مصر هبة النيل. فعبر آلاف السنين أعطت مياهه الطينية أرضها ثروتها الزراعية، واليوم قد يتناول بعض سكان العاصمة القاهرة إفطارهم بأحد المطاعم العائمة أو يستقل بعضهم فلوكة في رحلة نهرية على صفحته، وأصبح التجديف رياضة للبعض الآخر، لكن الكثيرين محرومون من مجرد رؤيته.
صحيفة The New York Times الأمريكية رصدت أحوال النهر الذي يشق طريقه في قلب العاصمة قبل أن تنتهي رحلته باللقاء مع مياه البحر المتوسط المالحة بالشمال، في تقرير ركز على التجديف في النيل وكيف تطور في السنوات الأخيرة.
يحل غروب الشمس، فيُومض نيل القاهرة، وترى قوارب الحفلات وأنوارها تتلألأ على وجهه كما لو كنت في فيغاس، والأحبة على كوبري قصر النيل يتهادون في مشيتهم تنسُّماً لهوائه، والمقاهي على ضفافه لا تكاد تخلو من روادها إلى ما بعد مواعيد النوم في معظم المدن الأخرى.
وبحلول السادسة صباحاً، وبينما يعود أهل الليل الساهرون إلى منازلهم، يخرج المجدّفون إلى القاهرة التي لا يعرفها إلا قلة من الناس: حيث شوارعها بلا زحمة مرور ولا حشود متدافعة، وغيوم الفوضى لا تهيمن على سمائها. حتى الطيور تكون مسموعة في هذا الوقت من الصباح، فيما لم تنتظم أرتال السيارات وأبواقها بعدُ لتنافس تغريدها.
ويسود الأجواء ضبابُ الشتاء يخفي وراءه الفنادق ذات الخمس نجوم المنتشرة على طول ضفاف النيل. في قواربهم، تضرب شفرات المجادف صفحة النهر وتقطع تتابُعه كما لو أنها سكاكين تنفذ عبر جبن كريمي. ويحل الإيقاع محل الفكر والانشغال بالأعباء: نزّل المجاديف، ادفع بالساقين، اسحب للخلف، ثم تكرار، وهكذا.
التجديف في النيل
تقول عبير علي، (24 عاماً)، التي أسَّست "أكاديمية نايل دراغونز"، وهي مَدرسة لتعليم التجديف وممارسته تقع في وسط القاهرة: "أن تكون على الماء بالصباح الباكر، حيث لا تفكر في أي شيء سوى اتباع إيقاع الشخص الذي أمامك، إنه شيء يأخذك خارج المدينة. وفي حين يفكر كثير من الناس في مشكلاتهم أثناء الاستحمام، أفكر أنا بها أثناء التجديف".
وفي هذه الأيام، لم يعد نقص العمل مشكلةً تواجهها عبير. إذ بعد سنوات قليلة من افتتاح المدرسة في عام 2013، باتت لديها قائمة انتظار طويلة لمئات الأشخاص الراغبين في الالتحاق بالأكاديمية، والآن يوجد كثيرون من سكان القاهرة مهتمين بتعلم التجديف هوايةً، لدرجة أن نصف دزينة من مراكز الرياضات المائية باتت تقدم دروساً على طول ضفاف النهر في وسط المدينة.
ولمعظم القاهريين، أصبح النهر الذي من دونه ما كانت لتوجد بلادهم، مجرد مشهدٍ يرونه من بعيد، وذلك بافتراض أنه يمكن رؤيته. إذ يتيح الكورنيش المطل على ضفاف النهر للسائقين المسافرين من جنوب البلاد إلى القاهرة وعلى امتداد البلاد إلى شمالها رؤيةَ النيل دون مقاطعة.
لكن في كثير من مناطق وسط القاهرة، فإن النوادي والمطاعم الخاصة التي بُنيت على مدى العقود الأربعة الماضية على حافة النهر، أو تلك المستندة إلى صنادل ثابتة على ضفافه، أخفت النيل عن الجميع باستثناء أولئك الذين يستطيعون دفع الأموال مقابل رؤيته، ويرجع ذلك إلى أن كثيراً من المواقع الرئيسية المطلة على النيل مباشرةً مملوكةٌ لنوادٍ وهيئات تابعة للجيش والشرطة والقضاء.
معاملة سيئة للنهر
ولا شك في أن ثمة أسباباً أخرى للابتعاد عن النهر، ليس أقلها مياه الصرف الصحي والقمامة والملوثات الأخرى الممتدة على ضفافه لأميال، قبل أن يتدفق بلونه البني الأخضر وروائحه اللاذعة بين الحين والآخر، إلى القاهرة. ومن ثم، فإن المجدفين لا يتشاركون مياه النهر مع قوارب الشرطة والصيادين والعبارات فحسب، لكن أيضاً مع جزر القمامة العرضية، والحيوانات النافقة في بعض الأحيان.
يقول أمير جوهر، وهو مخطط يعمل بتخطيط المدن وهندسة المناظر الطبيعية ودرس علاقة المصريين بنهر النيل: "إذا كان وجودنا استمر لآلاف السنين بفضل النيل، فإننا الآن، مع ذلك، نُلوثه ونهمل الحفاظ عليه".
لا تزال بعض أجزاء الكورنيش مفتوحة للمشي، وفي أحياء القاهرة الفقيرة وأنحاء أخرى من مصر، يذهب الناس إلى النيل للسباحة وصيد الأسماك، وإذا لم تكن لديهم مياه جارية، فإنهم يغسلون فيه أطباقهم وملابسهم وحيواناتهم. لكن بالمقارنة مع ماضي القاهرة، فإن قاطنيها اليوم يحافظون على علاقة بعيدة جداً بالنهر.
تشير المنحوتات القديمة ونماذج القوارب الموجودة في المقابر إلى أن الناس كانوا يجدفون عبر النهر لنقل المؤن والإمدادات، ومنها الكتل الحجرية الضخمة التي استُخدمت في بناء الأهرام العظيمة، أو للاحتفال بأعيادهم، أو حتى لمجرد التنقل.
نوادي التجديف بدعة أوروبية
كان الأوروبيون الذين سيطروا على مصر في أوائل القرن العشرين أول من أنشأ نوادي التجديف الحديثة على طول نهر النيل. ولعقودٍ من الزمان، ظل التجديف رياضة مقصورة على الأجانب ونخب المصريين، وسباقاته تحمل أسماء فرنسية.
لكن بعد سقوط النظام الملكي وهروب الأجانب في أعقاب ثورة يوليو/تموز عام 1952، تغير حال النيل، مثله مثل كثير من الأشياء التي تغيرت بمصر في ظل الرؤية الاشتراكية للرئيس جمال عبدالناصر. وعندما أنشأ عبدالناصر نقابات عمالية جديدة لرعاية احتياجات أعضائها، من الإسكان إلى الرعاية الاجتماعية، مُنحت هذه النقابات أراضي على ضفاف النيل لبناء مقرات ونوادٍ، حيث بإمكان الأعضاء الاسترخاء، وفي بعض الحالات، التجديف.
في سبعينيات القرن الماضي، وفي سعيها لاجتذاب السياح للعودة إلى مصر بعد الحرب مع إسرائيل، نظّمت الحكومة سباقات قوارب اجتذبت مشاهير رياضة التجديف من أوروبا والولايات المتحدة، وتسابقوا عبر معابد الأقصر وفي وسط القاهرة. لكن بين المصريين، لم يستطع التجديف قط منافسة الرياضات الشعبية، مثل كرة القدم.
واليوم لا تزال الأندية الخاصة على طول النيل مملوكةً لنقابة المهندسين وناديي القضاة والشرطة وغيرها. لكن مع نزوع الحكومات اللاحقة للناصرية إلى الرأسمالية وسياسات الانفتاح الاقتصادي، استغلت شركات خاصة ضفاف النهر لبناء المقاهي والمساكن باهظة الثمن.
القاهرة مدينة التناقضات
وفي هذا السياق، يقول يحيى شوكت، وهو باحث عمراني: "أنت تتحدث عن القاهرة، التي يبلغ عدد سكانها الآن 20 مليون نسمة، ومع ذلك، فليس فيها إلا أقل القليل من المساحات العامة أو المساحات الخضراء. ومع كل ما لديك على النيل، فلا يقتصر الأمر على كونه حصرياً [لبعض الناس] فحسب، لكنه أيضاً يحول دون رؤية النهر أو الاستمتاع به".
ومع ذلك، يستأثر المصريون بضفاف النهر حيثما أمكنهم ذلك، ويسافر بعضهم من أماكن بعيدة حتى ضواحي المدينة بحثاً عن حديقة مجانية تكون مطلةً عليه. وكل ليلة، ترى القاهريون مجتمعين على جسور النيل للتمتع بهوائه، واصطياد بعض السمك، فيما تشتري العائلات وجبات خفيفة من الحمص المطهي والبطاطا من البائعين الذين يقيمون مقاهي غير مرخصة على الرصيف.
وتكلف صفوف التجديف نحو 7 دولارات (110 جنيهات مصرية) إلى 13 دولاراً (205 جنيهات مصرية) في الساعة، وهي تكلفة بعيدة عن متناول معظم المصريين. لكن بين المهنيين الشباب وعائلات الطبقة المتوسطة العليا الذين يمكنهم تحمُّل تكاليفها، أصبح التجديف هواية يتسارع انتشارها، وبعضهم يمارسها وسيلةً للترفيه، وغيرهم للانضمام إلى فرق سباقات الهواة.
وتقول مدارس الرياضات المائية إنها سجلت ارتفاعاً في أعداد الملتحقين الجدد بها من سن العشرينيات حتى الستينيات من عمرهم، لا سيما بعد موجة الاهتمام برياضات اللياقة البدنية التي ظهرت بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بمصر. وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً في الترويج لتلك المدارس، كما فعل الوباء، إذ تضاعف عدد المشتركين الباحثين عن بعض الهواء الطلق، بعد الجائحة.
تقول إيما بناني، أحد المشاركين في تأسيس Cairow، وهي مَدرسة أخرى لتعليم الرياضات المائية بحي الدقي، إن "التجديف لم يعد متاحاً على هذا النحو إلا مؤخراً"، وتشير إلى أنها عندما بدأت ممارسة التجديف في عام 2011، لم تكن هناك سوى فرق الطلاب أو أندية خاصة، لا شيء تقريباً للهواة.
من جهة أخرى، يأتي عديد من المجدِّفين الجدد بأسئلة من نوعية: إذا وقعت في الماء، ألا أغرق؟ أليست هناك دوامات؟ ألن أصاب بالبلهارسيا؟
يشرح المدربون أن ذلك لن يحدث، لأن الطفيليات لا تزدهر في تيارات المياه المتحركة، وتقول عبير علي، من أكاديمية نايل دراغونز، إنها اضطرت في مرة من المرات إلى الشرب من مياه النيل مباشرة؛ لطمأنة المجدِّفين الحذرين بأنه لا داعي لحذرٍ مبالغ فيه. وتقول مريم رشاد، وهي مدربة في القاهرة، "كنت أخاف من مياه النيل قبلاً. الآن أشعر بأن [التجديف في] النيل جزء لا غنى عنه من يومي".