انتهى عام 2020 العصيب وسط حالات من الإغلاق حول العالم، إذ صادفنا في هذا العام فيروساً قاتلاً، وإدراكاً للمخاطر التي تنتظرنا بسبب التعدّي المنهجي على النظم البيئية التي تُحافظ عادةً على صحة الكوكب والحيوان والإنسان.
ومع توديعنا لهذا العام، نحتفي أيضاً بالذكرى العاشرة لـ"الربيع العربي"، سلسلة الثورات التي أدّت تداعياتها إلى حروبٍ في اليمن وليبيا وسوريا، وتقوية الاستبدادية الخانقة في مصر، والكفاح الشاق من أجل الديمقراطية في تونس. إذ نزل المواطنون الذين جُرّدوا من كرامتهم وحقوقهم إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير وإلغاء تركيز السلطات السياسية والاقتصادية في أيدي القلة الذين مارسوا التمييز ضد الغالبية.
وقصة الشرق الأوسط هي قصة تغييرٍ مُستمر، والربيع العربي هو مجرد فصلٍ فيها. إذ لم يكُن بمثابة صحوة- فهذه فكرةٌ تقترب من الإهانة داخل منطقةٍ تكون المواجهات داخلها مشحونةً بالوعي السياسي الحاد. بل كان الربيع العربي أشبه بموجة مد حصدت الطاقة المتراكمة على مر عقود من تزايد الإفقار، والحوكمة الفاسدة، والانتهاكات السياسية.
وجاءت تلك الموجة، التي استغرق تكوينها وقتاً طويلاً، على خلفيةٍ أبطأ وأهدأ، وهي: الاستنزاف البيئي في الشرق الأوسط وحول العالم، فكيف شكل مناخنا غير المستقر الربيع العربي؟
الربيع العربي والكفاح من أجل النجاة
تقول أوليفيا لازارد، الباحثة في مركز كارنيغي أوروبا، حول الجغرافيا السياسية للمناخ، إنه على غرار العديد من الحضارات التي سبقتها وتلتها، ارتكبت حضارة روما خطأ إرهاق تربتها الخاصة وتربة الأراضي التي احتلتها حتى بلغت حدودها البيئية. ومع التعرية، وإزالة الغابات، والزراعة المكثّفة فقدت التربة قدرتها على إيواء الحياة وتقديم الخدمات البيئية مثل تخزين الكربون أو الإنتاجية أو تنظيم درجات الحرارة. وفُقِدَت العديد من الموائل الطبيعية نتيجةً لتلك العملية، وسقطت روما في النهاية تاركةً في أعقابها أراضي في طريقها إلى التصحّر الشديد.
وبالمضي قدماً ألفي عام نحو بيئة مشابهة، وتحديداً في 2010، كان محمد البوعزيزي بائعاً متجولاً في سيدي بوزيد، الولاية الواقعة وسط تونس حيث ما يزال التمييز والمضايقات للعاملين في الاقتصاد غير الرسمي يُعتبر حدثاً يومياً شائعاً. ولم يكُن البوعزيزي استثنائياً في معاناته اليومية من أجل النجاة اقتصادياً ومن أجل الكرامة. بل كان عادياً مثل الكثيرين، ولهذا صار أيقونةً ترددت أصداؤها بطول الشرق الأوسط وعرضه.
إذ عاش البوعزيزي وسط بيئةٍ خانقة اقتصادياً وبيئياً، مع أراضٍ مغبرة وصخرية وصفراء على مد البصر. وحيث كان المناخ المعتدل في وقتٍ من الأوقات يُسهل ممارسات الزراعة الوفيرة، باتت هناك الآن صحراء تظهر بها بعض الزراعة التقليدية التي تُرهق الأرض بأكثر من قدرتها على الإنتاج. وحيث كانت هناك منطقة خصبة بما يكفي في وقتٍ من الأوقات لإطعام الإمبراطورية البريطانية، بات هناك الآن بلدٌ يستورد الغذاء والمحاصيل.
والزراعة الآن هي قطاعٌ اقتصادي لا يُنتج الكثير، خاصةً بالنسبة للشباب التونسي المزدهر. ولكن ليس هناك أيضاً قطاعٌ آخر يُنتج الكثير لهم من الأساس، باستثناء السياحة- التي تُوفّر فرصاً اقتصادية محدودة وموسمية- أو استخراج النفط في الجزء الجنوبي من البلاد. ويتطلّب كلا القطاعين قدرة العاملين على الانتقال من ولاية إلى أخرى، وهو الأمر الذي تمنعه الدولة لأسبابٍ أمنية.
وهذا يجعل من الاقتصاد غير الرسمي الخيار الأكثر منطقية رغم خطورته، وعدم استقراره، وعدم توفيره أي حماية اجتماعية. وداخل مجتمعٍ يأتي فيه الاعتراف والتصديق الاجتماعي من توزيع الأدوار الاجتماعية على أساسٍ جندري، فإنّ الفشل في كسب ما يكفي من لقمة العيش لإعالة الأسرة يرتبط عادةً بالفشل والإذلال.
ويأتي الإذلال عادةً على يد الدولة التي تتحدّث بلغة الأبوية ولكنّها تفشل في تقديم مزاياها. وهو سياقٌ يُولّد مشاعر اليأس والغضب والثورة، التي جرى التعبير عنها بصرياً في جداريات الشهداء ورسومات الحائط في الشوارع داخل المراكز الحضرية وشبه الحضرية حيث يعيش الشباب. ولا شكّ أنّ الأجواء السائدة اليوم في سيدي بوزيد هي أجواء مُرهِقَة ومتجاهِلة للحياة. ومما لا يُثير الدهشة أنّ الكثير من الشباب هناك يحلمون بالانتقال والهجرة كوسيلةٍ للكرامة.
الأسواق الدولية وفقدان الأمن المائي والغذائي القومي في العالم العربي
تقول لازارد في مقالتها بموقع Middle East Eye البريطاني، حين أضرم البوعزيزي النار في نفسه، كان يثور ضد النظام الاقتصادي الذي فرض عليه الإهمال. إذ يُولّد هذا النظام الثروة لنخبةٍ مندمجة بالكامل في الاقتصاد العالمي، نتيجةً لرأس المال المتراكم الذي تستثمره في الخارج. وهو نظامٌ يفتقر إلى المرونة الأساسية، لأنّ القطاعات التونسية الأكثر ربحاً مخصصةٌ لخدمة الأسواق الدولية بينما يظل الأمن المائي والغذائي القومي لا وجود له.
وفي اقتصادٍ مثل هذا، لا يتقرّر مصير الشخص داخل وطنه فقط، بل يعتمد أيضاً على الأسواق الدولية. وخلال الأسابيع التي سبقت تضحية البوعزيزي بنفسه، كانت الأمطار الغزيرة قد قطعت حصاد القمح في كندا، بينما ضرب الجفاف روسيا وكازاخستان وأوكرانيا والصين. وفي الأرجنتين، جاء حدث النينا ليُسبب فشل محاصيل الذرة وفول الصويا.
ومع تناقص المعروض، ارتفعت أسعار المحاصيل الأساسية في الأسواق الدولية. وفي ذلك الوقت، كانت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستورد بالفعل غذاءً للفرد أكثر من أيّ منطقةٍ أخرى في العالم، وأدّى تقلّب الأسعار إلى ترك العقود الاجتماعية غير المستقرة بين الأنظمة الاستبدادية وبين الشعوب المستضعفة بدون حجةٍ تحميها.
تآكل التربة وندرة المياه في الشرق الأوسط
ليس من المستغرب أن يصير الشرق الأوسط بؤرةً مُبكّرة لتركيز المخاطر المرتبطة بالمناخ. فهي من مناطق العالم التي بدأت عملية تغيّر المناخ داخلها بسبب تآكل الوظائف البيئية. ولم يعُد "التين القرطاجي" الشهير موجوداً لأنّ التربة التي كانت تنتجه استُنفدت بشكلٍ منهجي.
وحين تتعرّض الأرض للإرهاق، تندر المياه وترتفع درجات الحرارة. ومع تغيّر الأراضي، يتغيّر المناخ. أضِف إلى ذلك الانبعاث السريع للطاقة الأحفورية عبر الاحتراق منذ بدء العصر الصناعي، وتخريب الأنظمة البيئية حول العالم؛ وستحصل على تغيّر مناخي مطرد ويصعب تخفيفه.
وبعيداً عن الزراعة، نحن نبني بيئات بشرية ونستخرج الطاقة بينما نُغيّر شكل التربة الزراعية ونستنفدها، ونُجفّف المياه الجوفية، ونُخرّب التنوّع البيولوجي. وما نفشل في إدراكه هو أنّ تقليل الأراضي التي نعتمد عليها يُقلّل فرصنا في النجاة والتكيف مع الصدمات. واشترك عاما 2010 و2020 في ذلك: إذ حذّرنا من العواقب الوشيكة لعدم اهتمامنا بالحياة وتعقيداتها.
الحل يبدأ من الاستثمار في الأرض مجدداً
ما هو إذاً المنهج المرن لهذه المشكلة في عالمٍ على وشك أن يتسارع داخله اضطراب المناخ، والصدمات، وتداخل المخاطر- وحيث من المرجح أن تُعاني مناطق مثل الشرق الأوسط عواقب وخيمة؟
يبدأ الأمر بالسلامة البيئية. وهذا يتطلّب استثمارات ضخمة في الأراضي التي تُعيد توليد قدرة التربة على تخزين المياه والكربون، وبفضل ذلك ستستطيع الدول مكافحة ندرة المياه من جذورها، بدلاً من إدارة الندرة التي تسبّب فيها الإنسان. وهذا يتطلّب تمكين الناس من تجديد مواردهم المحلية والعناية بها، والاستثمار في قدراتهم العمالية وفي أنظمة الحوكمة اللامركزية. وهذا يتطلّب أيضاً تقييم الزراعة المتجددة ونماذج الأعمال التجديدية بصفتها أدوات مرنة ومتكيّفة في اقتصادٍ من نوعٍ جديد.
وفي الوقت الذي يفترض أن نستجيب لتغيّر المناخ فيه بإحداث تحوّل في أنظمة الطاقة ورقمنة طريقنا نحو ثورةٍ صناعية رابعة؛ نفشل في الاعتراف بأنّ استجاباتنا تنتهج المنطق نفسه الذي أنتج أزمة المناخ في المقام الأول. وفي حال سلكنا هذا النهج فقط فسوف تُلزمنا المرونة بمزيد من الميكنة للنشاط البشري، والفصل والهرمي للاقتصاد عن العالم الطبيعي، والحلول التقنية لدعم العمل كالمعتاد وكأنّ الأوضاع البيئية والمناخية لا وجود لها، ومنهجة الاستجابات بغض النظر عن الثقافات البشرية والبيئية، واقتصاد عالمي يعتمد على تجميع المخاطر بغض النظر عن القدرات الوطنية والمحلية على التعامل معها وعلى حساب الصالح العام.
وسيتماسك هذا المنطق لبعض الوقت، حتى يُولّد صدمات أكبر مما يُمكن للنظام التعامل معه في وقتٍ واحد. وحينها ستصير مساحة إدارة الكوارث أصغر من أيّ وقتٍ مضى.
ويُنبئ تاريخ الشرق الأوسط وأحدث تعاليم الربيع العربي بمستقبلنا العالمي: تجاهل السلامة البيئية على مسؤوليتكم. وهذه المرة، يجب أنّ يعني التقدّم سعينا لإيقاف تدمير الأرض، والبدء في إعادة إحياء ما تحت أقدامنا. وبعبارةٍ أخرى، يكمُن مستقبل البشرية في العودة إلى الأصول: الدبال.