اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين والساعي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال فرض هيمنة الرجل الأبيض على العالم مرة أخرى لم يعد مجرد فكرة يعتنقها الملايين في أمريكا والغرب، فهناك جماعات منظمة ومسلحة، فلماذا لا يتم تصنيفها منظمات إرهابية؟
هذا السؤال لم يبرز إلى السطح بعد فضيحة اقتحام الكونغرس الأمريكي يوم الأربعاء، 6 يناير/كانون الثاني 2021، من جانب أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب كما قد يتصور البعض، بل هناك مطالبات متصاعدة بتصنيف جماعات اليمين المتطرف كمنظمات إرهابية، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، ولكن أحداث ذلك اليوم وما تلاها وصولاً إلى تنصيب الرئيس جو بايدن أعادت فتح الجدال بصورة أكثر تركيزاً وإلحاحاً.
وفي خطاب تنصيبه يوم 20 يناير/كانون الثاني الجاري، دعا الرئيس جو بايدن إلى الوحدة محدداً العدو الذي يقف بوجه تلك الوحدة، ومشيراً إلى الأمراض والمخاطر الناجمة عن النزعة القومية التي رعاها سلفه دونالد ترامب.
إذ قال بايدن نصاً: "هناك صرخة من أجل العدالة العرقية لم تتوقف منذ 400 عام، وهي صرخة تحركنا"، في إشارة إلى الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد خلال صيف عام 2020، في أعقاب مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد، على أيدي رجال شرطة بيض. "صرخة لا يمكن أن تكون أكثر يأساً أو أكثر وضوحاً، والآن تصاعد التطرف السياسي وتفوق البيض والإرهاب الداخلي الذي يجب أن نواجهه وسنهزمه".
بايدن أضاف أيضاً أنه شعر بأنه مجبر على الترشح للرئاسة بعد أن بدا أن ترامب يدافع عن المشاركين في مسيرة عام 2017 لتفوق البيض في شارلوتسفيل. ثم وجد هذا الغضب صدى مقلقاً في اقتحام متشددي اليمين المتطرف لمبنى الكابيتول الأمريكي قبل أسبوعين فقط، ولوح بعض مثيري الشغب الذين سعوا إلى إسقاط إحصاء المجمع الانتخابي الأمريكي الذي يؤكد فوز بايدن، بأعلام الكونفيدرالية وشعارات رياضية تحيي الهولوكوست، ووصفهم بايدن بأنهم "إرهابيون محليون".
5 سنوات من الترامبية تكفي
صحيفة Washington Post الأمريكية تناولت الجدال حول الخطر الداهم الذي يتعين على بايدن والغرب مواجهته وهو اليمين المتطرف، إذ أدت خمس سنوات من الترامبية (منذ ظهور ترامب على الساحة السياسية وفوزه بالرئاسة ثم خسارته في الانتخابات الأخيرة) إلى تسريع النقاش حول تهديد متشددي اليمين المتطرف عبر الديمقراطيات الغربية، فمن ألمانيا إلى نيوزيلندا إلى الولايات المتحدة، شن مسلحون يمينيون متطرفون هجمات إرهابية دموية. وكانت كراهيتهم للمهاجرين والليبراليين هي من حركتهم، وفي بعض الحالات يمكن رسم خط من تطرفهم إلى خطاب ترامب التحريضي.
وعلى الرغم من شيطنة ترامب واليمين لحركة أنتيفا -مجموعة فضفاضة من نشطاء اليسار المناهض للعنصرية- تُظهر البيانات المحلية الأمريكية، أن مؤامرات اليمين المتطرف أو المتشددين لتفوق البيض في الولايات المتحدة تتفوق عددياً وبشكل كبير على تلك التي دبرها الراديكاليون اليساريون أو الأناركيون في عام 2020، والتهديدات كلها حقيقية للغاية.
ويقول المحققون الأمريكيون إن التجمع المؤيد لترامب في 6 يناير/كانون الثاني، الذي سبق اقتحام مبنى الكابيتول حضره متشددون لتفوق البيض معروفون، وكان بعضهم موجوداً بالفعل على قوائم مراقبة الإرهاب لمكتب التحقيقات الفيدرالي. ويبدو أن ما يقرب من نسبة 1 من بين كل 5 من المتهمين البالغ عددهم 140 متهماً حتى الآن، لتورطهم المزعوم في هجوم الكابيتول قد خدم في الجيش، وفقاً لإذاعة NPR.
وفي هذا السياق من المهم استرجاع تلك اللحظة في المناظرة الرئاسية الأولى التي أجريت بين ترامب وبايدن، ووجه الأخير تحدياً مباشراً لترامب، مطالباً إياه بأن يندد علناً بإحدى جماعات اليمين المتطرف الداعية له، وهي جماعة "الأولاد الفخورون" Proud Boys، فما كان من ترامب بعد المراوغة إلا أن قال: "أيها الأولاد الفخورون تراجعوا وكونوا مستعدين!".
"الأولاد الفخورون" هم واحدة من مجموعات اليمين المتطرف الساعين لفرض سيطرة الرجل الأبيض، وتأسست عام 2016 بالتزامن مع ترشح ترامب للرئاسة، ومؤسسها هو جافين ماكينيس، ناشط يميني متطرف يحمل الجنسية الكندية والبريطانية، ولا تضم الجماعة في عضويتها سوى الرجال البيض، وصنفها مكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2018 "جماعة متطرفة"، وتصفها منظمة ضد التشهير الحقوقية بأنها "جماعة كارهة للنساء معادية للمسلمين وللهجرة".
وهناك مجموعات يمينية أخرى أقدم في التأسيس وأكبر في الوجود على الأرض مثل جماعة "حماة القسم" Oath Keepers، التي أشارت نتائج التحقيقات الأولية في أحداث اقتحام الكونغرس لوقف جلسة التصديق على فوز بايدن، أن تلك الجماعة كانت المشرفة على عملية الاقتحام، وأنه كانت هناك خطط تم إحباطها لإعدام نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، وآخرين من أعضاء الكونغرس.
وقبل حفل تنصيب بايدن، أبعدت السلطات 12 فرداً من الحرس الوطني، والذين نُشروا في واشنطن بعد أن كشف فحص دقيق أن اثنين على الأقل كان لهما تعاطف أو علاقات محتملة مع الجماعات اليمينية المناهضة للحكومة.
لكن الأحداث التي وصلت ذروتها يوم اقتحام الكونغرس لم تكن مفاجأة للكثيرين، حيث إن التحذيرات من أن "جيش ترامب" لن يقبل الهزيمة سبقت حتى يوم الانتخابات نفسه، أي 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ورغم ذلك وقعت فضيحة اقتحام الكونغرس بالصورة الدموية العنيفة التي شاهدها العالم، وكشفت أن تهديد اليمين المتطرف أكثر خطراً مما يريد البعض أن يعترف به.
هل يمكن تصنيف جماعات اليمين منظمات إرهابية؟
بعد أن أكد الرئيس جو بايدن في خطاب تنصيبه على أن تلك الجماعات اليمينية هي العدو لوحدة البلاد، قد يتصور البعض أن مسألة تصنيف تلك الجماعات منظمات إرهابية أصبحت محسومة الآن، رغم أن البعض يرى ذلك قد تأخر بصورة كبيرة.
لكن الحقيقة مختلفة تماماً، إذ إنه لا توجد "آلية قانونية" في الولايات المتحدة الأمريكية تسمح بتصنيف جماعات محلية كمنظمات إرهابية، على الرغم من وجود "آليات قانونية كثيرة ومتنوعة" لتصنيف الإرهاب خارجياً، بحسب تقرير نشره موقع Lawfareblog أعدته باحثة الدكتوراه آنا ماير.
والمقصود هنا هو أنه لا يوجد أي قانون يجعل الانضمام لتلك الجماعات اليمينية المنظمة والمسلحة جريمة في حد ذاتها، لكن يمكن أن يتم توجيه تهمة تنفيذ جرائم إرهاب محلي، بشرط أن تكون التهمة محددة بحادث عنف محدد، طبقاً لبنود متعددة من المادة 18 من القانون الجنائي الأمريكي.
وهذه النقطة تحديداً تجعل التساؤلات بشأن ما يمكن اتخاذه من إجراءات أمراً شائكاً، فلا تستطيع الولايات المتحدة فرض الرقابة على أشكال معينة من خطاب الكراهية أو تجريمها كما تفعل أوروبا، رغم أن إدارة بايدن من المتوقع لها الاعتماد بقوة أكبر على شركات التكنولوجيا، للتعامل مع المعلومات المضللة وانتشار التطرف على شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم.
ودعا العديد من خبراء السياسة والمشرعين في واشنطن إلى اتباع نهج من أعلى إلى أسفل في التعامل مع الإرهاب المحلي، على غرار ما حدث ضد "التنظيمات الإسلامية"، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي تبناها تنظيم القاعدة، لكن هذا الطرح يثير قلق المعارضين الذين يخشون أن الولايات المتحدة تتعلم الدروس الخاطئة بعد سنوات من صنع السياسات القاسية لمكافحة الإرهاب في كثير من الأحيان.
والمقصود بهذا القلق هو أن حرب أمريكا على الإرهاب قد تسببت في تشريد عشرات الملايين من الأبرياء حول العالم، ودمرت بلداناً كثيرة في الشرق الأوسط، وذلك بسبب تسييس مكافحة الإرهاب واستخدام التصنيف الإرهابي ولائحة رعاية الإرهاب لتحقيق أغراض سياسية ومصالح اقتصادية.
ووفقاً لتقرير عن صحيفة Politico: "أولئك الذين ينتقدون إصدار قانون محلي للإرهاب، يجادلون بأن هناك بالفعل عشرات القوانين الاتحادية لجرائم الإرهاب وجرائم الكراهية والجريمة المنظمة، التي يمكن تطبيقها على الأعمال الإرهابية المحلية، الأمر ببساطة يعود إلى إدارة تعطي الأسبقية للتهديدات الداخلية. وقد حذرت أكثر من 130 منظمة مدنية وحقوقية، من أن إنشاء تهمة إرهابية محلية يمكن أن يستخدم كوسيلة للتوصيف العرقي واستهداف المجتمعات المهمشة".
اليمين المتطرف في أوروبا
وإذا تركنا الولايات المتحدة وتوجهنا إلى أوروبا، نجد أن ألمانيا استيقظت خلال العام الماضي على تهديد القوميين البيض والنازيين الجدد، بالتسلل المستمر إلى قوات الأمن في البلاد. وفي يوليو/تموز الماضي، حلت الحكومة وحدة عسكرية من النخبة بعد اشتباه في وجود علاقات بين قوات الكوماندوز التابعة لها مع اليمين المتطرف. وقالت مفوضة الدفاع بالبرلمان الألماني إيفا هوغل للصحفيين في ذلك الوقت: "هناك حاجة ملحة لاتخاذ إجراء، لقد قُلل من شأن هذه التهديدات، ولم يُؤخذ الأمر على محمل الجد بما فيه الكفاية".
وكان من بين أولئك الذين لم يأخذوا التهديد بجدية كافية مسؤولون في إدارة ترامب، الذين بدا أنهم تجاهلوا المخاوف بشأن مجموعة ناشئة من الجماعات المسلحة اليمينية المتطرفة المنظمة العابرة للحدود.
فهناك طيف واسع من سلوك متعصبي اليمين المتطرف الذي يثير قلق المحللين. فبعيداً عن الجماعات المسلحة على غرار الميليشيات التي تتدرب على العنف، فإن الحشد اليميني المتطرف تلازم مع كيو أنون (QAnon)، وهي مجموعة واسعة من الادعاءات الكاذبة التي تحولت إلى أيديولوجية متطرفة جعلت من أتباعها متشددين. الدعامة الرئيسية لهذه الأيديولوجية هي الاعتقاد بأن ترامب هو المدمر المقدر لعصابة سرية -تضم الديمقراطيين والمشاهير- تتاجر بالأطفال لممارسة الجنس وتأكلهم.
وقال جويل فينكلشتاين، المؤسس المشارك لمعهد Network Contagion Research Institute، وهو مجموعة بحثية تدرس المعلومات المضللة عبر الإنترنت: "ما نراه هو شيوع للغة المتدنية والمروعة بشكل متزايد، لقد تحول الأمر من مجرد الحديث عن ثورة إلى نوع الانهيار الذي قد يودي بالحضارة البشرية".
وقد انتشر الأمر بالفعل إلى أوروبا، حيث اندلعت احتجاجات اليمين المتطرف التي رددت بعض المعتقدات الغريبة المستوحاة عن كيو أنون. وقالت آنا صوفي هارلينغ، رئيسة قسم أوروبا في NewsGuard، وهي شركة تتعقب المعلومات المضللة عبر الإنترنت: "إذا كان هناك أي مؤشر على أن منصات التكنولوجيا الأمريكية كان لها تأثير على الخطاب الدولي بطريقة لا حدود لها، فهذا هو الأوضح".
والخلاصة هنا هي أنه على الرغم من الاعتراف الغربي بشكل عام والأمريكي على لسان جو بايدن بشكل خاص بأن اليمين المتطرف أصبح خطراً وعدواً لا بد من واجهته، تظل مسألة تصنيف جماعات اليمين المتطرف هناك أمراً جدلياً خوفاً من أن تستغله السلطة لأغراض سياسية أو بمعنى أوضح للتخلص من معارضيها.