قبل 10 سنوات، اندلعت في دول كثيرة من العالم العربي ثورة مبتهجة ضد الأنظمة الديكتاتورية التي أغرق فسادها وقسوتها وسوء إدارتها الشرق الأوسط في الفقر والتخلف لعقود.
لكن الآن تلاشت الآمال التي أيقظتها الاحتجاجات، بالرغم من أن الظروف الكامنة وراء هذه الاضطرابات لا تزال ماثلة وبقوة كما كانت دائماً.
وصار المستبدون يحكمون بقبضة أشد، وأدت الفوضى التي اندلعت في سوريا واليمن وليبيا إلى إضعاف الرغبة في حدوث المزيد من الاضطرابات في أجزاء كثيرة من المنطقة، في حين أنَّ النجاح القصير الأمد لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، التي يُنظَر إليها على أنها تهديد للنخب الراسخة، دفع العديد من الدول العربية إلى تقليص مساحة النشاط السياسي، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
حين اختفى ميدان التحرير
وفي مصر، أصبحت نقطة انطلاق الثورة -التي شكَّلت جزءاً أساسياً من الانتفاضات التي تُعرَف باسم الربيع العربي- الآن مكاناً مختلفاً تماماً، كما هو الحال في الدولة بأكملها. إذ تتدفق حركة المرور بهدوء حول ميدان يخلو من المتظاهرين أو أية محاولة للمعارضة. وتتمركز الشرطة السرية في مكان قريب، لكن ليس بسرية. ولم تعد تُذكَر الثورة إلا قليلاً، وتُقابَل محاولات إحياء أشباح ميدان التحرير بيدٍ من حديد للدولة العسكرية النشطة التي رسَّخت نفسها في أعقاب الثورة.
وبدأ الأمر مختلفاً تماماً بالنسبة لمعاذ عبدالكريم، الذي تجمع هو ومجموعة من الشباب المصريين، في 25 يناير/كانون الثاني 2011، في شقق على الجانب الآخر من النيل، حيث كانوا يخططون لتغيير التاريخ.
ويقول عبدالكريم: "ظننا أنه لو استطعنا النجاح، فسنحصل على مصر أفضل، وإذا فشلنا فسنموت أو نقضي حياتنا كلها في السجن. طوال حياتي، كان مبارك وحده هو الرئيس، لذلك حلمت دوماً برؤية رئيس آخر من عائلة أخرى".
وأضاف: "في تلك اللحظة أدركت أننا نجحنا؛ لأنني رأيت الناس من جميع الفئات والمستويات الاقتصادية المختلفة، الغني والفقير والكبير والصغير، يقفون جميعاً معاً وبصوتٍ واحد".
وبحلول 28 يناير/كانون الثاني، أصبح ميدان التحرير بوتقة المطالب الحثيثة لمصر جديدة. وفي غضون أسبوعين، كانت قد وُضِعَت بذور نهاية حكم مبارك. وسحب الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، دعم واشنطن الطويل للرئيس المصري، الذي حكم لمدة 30 عاماً، وأيَّد بدلاً من ذلك ثوار مصر. وقال أوباما: "لقد أوضح المصريون أنَّ ما من شيء أقل من الديمقراطية الحقيقية يمكن أن ينتصر".
نقطة الخلاف
ثم قوبل الجيش المصري، الذي وقف مع الثوار فيما تصاعدت مطالبهم، بتحدٍ. وقال أوباما: "لقد خدم الجيش على نحو وطني ومسؤول بصفته راعياً للدولة. وسيتعين عليه الآن ضمان انتقال ذي مصداقية في نظر الشعب المصري".
وقالت سلوى جمال، من مؤيدي الثورة التي أُجبِرَت على الفرار من مصر في عام 2014: "لم يكن أوباما يعرف هذا في ذلك الوقت، لكن كلماته كانت مرثية للثورة. فمنذ تلك اللحظة، كان الجيش يخطط للاستيلاء على السلطة".
وقالت نانسي عقيل، الناشطة والباحثة المصرية، إنَّ يوم استقالة مبارك، 11 فبراير/شباط، بدا وكأنَّ الأشهر المقبلة لن تكون سوى انتقال سلس إلى الديمقراطية. واستطردت: "كانت أسوأ لحظة بالنسبة لي. رأيت الدبابات وعلمت أنَّ الجيش يتولى زمام الأمور. رأيت أشخاصاً يوزعون الزهور العسكرية وينظفون الشوارع ويمسحون الكتابة على الجدران. كانت بداية محو آثار الثورة".
وأضافت: "طوال تلك الفترة، كان الناس يقولون: لا، الجيش يقف إلى جانبنا. لكن لأننا نعرفهم، علمنا كيف يديرون الأمور".
محو آثار الثورة
ومنذ ذلك الحين، يسعى الرئيس المصري الجديد إلى محو جميع آثار الثورة من خلال القمع الهائل لسحق الدعوات للتغيير. ودُمِر المجتمع المدني في مصر، وأُجبِر الفنانون والمفكرون والصحفيون والأكاديميون على الصمت، إما النفي أو السجن. وقُيِدَت المعارضة السياسية، أو استُقطِبَت، وأُسكِتَت جميع الإدانات الدولية منذ فترة طويلة.
فقد حظيت مزاعم السيسي بالمساعدة في وقف تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وبأن يكون حصناً ضد التهديدات الأمنية، بدعم ضمني، كما أدى قمعه المستمر للمعارضة والتعبير عن الرأي إلى الإفلات من العقاب مع الحد الأدنى من العواقب. في حين أبلغت هيومن رايتس ووتش عن وجود 60 ألف سجين سياسي في مصر في 2019.
لكن على الرغم من القمع، قال خالد منصور، المدير التنفيذي السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إن العديد من الذين دعموا الثورة سيفعلون ذلك مرة أخرى. وأضاف: "كانت بالتأكيد نقطة تحول. لكننا لا نتجه دائماً نحو الوضع المريح، أو في الاتجاه الصحيح"، بحسب صحيفة The Washington Post الأمريكية.
وتابع منصور: "الشيء الوحيد الذي لديهم والذي يسمح لهم بالبقاء في السلطة هي القوة. التلاحم الاجتماعي، وكونهم الخلاص الاقتصادي، والإرهاب، وتهديدات الأمن القومي؛ جميعها عوامل تُمكِّن هذه الجهات من قول نحن آخر معقل، وتأجيل أي حديث عن التغيير".
وأوضح: "ما نحتاجه ليس مصر موحدة، بل مكاناً يمكن فيه للفصائل المختلفة التحدث مع بعضها البعض والانخراط في حوار سياسي دون مخاوف وجودية تطغى على كل شيء. هل يمكننا التعافي؟ سيستغرق الأمر فترة طويلة من النقد الذاتي والتأمل، وهذا أمر صعب للغاية الآن".
"الانفجار القادم"
قالت كوفمان ويتس إن الربيع العربي حطم الأسطورة الراسخة أن الاستبداد يساوي الاستقرار. واسترجعت التدافع داخل إدارة أوباما للتكيف مع إطاحة مبارك عام 2011، الذي كان يُنظَر إليه على أنه حصن من حصون السياسة الأمريكية الهادفة إلى تأمين الاستقرار في منطقة مضطربة.
وأضافت كوفمان: "لم يتوقع أحد اندلاع الربيع العربي. فقد بدت الدول الاستبدادية دوماً مستقرة، لكن حين تعتمد الحكومات على القمع ليكون أداة صمودها الرئيسية، فهي بالأساس غير مستقرة".
وقال رجوي أسعد، الأستاذ بجامعة مينيسوتا، إنَّ مصيراً مشابهاً قد ينتظر البلدان الغنية بالنفط في شبه الجزيرة العربية؛ فقد قمع الملوك بالوراثة تحركات مشابهة في عام 2011 من خلال توزيع رواتب سخية على المواطنين. وعلى مدى عقود، سمحت الثروة النفطية في دول الخليج لهؤلاء المستبدين بتقديم خدمات سخية وفرص توظيف حكومي لمواطنيهم مقابل الهدوء السياسي.
وأضاف أسعد: "ويبرز سؤال حاسم هنا؛ هو ماذا يحدث في الدول الغنية بالنفط؟ فهي حقاً عبارة عن براميل بارود من حيث عدم الاستقرار المحتمل إذا لم ترتفع أسعار النفط، وبالتالي عجزت عن دفع السكان إلى الإذعان، مثلما فعلت خلال الربيع العربي".
وقد بدأ بالفعل الشعور بتأثيرات انخفاض أسعار النفط يمتد لخارج منطقة الخليج. إذ باتت دول مثل مصر والأردن تتلقى مساعدات أقل من حلفائها الأكثر ثراءً، والتي ساعدت في الماضي في دعم حكوماتها، فضلاً عن انخفاض التحويلات المالية من المواطنين الذين يعملون في اقتصادات الخليج، الذين يُعادون الآن إلى بلادهم بسبب الركود الاقتصادي.
بدوره، قال فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، إن المزيد من عدم الاستقرار يبدو حتمياً. ويعتقد أنَّ الاضطرابات التي شهدتها السنوات العشر الماضية تمثل بداية لعملية تغيير طويلة ستؤدي في النهاية إلى تحول في الشرق الأوسط.
وأضاف: "لا أعتقد أننا سنرى أي استقرار طالما استمر الطغاة ووكالات الاستخبارات العسكرية في خنق المجتمع".
وأعرب كذلك عن تخوفه من أن تكون هذه الاضطرابات المحتملة أعنف مما كانت عليه قبل عقد من الزمن.
وتوقع أنَّ "الوضع الراهن لن يمكن الحفاظ عليه، والانفجار القادم سيكون كارثياً. نحن نتحدث عن مجاعة، وانهيار دولة.. نحن نتحدث عن حرب أهلية".