بعد سنوات من القطيعة أُنهيت في قمة العلا الخليجية، أصبح التساؤل في دوائر الأعمال يدور حول حجم الفوائد الاقتصادية للمصالحة الخليجية بعد أن تكبدت البلدان الخمسة خسائر اقتصادية جراء الحصار الذي فُرض على قطر عام 2017.
وتشير تحليلات إلى أن المقاطعة التي بدأتها السعودية والإمارات والبحرين ومصر لدولة قطر، في يونيو/حزيران 2017، قد أثرت بشكل كبير على الدول الخمس، وذهبت بمليارات الدولارات التي كان يمكن توفيرها لو لم تحدث الأزمة.
والآن، فإن الشركات والمؤسسات في هذه الدول تتطلع إلى الفوائد الاقتصادية للمصالحة الخليجية بعد سنوات من الخسارة.
رغم خسائر قطر.. أداء اقتصادها كان الأفضل خليجياً
خلال السنوات التالية للحصار تكبدت قطر خسائر اقتصادية تمثلت في انخفاض أسعار العقارات وخسائر طالت شركة طيرانها الوطنية، كما فقدت مصادر هامة للغذاء والمواد الأولية، التي كانت تحصل عليها من الدول التي قامت بمقاطعتها.
وأدى الانشقاق الإقليمي لتشتت العديد من الأسر وارتفاع تكلفة الأعمال التجارية بعدما فرضت السعودية والدول الحليفة لها مقاطعة اقتصادية على قطر منعت طائراتها من عبور أجوائها.
ولكن اللافت أن هدف الحصار كان إضعاف قطر اقتصادياً، ولكن وكالة بلومبيرغ الأمريكية ومجلة "إيكونوميست" البريطانية تحدثتا في تقارير سابقة لهما عن خسائر مالية جسيمة أيضاً طالت كلاً من الإمارات والسعودية جراء المقاطعة، فبحسب ما نشرته الوكالة والمجلة فإن القطريين كانوا من كبار المستثمرين في العقارات بالإمارات، إضافة إلى خسائر بقيمة 1.1 مليار دولار للعام الواحد جراء توقف السياحة القطرية لدبي.
كما أن السعودية فقدت السوق القطري كمركز لبيع منتجاتها كالأغذية ومنتجات الألبان بخلاف سوق الإعمار والبناء، حسبما ورد في تقرير لموقع دويتش فيليه الألماني.
ورغم الصدمة الأولى بعد اندلاع الأزمة، أثبت اقتصاد قطر أنه أكثر مرونة من منافسيه الخليجيين، مع توقع صندوق النقد الدولي أن تكون الإمارة الخليجية الواحدة من الدول القليلة في العالم التي ستحقق فائضاً في الميزانية في عام 2020. وبحسب صندوق النقد الدولي استمر اقتصاد قطر في النمو.
وجاء انهيار أسعار النفط جراء جائحة كورونا ليضيف مزيداً من الصعاب، لاقتصادات دول الخليج، والمفارقة أن قطر كانت الأقل تأثراً، حسبما تقول مجلة The Economist الأمريكية.
واستقر الاقتصاد القطري، بل إنه واصل النمو، وحقق فائضاً وصل لنحو 6% في ظل جائحة كورونا، بحسب ما نشرته "بلومبيرغ"، في مايو/أيار 2020.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، قامت وكالة التصنيف العالمية S&P بتصحيح التوقعات لقطر من سلبية إلى مستقرة. وبسبب المقاطعة أخذت قطر تولي القطاع الزراعي أهمية كبيرة.
وبعد عامين من جلب آلاف الأبقار المدرّة للحليب من أجل التغلّب على الحظر التجاري أصبحت شركة "بلدنا" القطرية لإنتاج الألبان تصدر للخارج للمرة الأولى.
وقال المسؤولون القطريون إن التوسع السريع لشركة "بلدنا" أظهر أن المقاطعة جعلت الاقتصاد القطري أشد قوة من ذي قبل، حيث يتمثل هدفهم في تشجيع المنتجين المحليين.
وحسب تقرير سابق للموقع الإلكتروني المعني بالسياسة في الشرق الأوسط "المونيتور" نجحت قطر في احتواء تداعيات المقاطعة على اقتصادها على عكس السعودية والإمارات. وهذه الأخيرة تعاني من ركود حاد في سوق العقارات (خاصة في دبي) وارتفاع مديونيتها وتراجع أسعار النفط، وهو نفس التحدي الذي تواجهه الرياض.
وقد يكون ذلك هو أحد دوافع المصالحة الخليجية، إذ نشر مقال بموقع صحيفة "الإندبندنت" البريطانية بتاريخ 6 مايو/أيار 2020، تناول أحمد أبو دوح التغيير الذي قد تخلفه جائحة فيروس كورونا على السياسة في الخليج ودفعها بالعلاقات بين كل من السعودية وقطر إلى تقارب محتمل. وكتب: "على الرغم من أن العقبات الرئيسية لا تزال في طريق ذوبان الجليد الحقيقي، فإن فشل المقاطعة في إركاع قطر، والحاجة الملحة لإعادة تشكيل دور الملوك الخليجيين في المستقبل لاعتماد الاتجاهات الاقتصادية والجيوسياسية الجديدة، على الأرجح ستنهي العداء".
وبعد تحقيق المصالحة التي تم إعلانها في قمة العلا، فإن كل ما لحق بدول الأزمة من خسائر يفترض أن يتحول جزء منه إلى أرباح فور عودة فتح الحدود وإعادة المعاملات إلى ما كانت عليه في السابق.
خسائر كبيرة في التبادل التجاري والاستثمار
وعقب اندلاع الأزمة أظهرت إحصائيات رسمية أن السعودية والإمارات والبحرين تستحوذ على 87% من حركة التبادل التجاري بين قطر والدول الخليجية.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين قطر ودول العالم في 2016 نحو 324 مليار ريال (89 مليار دولار)، كانت حصة دول الخليج منها 11.7%.
في العام الذي سبق الانقسام بلغ إجمالي تجارة قطر مع السعودية حوالي 1.7 مليار دولار، وبلغ إجمالي تجارة قطر مع الإمارات 3.5 مليار دولار، وفقاً لبيانات بلومبيرغ.
لتشكل صادرات الدول الثلاث إلى قطر 89% من إجمالي واردات قطر من الدول الخليجية.
وكانت دولة قطر تستورد ما نسبته 15% من المواد الغذائية من السعودية، و11% من الإمارات.
أما بالنسبة للصادرات، ففي الربع الأول من العام المالي 2017 تصدّرت السعودية الدول المستقبلة للصادرات القطرية غير النفطية بنحو 41% من إجمالي هذه الصادرات، تبعتها الإمارات بنسبة 32%، وفقاً لغرفة قطر، أي أن السعودية والإمارات تستحوذان على 65% من صادرات قطر إلى الدول العربية.
فيما يتعلق بالزوار الدوليين، وصل حوالي 45% من الزوار الليليين إلى قطر من البحرين ومصر والسعودية والإمارات قبل الحصار، ولكن بحلول عام 2019 انخفض هذا بنسبة تزيد عن 90%.
وأوضحت إحصاءات رسمية لمجلس التعاون الخليجي أن قطر استقبلت نحو 1.3 مليون من مواطني دول مجلس التعاون خلال 2016.
دبي الخاسر الأكبر من الأزمة
وكانت الإمارات على رأس الخاسرين، بعد أن فقد ميناء "جبل علي" موقعه كميناء وسيط للشركات العالمية التي تصدّر بضائعها إلى قطر.
وتشير مجلة "إيكونوميست" البريطانية إلى أن تلك الشركات حوّلت شحناتها من المواد الغذائية ومواد البناء من الميناء إلى ميناء صلالة العماني.
وفي أواخر 2017، افتتحت قطر ميناء حمد بقيمة 7.4 مليار دولار، وصُمم ليصبح مركزاً للنقل البحري الإقليمي.
وتكبّد القطاع المصرفي الإماراتي خسائر باهظة بعد أن قررت بنوك عالمية نقل جزء من خدماتها المصرفية من دبي إلى لندن ونيويورك.
وفي يونيو/حزيران 2018، قالت "إيكونوميست" إن إمارة دبي بدأت تخسر الشركات والاستثمارات القطرية التي كانت تنعشها.
وأشارت إلى أن استمرار المقاطعة سيضر بسوق العقارات في الإمارة مع بلوغ مشتريات المستثمرين القطريين من العقارات نحو 500 مليون دولار عام 2016.
ولفتت المجلة أيضاً إلى أن 300 شركة سعودية خسرت أكثر من مليار دولار؛ بعد أن فقدت حصتها في السوق القطري بشكل كامل، والتي كانت تصل إلى 1.2 مليار ريال قطري.
وخسرت شركة الألبان السعودية العملاقة "المراعي" نحو 25% من مبيعاتها في اليوم الأول للأزمة، بحسب "إيكونوميست".
وقالت المجلة إن هذه الشركات تكبّدت خسائر بمليارات الدولارات، لكنها لم تعلن عنها لأسباب سياسية.
وإحدى الفوائد الاقتصادية للمصالحة الخليجية هي تحريك السوق الخليجية المشتركة بعد فتح الحدود، ما يحمل معه آمالاً أن تتمكن دول الخليج من تحقيق "المواطنة الاقتصادية" التي أقرها مجلس التعاون الخليجي منذ عام 2001.
وسيعود مواطنو دول الخليج إلى السفر إلى قطر براً أو جواً أو بحراً بغرض التجارة أو السياحة أو الإقامة، بعد العوائق التي فرضتها الأزمة الخليجية، وهو ما سيفعله القطريون أيضاً.
قطر.. توفير نفقات
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالله الخاطر، أن الفوائد الاقتصادية للمصالحة الخليجية ستكون لدول الحصار أكبر من قطر، لأن الدوحة استطاعت أن تجعل اقتصادها أكثر اعتماداً على الذات، وتحقيق قدر من الاكتفاء الغذائي".
وأضاف في حديث لموقع "الخليج أونلاين": "أن قطر ستستفيد من فتح الحدود البرية والبحرية وفتح الأجواء، لكن في المقابل ستستفيد الدول المقاطعة من فتح السوق القطري".
الباحث الاقتصادي محمد رمضان أكد لـ"الخليج أونلاين" أن الفوائد الاقتصادية للمصالحة الخليجية سيكون لها تأثير إيجابي على الاقتصاد القطري خلال الفترة القادمة، "ولكن لن يكون كبيراً؛ لكون الدول الخليجية لا تعتمد كثيراً على التبادل التجاري".
لكن بينما نجحت قطر في حل مشاكل بعض قطاعاتها الاقتصادية، فإن قطاعات أخرى في الاقتصاد القطري تعاني؛ فقد تضرر قطاعا العقارات والبيع بالتجزئة، وأصبحت مراكز التسوق والفنادق التي كانت تعجّ أحياناً بالسائحين السعوديين والإماراتيين شبه خالية.
كما انخفضت أسعار العقارات بشكل حاد؛ وسط تخمة المعروض في الفترة التي تسبق استضافة قطر لكأس العالم عام 2022.
الطيران أبرز الفوائد الاقتصادية للمصالحة الخليجية بالنسبة لقطر
في مارس/آذار 2019، أعلنت الخطوط الجوية القطرية عن خسائر سنوية للعام الثاني توالياً؛ فبعد أن منعتها دول المقاطعة من استخدام مجالها الجوي اضطرت الشركة لتغيير مسارات وإعادة توجيه كثير من الرحلات الجوية، ما أدى إلى زيادة المدة والكلفة.
وبحسب الإدارة الأمريكية فإن إجبار الطيران القطري على استخدام المجال الجوي الإيراني أفاد خزينة طهران بـ100 مليون دولار سنوياً، وهو رقم ستحصل عليه دول المقاطعة حال عودة الطيران القطري للتحليق بأجوائها.
ولذا يصبح مجال الطيران بالنسبة لقطر من أهم المستفيدين اقتصادياً من المصالحة الخليجية.
وقد يكون أيضاً دافعاً مهماً لحماس إدارة ترامب للمصالحة لحرمان إيران من هذه الأموال.
هل تحدث تغييرات اقتصادية فورية؟
لكن لا يجب المبالغة في تأثير المصالحة القطرية مع السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع قطر، فإن حجم التأثير يجب "عدم المبالغة فيه" وفقاً لما قاله الاقتصادي البارز سكوت ليفرمور.
وقال ليفرمور، كبير الاقتصاديين، بأكسفورد إيكونوميكس ميدل إيست، لمجلة Arabian Business: "إنه فيما يتعلق بالتأثير على الإمارات والسعودية والبحرين يجب أن يكون إيجابياً، ولكن لا ينبغي المبالغة في حجم التأثير".
إذ سيؤدي التقارب مع قطر إلى تحفيز الزوار والاستثمار المحتمل من قطر، فضلاً عن المساهمة في خلق بيئة سياسية أكثر استقراراً في منطقة الخليج، الأمر الذي يُعد إيجابياً على جاذبيتها للمستثمرين الدوليين.
"ومع ذلك ستكون المكاسب بطيئة نسبياً في التراكم، خاصة أن هناك احتمالاً أن تكون التوترات لم يتم حلها بشكل دائم".
من منظور تجاري، فإن ما يقدر بنحو 60% من الواردات إلى قطر جاءت من دول محاصرة. وقد أجبر ذلك قطر على البحث عن طرق تجارية مباشرة، وتحديد موردين جدد أو تطوير مصادر محلية. كما فقدت الصادرات القطرية غير النفطية الوصول إلى الأسواق الرئيسية، حسبما قال ليفرمور.
من جانبه، قال رودولف لومير، الشريك في المعهد الوطني للتحولات في كيرني الشرق الأوسط، لمجلة"Arabian Business"، إن إعادة العلاقات "أخبار جيدة للغاية" لدول مجلس التعاون الخليجي والمنطقة.
وأضاف: "بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي سيعني ذلك تجديد الحيوية والشرعية والقوة في نهاية المطاف"، مضيفاً: "بالنسبة للمنطقة ككل نأمل أن يكون الاختراق خطوة مهمة نحو تكامل اقتصادي أعمق، وهو أمر استراتيجي للجميع".
وقال "من خلال تسهيل تدفقات التجارة والاستثمار والأفكار عبر الحدود يمكن للمنطقة تسريع النمو، وجذب مستويات أعلى من الاستثمار الأجنبي المباشر، وتوسيع الابتكار، وزيادة القدرة التنافسية العالمية من خلال الاستفادة الكاملة من تكاملاتها الاقتصادية".
ولكن تظل الآثار النفسية تحتاج إلى وقت لمعالجتها، وهي آثار لها تداعيات اقتصادية، فعودة السائحين القطريين إلى دبي بأعداد كبيرة أو شراء المستهلكين في الدوحة لمنتجات سعودية وإماراتية بعدما تعودوا على منتجات أخرى، أمر يحتاج إلى وقت، والأهم وجود ثقة في عدم تكرار ما حدث في 5 يونيو/حزيران 2017.