تمكّن ملتقى الحوار الليبي من تحقيق اختراق هام في جدار الأزمة، بعد أن اعتمد آلية واضحة لاختيار أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة. بليبيا، التي ستوكل لهم مهمة التحضير للانتخابات العامة في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021.
إذ كادت العملية السياسية أن تُنسف برمتها بسبب عدم الاتفاق حول آلية عملية وواقعية لاختيار سلطة تنفيذية موحدة.
حيث لم تتمكن أي قائمة لمرشحين لمنصبي رئيسي المجلس الرئاسي والحكومة من الحصول على نسبة 75% من إجمالي 75 عضواً في ملتقى الحوار.
وكاد تعثر ملتقى الحوار أن يصل لطريق مسدود بسبب حدة الخلاف وتباعد الآراء بين أعضائه، قبل أن يتفقوا على تشكيل لجنة استشارية من 18 عضواً لحل هذا الإشكال.
وبإجماع أعضائها، وهي حالة نادرة في ليبيا، اتفقت اللجنة الاستشارية خلال اجتماعها بجنيف ما بين 13 و16 يناير/كانون الثاني 2021، على آلية تجمع أغلب المقترحات في مقترح واحد.
واعتمد ملتقى الحوار هذه الآلية، الثلاثاء 19 يناير/كانون الثاني 2021، بأغلبية ساحقة بلغت 73% من إجمالي الحاضرين (72 عضواً).
وهذه النسبة تفوق بكثير العتبة المحددة لاعتماد آلية اختيار السلطة التنفيذية المؤقتة، والمقدرة بـ63%، ما يعطيها قوة معنوية ضد أي محاولة للطعن أو التشكيك في مصداقية عملية التصويت عليها.
عقيلة صالح حقق "نصف هدف"
لعب رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، الدور الأبرز في عرقلة التوصل إلى آلية واقعية لاختيار رئيسي المجلس الرئاسي والحكومة، لإصراره على ضرورة أن يختار كل إقليم من الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان) مُمثِلهُ في السلطة التنفيذية الموحدة.
لكن قوى التيار المدني رفضت مقترحه، وأصرت على خيار القوائم، وحازت في انتخابات سابقة خاصة بمقترحات آلية الاختيار، على النصيب الأعلى بـ39 صوتاً من إجمالي 71 شاركوا في التصويت (نحو 55%).
وهذا الفوز لم يسمح باعتماد المقترح الثالث (القوائم) الذي يمثله رئيس محكمة الاستئناف المستشار عبدالجواد العبيدي (شرق)، ورجل الأعمال عبدالحميد الدبيبة (غرب)، لأنه لم يحصل على نسبة 75% المطلوبة من الأصوات، حتى بعد تخفيضها إلى 63%.
بينما نجح عقيلة، في عرقلة اعتماد المقترح الثالث، رغم أن المقترح الثاني الذي يمثل تحالفه مع وزير الداخلية فتحي باشاغا (الأقاليم الثلاثة) لم يحصل سوى على 24 صوتاً، التي تعادل نحو 34%، وهي نسبة كافية لتعطيل تشكيل السلطة التنفيذية الموحدة.
وأمام هذا المأزق، تم التوافق على أن يختار كل إقليم ممثله بنسبة 70%، وهنا الأفضلية لعقيلة صالح، لتولي رئاسة المجلس الرئاسي، لأنه يملك 16 صوتاً من إجمالي 24 عضواً في إقليم برقة، أو ما يعادل نحو 67%.
وهذه النسبة غير كافية إذ ينقصها صوت واحد فقط، لذلك ليس من المستبعد أن يلجأ عقيلة صالح للترغيب والترهيب للوصول إلى هدفه.
أما في المنطقة الغربية فالصراع على أشده على منصب رئيس الحكومة، بين ثلاث أسماء رئيسية: باشاغا، والدبيبة، وأحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي، ومن الصعب أن يحسم أيٌّ منهم المعركة في هذه المرحلة لصعوبة الحصول على النسبة المطلوبة.
بينما لا توجد منافسة حادة في الجنوب، خاصة أنه لم يمنح له سوى منصب نائب رئيس المجلس الرئاسي.
أسماء مغمورة قد تهزم شخصيات ثقيلة
عدم حسم المعركة في المرحلة الأولى، وهو الاحتمال الأغلب، سيؤدي للانتقال للمرحلة الثانية، التي تعتمد على القوائم، بحيث تضم كل قائمة أربع مرشحين للمناصب الأربعة التنفيذية (رئيس المجلس الرئاسي ونائباه، ورئيس الحكومة).
ويشترط في كل قائمة أن تكون مدعومة من 18 عضواً (8 من الغرب، و6 من الشرق، و3 من الجنوب)، وهذا يعني أن قائمتين فقط تستوفيان الشروط، ويتعلق الأمر بتحالف عقيلة وباشاغا، وتحالف العبيدي والدبيبة.
وفي هذه المرحلة تكون الأفضلية لقائمة العبيدي والدبيبة، بالنظر إلى انتخابات سابقة حصل فيها على نحو 55% من الأصوات، مقابل 34% لقائمة عقيلة وباشاغا.
غير أن الجولة الأولى تتطلب 60% من الأصوات، ما قد يؤدي إلى الذهاب للجولة الثانية التي لا تشترط سوى 50% +1، ما يعني أن العبيدي سيتولى رئاسة المجلس الرئاسي بينما يقود الدبيبة الحكومة، إذا لم تغير لعبة الكواليس مواقف بعض الأعضاء.
هذا السيناريو قد يكون الأقرب للفوز بقيادة المرحلة الانتقالية، لكنه سيضع البلاد أمام تحديات صعبة، لأن كلاً من العبيدي والدبيبة لا يملكان ثقلاً سياسياً وعسكرياً على الأرض، عكس عقيلة وباشاغا.
فالعبيدي رجل قانون، وينتمي إلى أكبر قبيلة في الشرق (العبيدات) وهي ذات القبيلة التي يتحدر منها عقيلة، لكن ليس هناك أي قوة عسكرية تتبعه، وليس معروفاً إن كان جزءٌ من العبيدات يساندونه، باستثناء قبائل الجنوب الشرقي مثل الزوية والتبو الذين أعلنوا عن ذلك في بيان.
أما الدبيبة، فهو رجل أعمال من مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، وقوته في أمواله، وأيضاً مدعوم من التيار المدني، خاصة الجناح الذي يتزعمه عبدالرحمن السويحلي (مصراتة) الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، والرجل النافذ في الغرب الليبي، وصاحب مقولة: "مصراتة يمثلها التيار المدني"، في إشارة لرفضه دعم غريمه باشاغا.
على الطرف الآخر، يحظى باشاغا بدعم جزء من كتائب مصراتة وعلى رأسها لواء الحلبوص وكتائب حطين والمحجوب و301 و166، فضلاً عن الوحدات الأمنية والشرطية.
سياسياً يُعد حزب العدالة والبناء (إسلامي) أكبر الداعمين له، وعلى رأسهم رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، فضلاً عن دعم دولي من تركيا ونوع من القبول من مصر وفرنسا والولايات المتحدة.
بينما عقيلة يحظى بدعم قبائل شرق مدينة بنغازي إلى الحدود المصرية، وبعض النواب، وشطر من ميليشيات خليفة حفتر، بالإضافة إلى روسيا ومصر.
وليس من المستبعد أن يلجأ عقيلة إلى عرقلة الحوار مجدداً إن لم يتمكن من الفوز برئاسة المجلس الرئاسي، ما سيعيد البلاد إلى المربع الأول، لكن قد يجعله ذلك عرضة مجدداً إلى العقوبات الأوروبية والأمريكية.
التعديل الحكومي لم يعد واقعياً
دعوة رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج لتشكيل حكومة وحدة وطنية، للإشراف على الانتخابات القادمة، لن يكون لها جدوى إذا نجحت الأمم المتحدة في تشكيل سلطة تنفيذية موحدة عبر ملتقى الحوار.
فباستثناء الدعم الإيطالي المحتشم، لا تحظى فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية، بتأييد دولي واسع.
واعتماد السراج على حشد نواب طرابلس وطبرق لتأييد هذا الخيار قد لا يكلل بالنجاح نظراً للانقسام الحاد في صفوف نواب البرلمان، الذي فشل في انتخاب رئيس جديد له خلال اجتماعه بنصاب كامل في مدينة غدامس الليبية (جنوب غرب).
يبقى أمام السراج رهانان لقيادة المرحلة الانتقالية؛ إما التحالف مع حفتر المسيطر على شرق وجنوب البلاد، وهذا الأمر مستبعد لرفض الأخير أنصاف الحلول، ورغبته في الاستفراد بالحكم لا تقاسمه.
الرهان الثاني للسراج أن يفشل ملتقى الحوار في انتخاب سلطة تنفيذية مؤقتة، فيصبح تشكيل حكومة وحدة وطنية أمراً واقعاً حتى لا تدخل البلاد في حالة فراغ سياسي.
فبالنظر إلى تجارب سابقة، نجح حفتر وعقيلة في عرقلة تنفيذ أكثر من اتفاق؛ بينها الاتفاق السياسي الموقع نهاية 2015، وكذلك اجتماع غدامس 2020، واتفاقات باريس وباليرمو وأبوظبي.. وليس من المستبعد أن يُفشلا أي اتفاق لا يحفظ مصالحهما.
حفتر لم ييأس من الحروب
يُعد حفتر أحد أهم الخاسرين في حال نجح ملتقى الحوار في تشكيل سلطة تنفيذية موحدة، لأنه قد يفقد الغطاء السياسي الذي منحه إياه رئيس برلمان طبرق، خاصة إذا خسر عقيلة معركة رئاسة المجلس الرئاسي.
وحتى إذا تولى عقيلة رئاسة المجلس الرئاسي، فإن صلاحياته لا تسمح له بتعيين حفتر قائداً للجيش إلا بموافقة نائبيه من الجنوب والغرب، ما يصعب مهمته إلا إذا اخترق التفاهمات التي تمت برعاية أممية.
وفي حالة لم يظفر حفتر بقيادة الجيش، قد يلجأ إلى سيناريو إشعال حرب، لخلط الأوراق، والتأكيد أنه لا يمكن إقامة سلام في ليبيا بدونه.
ولا يملك حفتر حالياً إمكانية شن حرب شاملة على الغرب الليبي، بسبب توازن الرعب وقدرة الجيش الحكومي على ردع أي هجوم من الشرق أو الجنوب، بفضل دعم تركيا العسكري له، وامتلاكه لطائرات بيرقدار المسيرة، ما يحرم ميليشيات الشرق من أي تفوق جوي.
لذلك قد يلجأ قائد ميليشيات الشرق إلى الدخول في مناوشات على خطوط التماس لتسخين الجبهة، والبحث عن أوراق للتفاوض.
وفي كل الحالات بدأ دور حفتر يتآكل، بدليل استقبال روسيا لممثلين عن سيف الإسلام القذافي، ومحاولة موالين للأخير تنفيذ انقلاب عليه، ناهيك عن المنافسة التي يحاول عقيلة فرضها عليه لتقاسم السلطة والنفوذ في الشرق، بدعم من القاهرة وموسكو.
وتلويح فرنسا بفرض عقوبات ضد من يعرقلون الحوار، رغم أنها من أوقفت عقوبات أوروبية كانت ستفرض على حفتر في 2016، لعرقلته تنفيذ الاتفاق السياسي.
غير أن ما لا شك فيه أن الاتفاق على آلية لاختيار السلطة التنفيذية الموحدة، يمثل أهم حدث سياسي منذ 2015، من شأنه أن يضع القطار الليبي على سكة الحل السياسي، قبل الوصول إلى محطة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل نهاية 2021، والتي ستنهي سلسلة المراحل الانتقالية بليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011.