".
كما أوضح العقيد شريف أن عدم اعتذار فرنسا لن يعفيها من الالتزام بمعالجة المساحات التي شوهتها عبر التجارب الكيماوية والنووية والتي تمتد لآلاف الكيلو مترات.