جاءت بداية العام بضربة جديدة يواجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الساعي إلى فوز نادر بفترة رئاسية ثانية العام المقبل، فهل يفعلها ويتخطى التحدي الأكبر الذي يواجهه؟
حملة تلقيح كورونا تثير الغضب
بدأت فرنسا حملة التطعيم ضد وباء كورونا في نفس اليوم الذي بدأت فيه ألمانيا، وبعد مرور 10 أيام كانت ألمانيا قد أعطت اللقاح لـ239 ألفاً من مواطنيها، بينما تلقى 500 مواطن فرنسي فقط اللقاح في نفس الفترة، وهو ما تسبب في حالة من الغضب الشديد تجاه الحكومة الفرنسية، أضيف إلى عوامل الغضب الأخرى الكثيرة والمتنوعة خلال السنوات القليلة الماضية.
ويرى كثير من الخبراء أن تلك البداية السيئة للعام تمثل مزيداً من العقبات للتحدي الضخم الذي يواجهه الرئيس ماكرون ويتمثل في سعيه للفوز بفترة رئاسية ثانية قبل 15 شهراً فقط من مودد الانتخابات، بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وإضافة إلى تلك البداية السيئة وما سبقها من محطات أخرى للفشل، من المُحتَمَل أن تتعرض طموحات ماكرون للفوز للعرقلة من جانب مراوغتين ميَّزتا الانتخابات منذ تصميم النظام الرئاسي للجنرال ديغول عام 1958. إذ كانت إعادة انتخاب ديغول عام 1956، وهي المرة الأولى التي صوَّتَت فيها فرنسا مباشرةً لقائدها، آخر مرة أُعيدَ فيها انتخاب رئيس في منصبه أثناء إدارة البلاد.
ومنذ ذلك الحين، طَرَدَ الفرنسيون حكَّامهم جميعاً باستثناء مرتين كان فيهما الحاكم في المقعد الخلفي، بينما كان رؤساء الوزراء من المعارضة يديرون البلاد بعد أن حازوا السلطة في البرلمان في منتصف المدة.
تاريخ الرئاسة الفرنسية ليس في صالح ماكرون
فاز الرئيس ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي، عام 1988 بعد رفض جاك شيراك، رئيس الوزراء المحافظ. وفي عام 2002، فاز شيراك بدوره على ليونيل جوسبان، رئيس الوزراء الاشتراكي الذي كان يدير البلاد بالفعل، ظافراً بولايةٍ ثانية.
لعقودٍ من الزمن، أدَّت الحملات الانتخابية الرئاسية، التي اعتاد المرشحون خلالها تقديم أنفسهم على أنهم منقذون وطنيون يتنافسون في الجولة الثانية، إلى ظهور مفاجآتٍ قلبت التوقَّعات. أدَّى الظهور المفاجئ في عام 2002 لزعيم اليمين المتطرِّف جان ماري لوبان إلى إقصاء جوسبان في الجولة الأولى، ومكَّن شيراك بذلك من إعادة انتخابه بسهولة.
وكان ماكرون هو المستفيد من آخر مفاجأة كبيرة. دخل السباق قبل أربعة أشهر من التصويت، بعد أن خسر هولاند، الذي كان مُعلِّم ماكرون ورئيسه. كان يقود حزبه الخاص، "الجمهورية إلى الأمام"، ولم يُمنَح سوى فرصة ضئيلة للفوز بالجولة الأولى. ثم سقط فرانسوا فيون، من الجمهوريين المحافظين والمُفضَّل لدى الإليزيه، بسبب فضيحةٍ على خلفية الوظيفة الزائفة لزوجته البريطانية كمساعدةٍ له.
وقال جيروم جافري، أستاذ العلوم السياسي وخبير استطلاعات الرأي، للصحيفة البريطانية أن "الفوز بإعادة انتخابه في 2022 سيكون خطوةً غير مسبوقة، لأن ماكرون يواجه أعنف أزمة اقتصادية منذ عام 1945". ومع ذلك، لا يستبعد جافري إمكانية فوز ماكرون، ويقول إن لديه فرصةً للفوز.
أما رولاند كايرول، وهو عالمٌ سياسي بارز آخر، فقال إن ماكرون "من المُرجَّح للغاية أن يُعاد انتخابه"، رغم مفاجآت اللحظة الأخيرة، وقال لصحيفة La Libre Belgique الفرنسية: "سيكون هذا بمثابة إنجاز حقيقي".
ماذا تغير عن الانتخابات الأولى؟
فاز إيمانويل ماكرون بالرئاسة الفرنسية في عام 2017 وهو موظَّف حكومي شاب ومصرفي لديه خبرة في السياسة الانتخابية. ومع بداية العام الأخير من فترته الرئاسية، يهدف إلى خوض الصعاب مرةً أخرى طامحاً لأن يكون أحد الرؤساء الفرنسيين النادر فوزهم بفترةٍ رئاسيةٍ ثانية.
ويثق ماكرون (43 عاماً) من قدرته على التغلُّب على ساحةٍ من المعارضين الضعفاء في غضون الـ15 شهراً المقبلة حتى الانتخابات المؤهِّلة لقصر الإليزيه، رغم الأزمات التي هشَّمَت خططه لقيادة النهضة الفرنسية.
تبدو العقبات هائلة. وظهرت خيبة الأمل سريعاً في أعقاب حملة ماكرون المستقلة بعد أن قضى عامين في منصب وزير الاقتصاد في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند.
إذ جاءت إضرابات شلَّت القطاع العام ضد إصلاحاته في عام 2019 بعد شتاءٍ طويل من احتجاجات السترات الصفراء. وبعد عام، أوقف فيروس كورونا المُستجَد مساعيه للتحديث وأثار غضباً شعبياً بشأن تعامل حكومته مع الجائحة.
ورغم ذلك، يتمتَّع فريق ماكرون بثقةٍ كبيرة، وهذا مثيرٌ للاندهاش نظراً للمتاعب التي عانت منها فترته الرئاسية، تقريباً منذ البداية، والتآكل الشديد لشعبيته خلال احتجاجات السترات الصفراء. وهم يشعرون بالتحفيز بالنظر إلى العودة إلى اكتساب الاحترام في عين الجمهور بنسبة تأييد 40% هذا الشتاء، وهو مستوى أعلى بكثير مِمَّا تمتَّع به نيكولاي ساركوزي وهولاند في المراحل الختامية من رئاستهما.
ومن خلال الظهور التلفزيوني منذ بداية الجائحة وبعد الهجمات الإرهابية في الخريف، استعرض ماكرون شخصيةً أكثر تعاطفاً بكثير من النسخة المتعجرفة السابقة التي أظهرها في رئاسته والتي أثارت الكراهية على نطاقٍ واسع.
مؤشرات تصب في صالحه
كان نشر ماكرون لمقطع فيديو غير رسمي التقطه لنفسه أثناء مرضه بكوفيد-19، قبل عيد الميلاد، بعيداً كلَّ البُعدِ عن أسلوبه المتفاخر المعتاد في مكتبه المُذهَب في القصر.
وقال أحد مساعدي الإليزيه: "كان الفرنسيون يرونه كلَّ ليلةٍ تقريباً على التلفزيون منذ الربيع". وأضاف أنهم "فهموا أنه ليس "رئيس الأثرياء" أو رجلاً كاريكاتيرياً متغطرساً. لقد وجدوا رجلاً يبذل قصارى جهده ويتصدَّى للضربات".
وقال ريتشارد فيران، المتحدِّث باسم الجمعية الوطنية: "حتى أولئك الذين ليس لديهم أيُّ تعاطفٍ طبيعي معه يدركون الآن صفاته العظيمة".
انطلق ماكرون في الجائحة لإعادة صياغة نفسه باعتباره حامياً للشعب. وقد بدأ في استمالة الجمهور المحافظ الذي من المُحتَمَل أن يتأرجح في الانتخابات المقبلة. ويأمل ماكرون أن يضعه ذلك مرةً أخرى كمُرشَّحٍ ذي فرصةٍ قوية أمام مارين لوبان (52 عاماً)، الزعيمة اليمينية المُتطرِّفة للجبهة الوطنية المُناهِضة للهجرة، والتي أُعيدَت تسميتها بالتجمُّع الوطني. خاضت الانتخابات ضده في الجولة الثانية من انتخابات 2017، ولا تزال خصماً مُحتَمَلاً له.
لقد تسبَّبَ احتضان الرئيس الأخير لنهج القانون والنظام، والموضوعات القومية العزيزة على اليمين، في استمالة جناح يسار الوسط في حركته، وهي حزبٌ هجينٌ يتضمَّن اشتراكيين سابقين ومُنشَقين سابقين عن الجمهوريين المحافظين. وفي الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول، أقرَّ ماكرون بإعجابه بالمسيرة المهنية العسكرية السابقة لفيليب بيتان، زعيم حكومة التعاون المؤيِّدة للنازية التي أُدينَ بالخيانة عام 1945.
ويحاوَلَ ماكرون التخلي عن صورته السابقة كمثقفٍ يميل إلى اليسار. وقال لمجلة L'Express الفرنسية قبل عيد الميلاد: "قالوا إنني متعدِّد الثقافات، ولم أكن كذلك". وقال إن ما يحفِّزه هو السعي وراء "المغامرة الفرنسية" بكلِّ ما تعنيه للهوية الفرنسية.
وفي الوقت الحالي، توقَّفَت حملة الإصلاح بينما ركَّزَ الرئيس على تخفيف الضربات الاقتصادية بنحو 200 مليار يورو من الإنفاق العام على الشركات المُتعثِّرة ودعم الدخل.
وأثناء الحملة على ما يصفه ماكرون "بالإسلام المُتطرِّف" في أعقاب الهجمات الإرهابية في الخريف، كان ماكرون يحاول الحفاظ على قدمه في المعسكر اليساري المعتدل، حيث أطلق نفسه كسياسي في عام 2016.
لكنه يعاني من فشلٍ في تحويل "الجمهورية إلى الأمام" من نادٍ للمعجَبين إلى حزبٍ حقيقي. ولقد انشقَّ العديد من النواب بعد أن جاء الحزب من العدم ليفوز بأغلبيةٍ مُطلَقة في الجمعية الوطنية ويُمحَى تماماً على المستوى المحلي المهم للغاية.
ويرى بعض المراقبين أن ماكرون ربما لا يكون قادراً على استمالة اليمين رغم انحيازه لذلك التيار بشكل واضح بعد وصوله للرئاسة، وبذلك يكون قد فقد التيارين الرئيسيين معاً.
ومع ذلك، تظل لدى ماكرون فرصة للفوز بفترة ثانية في ظل غياب خصومٍ معقولين، باستثناء لوبان. ولا تزال زعيمة اليمين المتطرِّف تحظى بفرصٍ ضئيلة لأن أغلبيةً قوية ترفض شعبويتها المتطرِّفة.