كان اختراع المدفع ليس بداية في تغيير فن الحرب فقط، بل بداية لتغيير التاريخ نفسه وإنهاء العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة القائمة على الدولة القوية، واليوم يبدو أن الطائرات المسيرة ستغير طبيعة الحرب، أو على الأقل الحروب منخفضة الكثافة، ولكن هل تغير التاريخ؟
خلال عام 2020 كانت الطائرات المسيرة هي نجم ثلاث حروب دارت في الشرق الأوسط وجواره الإقليمي، ولكن الدور هذا لم يكن إلا نتيجة لتطور مطرد قبل أكثر من عقد، بدأته بشكل كبير الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولكن اللافت أن المستفيد الأول من هذا السلاح هم خصوم أمريكا وإسرائيل في المنطقة أو العالم، وهو الأمر الذي يجعل هذه الطائرات مرشحة لإحداث تغيير في موازين القوى لأنها بمثابة سلاح فعال للدول المتوسطة وحتى للحركات العسكرية في مواجهة القوى الأكثر تقدماً تقليدية.
فهل تكون الطائرات المسيرة نقلة تاريخية في تطور السلاح أم مجرد تغيير تكتيكي سيطويه النسيان، عن طريق تحييده بأسلحة مضادة.
على الأرجح، كان المدفع (الذي يمثل أول سلاح ناري مهم) اختراعاً عربياً ولكن لم يلق الاهتمام والتطوير الكافي عند مصنعيه في المغرب والأندلس، بينما استفاد خصومهم الإسبان والبرتغاليون منه ليطردوا العرب من الأندلس، ويهاجموا البلدان العربية في المشرق والغرب، ويقطعون التجارة مع آسيا التي أدت إلى ازدهار الحضارة الإسلامية ويحتلون الأمريكيتين بخيراتهما الواسعة.
كما أن العثمانيين أخذوا المدفع عن المجريين، الأمر الذي جعلهم أقوى قوة في الشرق والبحر المتوسط والبلقان، وبواسطة المدفع كانت الدولة العثمانية وإسبانيا هما أقوى دولتين في العالم في القرن السادس عشر، ليفتتحا التاريخ الحديث، وبعد ذلك كانت القفزات في التكنولوجيا العسكرية هي من تحدد من سيكون القوى العظمى.
البداية والنهاية مع الأمريكيين
أصبحت حروب الطائرات المسيرة شائعة منذ أن نشر الأمريكيون طائراتهم من طراز بريداتور في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
زادت الضربات المسلحة للطائرات بدون طيار بشكل كبير في عهد الرئيس أوباما، بين عامي 2006 و2009، وزُعم أن الصواريخ التي أطلقتها الطائرات بدون طيار قتلت ما بين 750 و1000 شخص في باكستان، وفقاً للتقرير. من بين هؤلاء قيل إن حوالي 20 شخصاً هم من قادة القاعدة وطالبان والجماعات المرتبطة بهما.
وأفادت دراسة أجراها معهد بروكينغز بتزايد لافت لمسيري الطيارات بدون طيار لدرجة أن المهام اليومية لها تتزايد بوتيرة أسرع مما يمكن تدريب طيارين أو بمعنى أدق مسيري الطائرات بدون طيار.
واستخدم الأمريكيون طائرة مسيرة خلال عام 2020 في اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
مازال الأمريكيون هم الأكثر تقدماً بلا جدال في مجال الطائرات المسيرة، ولكن الآخرين ولاسيما الصينيين والأتراك مازالوا يقلصون الفارق.
الأهم أن النتائج الاستراتيجية لتوسع أمريكا في استخدام الطائرات المسيرة لا يمثل انقلاباً استراتيجياً بالنظر إلى أن الأمريكيين أصلاً متفوقون في كل المجالات العسكرية، في المقابل فإن امتلاك خصومهم للطائرات المسيرة مثل إيران أو دولة مثل تركيا تتمرد على واشنطن جزئياً يمثل خسارة تكتيكية للأمريكيين بعدما أصبحت الفجوة بين أمريكا وإسرائيل وبين تركيا وإيران والحركات الإسلامية في المنطقة العربية، إضافة إلى الصين في مجال الطائرات المسيرية أقل من الفجوات في بقية الأسلحة كلها تقريباً.
إدلب نقطة تحول دراماتيكية
كان الصراع في إدلب نقطة تحول دراماتيكية، ليس فقط في علاقة تركيا وروسيا بل في عقيدة أنقرة العسكرية والسياسية في المنطقة، التي أصبحت أكثر جرأة.
بل مثلت إدلب نقطة تحول في مجال الفن العسكري برمته، جراء دور الطائرات التركية المسيرة في هذه المعركة.
تصف موسوعة المعرفة المشاعية Wikipedia دور الطائرات التركية المسيرة بأنها كانت مغيراً تكتيكياً لقواعد اللعبة.
إذ لأول مرة في التاريخ تحقق الهيمنة الجوية عبر الطائرات المسيرة، وهو أمر سيتكرر في ليبيا والحرب بين أرمينيا وأذربيجان.
كانت تصرفات تركيا في إدلب أكثر من مجرد تبادل لإطلاق النار مع أعداء عبر الحدود. بدا الأمر أشبه بعمل حرب كاملة، استخدمت تركيا أصولاً متعددة في جيشها، وألحقت أضراراً جسيمة بجيش النظام السوري، حسب وصف موقع Insider الأمريكي.
كان رد فعل أنقرة خاصة بعد مقتل 33 من جنودها في غارة جوية غامضة نسب تنفيذها للنظام السوري هو إرسال الآلاف من وحدات الجيش التركي النظامي إلى إدلب لمنع انهيار الجيب الخاضع للمعارضة السورية وهروب مئات آلاف من اللاجئين السوريين المكدسين في إدلب إلى تركيا ليضافوا إلى أكثر من ثلاثة ملايين من أشقائهم.
هدد الصراع بحدوث حرب واسعة النطاق بين روسيا وتركيا، ولكن لم يحدث ذلك.. لماذا؟
كان لدى تركيا عنصر جديد في جعبتها، وهو ما أجبر روسيا على التفكير مرتين في التصعيد ضد أنقرة، حسبما قالت مصادر عسكرية لموقع Insider الأمريكي.
شنت تركيا هجومها الأساسي بحوالي 100 طائرة بدون طيار منتجة محلياً أطلقت ذخائر موجهة رخيصة بكفاءة مميتة، حسب وصف Insider.
حققت تركيا تفوقها الجوي الكلي في إدلب، عبر أسطول من الطائرات بدون طيار الرخيصة، وبصورة أقل طائرات F-16 عالية التقنية، وأنظمة التشويش كورال إضافة إلى المدفعية، وفقاً لموقع Insider
فقد النظام السوري قبل نهاية المعركة أعداداً كبيرة من مقاتلتين على، وثماني مروحيات، و135 دبابة، و77 مركبة مدرعة أخرى، ونحو 2500 قتيل، بحسب وزارة الدفاع التركية.
لقد ترك الجيش السوري غير قادر على حماية دروعه ووحدات المدفعية في الخطوط الأمامية، والتي استهدفت بشكل منهجي بصواريخ رخيصة ولكنها عالية الدقة تطلق من الطائرات المسيرة التركية.
وقال مسؤول بالناتو: "إن تحليق عشرات من هذه الطائرات المسيرة فوق إدلب، وإلقاء هذه القنابل الصغيرة على دبابات النظام السوري طوال الليل لفت انتباه (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
فروسيا -أكبر حليف لسوريا- لم تكن مستعدة لمواجهة الجيش التركي مباشرة. وفي الوقت ذاته مواصلة الهجوم التركي كان يعني استمرار جيش الأسد في المعاناة، ما يمهد الطريق لتركيا لإخراج النظام من إدلب.
وأضاف مسؤول الناتو "بالتأكيد في مواجهة مباشرة، يمكن لروسيا استخدام قوتها الجوية وذخائرها المواجهة، مثل صواريخ كروز لتحطيم الدفاعات الجوية التركية وقيادة الطائرات بدون طيار والسيطرة عليها، ولكن بتكلفة لا يمكن تصورها ستؤدي إلى تصعيد الصراع.
تعرف تركيا أنها لا تستطيع بالقوة أن تخرج روسيا من سوريا كما ترغب، لكن تبين أيضاً أن بوتين والأسد لا يستطيعان إجبار تركيا على الخروج من إدلب. لذا فقد عادت موسكو وأنقرة إلى التفاوض الذي أثمر وقف إطلاق نار في سوريا.
واعترف بوتين في مؤتمره الصحفي المشترك مع أردوغان بأن جيش الأسد مني بخسائر فادحة.
الحرب في ليبيا والقوقاز
بينما كان السلام موضع ترحيب، لفتت المعركة انتباه المحللين العسكريين إلى نقطتين، أن روسيا أحياناً لا تكون على استعداد لخوض الحروب، والثانية دور الطائرات بدون طيار في حروب المستقبل، وهو ما سيتأكد ثانياً في جبهتين أخريين كان الروس داعمين فيهما للأطراف التي قصفتها الطائرات المسيرة التركية، أي ليبيا، حيث أفشلت المسيرات التركية الهجوم على طرابلس وحول حكومة الوفاق من الدفاع إلى الهجوم ومطاردة قوات الجنرال المتقاعد لتخوم مدينة سرت الاستراتيجية.
وفي القوقاز، حيث حررت أذربيجان معظم أراضيها المحتلة من أرمينيا منذ أكثر من 20 عاماً، واضطر الأرمن لتوقيع اتفاق مهين بوساطة روسية بعدما حذر رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان شعبه من احتمال انهيار قواته بعد الخسائر الفادحة التي ألحقتها الطائرات المسيرة الأذربيجانية المشتراة من تركيا وإسرائيل.
وتشير تقديرات إلى مقتل حوالي 5000 جندي من كلا الجانبين، لكن المحللين في مدونة أوريكس، بالاعتماد على الصور ومقاطع الفيديو المتاحة للجمهور، قدروا أن أرمينيا فقدت 224 دبابة، مقارنة بـ36 دبابة من أذربيجان.
لماذا تفوق الأتراك في هذا المجال.. شكراً أمريكا
قال مسؤول عسكري في حلف شمال الأطلسي كان يقيم بانتظام في المنطقة على مدى السنوات العشر الماضية: "لقد طور الأتراك برنامج الطائرات بدون طيار الخاص بهم منذ ما يقرب من عقد من الزمان، بعدما رفضت أمريكا تزويدهم بطائرات مسيرة، وخيبت الطائرات المسيرة الإسرائيلية آمالهم بأدائها، وتسلط إدلب الضوء على مدى نجاح الأتراك في هذا المجال".
وقال المسؤول: "من خلال إنتاجهم محلياً باستخدام التكنولوجيا المتاحة تجارياً، تمكنوا من بناء أسطول كبير جداً وفعال، بتكلفة أقل بكثير من شرائهم من الولايات المتحدة أو حلفاء آخرين". وبسبب صراعهم مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي، فقد كانت لديهم سنوات لممارسة وصقل قدراتهم.
أشاد رئيس هيئة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير، في حلقة نقاشية عام 2016، استضافها المجلس الأطلسي، بالقيود الأمريكية المفروضة على مبيعات الطائرات بدون طيار، لدفعها تركيا لتصبح مستقلة في مجال تصنيع الطائرات المسيرة.
وقال "لا أريد أن أكون ساخراً، لكني أود أن أشكر (حكومة الولايات المتحدة) على أي من المشاريع التي لم توافق عليها، لأنها أجبرتنا على تطوير أنظمتنا الخاصة"، وأردف ساخراً "أن تركيا لم تعد تريد طائرات بدون طيار أمريكية الصنع".
ليبيا ساحة معركة بين الطائرات الصينية والتركية.. ما الفارق بينهما ومن تفوق؟
عندما بدأ حفتر هجومه على طرابلس في نيسان/أبريل 2019، منقلباً على جهود الأمم المتحدة للتسوية التي أوشكت آنذاك على النجاح، تفوقت قوات حفتر في البداية جوياً، حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2020، بفضل الطائرات الصينية المسيرة وبعض الطائرات الحربية السوفييتية الصنع القديمة.
كانت الطائرة القتالية المسيّرة الرئيسية التي نشرتها الإمارات في ليبيا هي من طراز "وينغ لونغ 2" الصينية، وهي مشابهة في الحجم والقدرة لطائرة "أم كيو-9" الأمريكية، وتوفر معلومات استخبارية وأفضلية واضحة في الضربات لقوات حفتر (وتم رؤية هذه الظاهرة أيضاً عندما استخدمت القوات الإماراتية هذه الطائرة في اليمن).
وأثبتت طائرات "وينغ لونغ" فاعليتها بشكل خاص في استهداف مجموعة الطائرات المسيّرة الصغيرة التي قدّمتها تركيا إلى "حكومة الوفاق"، بعد أن أطلق حفتر حملته في نيسان/أبريل 2019. واستهدفت الطائرات المسيّرة الإماراتية المحطات الأرضية والمطارات الخاصة بتلك المجموعة، ما منعها من توفير الإمكانات نفسها لـ"حكومة الوفاق الوطني".
وسعياً لترسيخ هذا التفوق الجوي، عززت الإمارات أيضاً ترسانة الصواريخ أرض- جو التابعة لقوات حفتر، عبر إضافة العديد من صواريخ "بانتسير-أس1″ الروسية إليها. وساعدت أنظمة الصواريخ أرض-جو هذه قوات حفتر على حماية الأهداف العالية القيمة من الطائرات بدون طيار وبعض الطائرات المأهولة التابعة لـ"حكومة الوفاق الوطني" (رغم معاناتها من بعض الخسائر وفقاً لبعض التقارير).
كيف قلبت تركيا معركة طرابلس؟
بعد التوصل إلى اتفاقيات دفاعية مع تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، سارعت "حكومة الوفاق الوطني" إلى تغيير المعادلة في الحملة الجوية. وبفضل تباطؤ وتيرة القتال خلال فترة انعقاد مؤتمر برلين، في يناير/كانون الثاني 202، تسنّى لقوات حكومة الوفاق المعترف بها دولياً بالتعاون مع تركيا فرصة تكوين طبقة حماية جوية حول العاصمة، عبر نشر عدة أنظمة صاروخية أرض- جو داخل "قاعدة معيتيقة الجوية" وحولها.
وأدى الجمع بين الأنظمة الصاروخية الأمريكية الصنع والمتوسطة المدى من نوع "أم آي أم-23 هوك"، والصواريخ التركية أرض- جو القصيرة المدى من نوع "حصار"، والمدافع المضادة للطائرات من طراز "كوركوت"، إلى إنشاء نظام حماية متعدد الطبقات حول البنية التحتية الحيوية، وتقليص التهديدات المحدقة بالمحطات الأرضية للطائرات المسيّرة التابعة لـ"حكومة الوفاق" وعمليات إطلاقها.
وسمحت هذه الحماية، إلى جانب زيادة عدد المشغّلين الأتراك والمعدات التركية، لقوات الحكومة الليبية بزيادة عدد عملياتها بالطائرات بدون طيار، وفاعلية هذه العمليات.
كما عملت أنقرة على حماية "قاعدة معيتيقة الجوية" بواسطة نظام التشويش "كورال"، الذي يُسوَّق على أنه قادر على التغلب على رادارات صواريخ "بانتسير" وترددات ربط البيانات في الطائرات المسيّرة من طراز "وينغ لونغ".
وهذه القدرة على التشويش المزدوج يمكن أن تفسّر تنامي قدرة الطائرات بدون طيار لـ"حكومة الوفاق" على الصمود، مقابل التعطيل الذي تتعرّض له عمليات الطائرات المسيرة لقوات حفتر.
وتثبت الحالة الليبية وقبلها إدلب وبعدها أذربيجان أهمية التكتيكات المستخدمة في تحديد فاعلية الطائرات المسيرة.
وفي الساحات الثلاث بدا هناك تكتيك مشابه غالباً ما تم وضعه بتخطيط من الخبراء الأتراك، ويشمل استخدام أنظمة التشويش إضافة إلى بدء الطائرات المسيرة هجماتها بقصف أنظمة الدفاع الجوية، حتى لو ببعض الخسائر، ما يتيح للطائرات المسيرة قصف الأهداف العسكرية البرية بخسائر أقل بعد تحييد الدفاع الجوي للخصم، حيث تصبح دبابته وعرباته المدرعة هدفاً يسيراً.
إسرائيل وأعداؤها.. انقلب السحر على الساحر
تعد إسرائيل أحد رواد تكنولوجيا الطائرات بدون طيار، وهي أحد المصدرين الرئيسيين للطائرات بدون طيار، خاصة غير المسلحة.
وقد باعت طائراتٍ استطلاعية بدون طيار لعدة دول، من بينها روسيا ثاني أقوى دولة في العالم.
ولكن إسرائيل التي تتفاخر بكونها رائدة عالمية في صناعة الطائرات المسيرة، ترى اليوم في هذه الطائرات خطراً استراتيجياً يمتلكه أيضاً من يناصبونها العداء في المنطقة.
فلقد انقلب السحر على الساحر.. وباتت إسرائيل قلقة من أساطيل إيران وحزب الله وحماس من الطائرات المسيرة.
هجوم أرامكو يخيف إسرائيل
فلقد كادت إسرائيل تدخل مع حزب الله اللبناني في مواجهة عسكرية، مطلع سبتمبر/أيلول 2019، في أعقاب قتل الجيش الإسرائيلي عنصرين من الحزب في بلدة عقربا جنوب العاصمة السورية دمشق، في 24 من أغسطس/آب الماضي، كانا يعدان لشن هجوم بالطائرات المسيرة على أهداف إسرائيلية، حسب الجيش الإسرائيلي.
هذا الهجوم حسب إعلان الجيش الإسرائيلي آنذاك استهدف مخططاً إيرانياً لشن هجمات بالطائرات المسيرة من الأراضي السورية.
ولكن ما أثار قلق إسرائيل بشكل جدي هو الهجوم الصادم الذي استهدف منشأة أرامكو السعودية، في سبتمبر/أيلول 2019، وأوقف 6% من إنتاج النفط العالمي لفترة.
وأدعى الحوثيون أنهم منفذو هذا الهجوم، ولكن الجهات السعودية والغربية والإسرائيلية تتشكك في هذا الادعاء، لأن هذا الهجوم الذي نفذ بواسطة خليط من صواريخ كروز وطائرات بدون طيار، يعتقد أنه أعقد من أن ينسقه الحوثيون، إضافة إلى بعد المسافة بين شرق السعودية واليمن مقابل قربها من إيران وجنوب العراق.
وبصرف النظر عمن استخدم الطائرات المسيرة في هجوم أرامكو، فإن الهجوم يشير إلى تطور قدرات إيران أو حلفائها بشكل كبير في مجال الطائرات بدون طيار.
مركز أبحاث إسرائيلي لفت النظر في ذلك الوقت إلى إمكانية استخدام إيران الطائرات دون طيار لاستهداف إسرائيل، مشيراً إلى أن إيران قد تستخدم الهجمات الحوثية ضد السعودية والإمارات، كتدريب ربما لاستهداف إسرائيل.
أغلقوا مفاعل ديمونة
والأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل هو التهديد الذي يشكله نموذج هجوم أرامكو على مفاعل ديمونة، بحسب تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
استُخدِم في الهجوم 20 صاروخاً جوالاً وطائرة من دون طيار. ويتطلب شن مثل هذه العملية درجة عالية من دقة التنسيق والتواصل الآني، والملاحة، واختيار الهدف.
وكان الإيرانيون قد برهنوا على قدرتهم على تسيير عدد كبير من الطائرات بدون طيار (تقريباً 50 طائرة)، في تدريب عسكري أُجري في شهر يوليو/تموز 2019. إضافة إلى ذلك، أظهروا أيضاً قدرة مبهرة حسب وصف التقارير الإسرائيلية على التواصل، حين سيطروا على طائرة من دون طيار أمريكية متطورة، وأوقعوها على أرضهم، وصنعوا أخرى مُقلَّدة تناسب احتياجاتهم.
وأوضح الدمار الذي سببته الطائرات من دون طيار في السعودية أنَّ الإيرانيين يصنعون طائرات من دون طيار ويشغلونها (بقدرات تسلل ومحركات طائرات مميزة) متطورة، لدرجة أنها ليست متأخرة كثيراً عن القدرات الإسرائيلية في هذا المجال.
قدر الإسرائيليون معدل نجاح القصف بـ85%، وهي نسبة أعلى من بعض المعدلات الأمريكية، وهو ما يشير إلى القدرة المتطورة للتكنولوجيا المستخدمة وارتفاع إمكانية الاعتماد عليها.
أشار الهجوم التكنولوجيا الإيرانية متطورة وموثوقة، والإيرانيون قادرون على إنتاج عدد ضخم من الصواريخ الجوالة والطائرات من دون طيار.
كيف اخترقت الطائرات المسيرة الدفاعات الجوية السعودية المتطورة؟
العنصر الفارق الذي أظهرته الطائرات المسيرة في هجوم أرامكو أكثر حتى من الطائرات المسيرة التركية، أن السعودية تمتلك أنظمة دفاع جوي تعد من الأفضل في المنطقة.
وعادة ما يتم التركيز على أن نجاحات الطائرات المسيرة التركية قد جرت في حروب منخفضة الكثافة وضد جيوش متأخرة، وبصرف النظر عن أن هذا غير دقيق، لأن في إدلب وليبيا وناغورني قره باغ كانت بها أنظمة دفاع جوى روسية، ولكن في الحالة السعودية كان الأمر أكثر فجاجة.
إذ يمتلك الجيش السعودي رادارات طيران كان ينبغي لها رصد الهجوم الوشيك. كما عجزت الولايات المتحدة عبر وجودها العسكري بالمنطقة عن رصد أية علامات كانت ستمكنها من اكتشاف الهجوم المحتمل (ومصدره، الذي قد يكون إيران أو اليمن).
وهذه الحقائق لا يمكن أن تعني إلا شيئاً واحداً من اثنين: إما أنَّ منظومة الدفاع السعودي فشلت، وإما أن التواصل بين الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية كان خفية ويصعب اكتشافها، وفي كلتا الحالتين كان الهجوم ناجحاً ونافذاً.
كيف يؤثر كل ذلك في إسرائيل؟ بحسب صحيفة Haaretz الإسرائيلية، برهنت إيران وعملاؤها بالوكالة على أن بإمكانهم قصف أهداف محددة بدقة عالية ومن على بُعد مئات الكيلومترات.
الأهم أن إسرائيل لديها الهدف الأكثر حساسية في الشرق الأوسط وهو مفاعل ديمونة، إضافّة إلى خزان الأمونيا في حيفا الذي أُفرِغ أغلبه.
ويقترح كاتب التقرير الإسرائيلي وقف تشغيل مفاعل ديمونة النووي؛ إذ ثبت الآن أنه عرضة للهجوم، والضرر الذي يمكن أن يسببه نتيجة ذلك يفوق منافعه بكثير.
لماذا تتخلى حماس عن الصواريخ والأنفاق لصالح الطائرات المسيرة؟
ولكن الأمر بالنسبة لإسرائيل لا يقتصر على الخطر الإيراني المباشر.
فبصر النظر عن احتمال تزويد إيران وحزب الله لحماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية في غزة بتكنولوجيا الطائرات المسيرة، فالواقع أن حماس لديها بالفعل برنامج مستقل للطائرات المسيرة.
فلقد اكتشفت الحركة الفلسطينية التي تحكم قطاع غزة الذي خاض حروباً عدة مع إسرائيل، أن خيار الأنفاق لم يعد مجدياً بعد أن طورت إسرائيل أساليب لاكتشافه والتصدي له، والقبة الحديدية تزداد فاعليتها ضد الصواريخ
لذا تستثمر حماس في تطوير الطائرات المسيرة بشكل كبير.
وبدأت حماس في استخدام "الحوَّامة قاذفة القنابل" كسلاح جديد، للتغلب على قبة إسرائيل الحديدية.
القناة السابعة العبرية وصفت هذا السلاح بأنه طائرة بدون طيار تحمل صاروخاً ذا رأس متفجر ضد الدبابات، مضيفةً أن فكرة هذا السلاح تُظهر تقدماً ملحوظاً في تطور صناعات السلاح لدى "حماس".
وتقول حماس إن لديها 3 أنواع من الطائرات دون طيار لأغراض مختلفة هي: جمع المعلومات الاستخباراتية، والهجمات، والمهام الهجومية "الانتحارية" بالطائرة.
وإسرائيل قلقة لدرجة أنها لجأت لسلاح الاغتيال
وتعتقد المخابرات الإسرائيلية أن "حماس" تركز على تحسين قدراتها في تصنيع الطائرات من دون طيار داخل قطاع غزة، في ضوء نجاح إسرائيل في اعتراض الصواريخ، بواسطة نظام "القبة الحديدية"، وتدمير الأنفاق العابرة للحدود.
من هنا فإن إيجاد بديل للردع مثل الطائرات بدون طيار يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للحركة الفلسطينية، وإلى أن يتحقق ذلك فإنها تميل إلى أن تكون أكثر حذراً.
ويبدو أن مدى قلق إسرائيل من هذا البرنامج وصل إلى حد اغتيالها مهندس الطيران التونسي محمد الزواري، في ديسمبر/كانون الأول 2017، في صفاقس، لأنه كان يعمل في برنامج "حماس" للطائرات من دون طيار.
كما طورت إسرائيل منظومة تسمى (قبة الطائرة المسيرة)، على غرار القبة الحديدية المخصصة لإسقاط الصواريخ.
الحوثيون في اليمن
استخدم الحوثيين بدورهم طائرات بدون طيار، ومن المرجح أنهم حصلوا عليها من إيران أو التكنولوجيا الخاصة بها على الأقل، كما استخدم الإماراتيون الطائرات المسيرة الصينية في اليمن مثلما فعلوا في ليبيا.
وسبق أن استهدف هجوم حوثي بطائرة دون طيار، منتصف يناير/كانون الثاني 2019، عرضاً عسكرياً في قاعدة العند الجوية جنوب البلاد، ما أدى إلى مقتل رئيس الاستخبارات العسكرية في القوات اليمنية الموالية للحكومة محمد صالح طماح، متأثراً بجروحه.
ولكن يبدو أن استخدام الطائرات المسيرة من قبل الحوثيين في ضرب أهداف داخل الأراضي السعودية أقل نجاحاً، حيث أعلن التحالف العربي بقيادة السعودية مراراً عن إسقاطها، مع بعض حالات الاختراق البسيطة.
وقد يرجع ذلك إلى أسباب عدة منها تأخر الحوثيين التكنولوجي مقارنة بمصنعي ومشغلي الطائرات المسيرة الآخرين، إضافة إلى أن السعودية لديها أنظمة دفاع جوي غربية متقدمة، إضافة إلى المساحات الأطول نسبياً التي على الطائرات المسيرة الحوثية قطعها.
قوى عظمى تحاول محاكاة البرنامج التركي
ويبدو أن نجاح تجربة الطائرات المسيرة، ولاسيما التركية، دفع بلداً مثل بريطانيا، تعتبر هي الدولة المؤسسة للفن العسكري الحديث، لبحث محاكاة البرنامج التركي، ولاسيما التركيز على إنتاج طائرات مسيرة رخيصة الثمن.
ومع نهاية عام 2020، قال وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، إن الطائرات التركية بدون طيار TB2 هي مثال على كيف أن الدول الأخرى "تقود الطريق" الآن.
ويرى المسؤولون البريطانيون أن ميزة السعر الرخيص للطائرات التركية يفتقدونها في الطائرات المسيرة الأمريكية الباهظة التي يمتلكونها، إذ بثمن طائرة أمريكية يمكن شراء من خمس إلى عشر طائرات تركية، إذ يمكن إنتاجها بأعداد كبيرة، وحتى لو أسقطت فإن سقوطها لن يؤدي لخسائر بشرية.
هل تستطيع الطائرات المسيرة الصمود في الحروب بين الجيوش القوية؟
أصبح السؤال الملح في المجال العسكري حالياً: هل يمكن استخدام هذه الطائرات بكفاءة في الصراعات الأكثر تعقيداً بين الدول الأقوى عسكرياً مثل الهند وباكستان.
وأظهرت المعارك المتعددة التي خاضتها طائرات TB-2 التركية أنها تعمل على تعمية أي دفاعات جوية تماماً، حتى إنها هزمت أنظمة الدفاع الجوي الروسية Pantsir وS-300.
لذلك فيحتمل أن هذه الطائرات قادرة على مفاجأة حتى الدول المتفوقة عسكرياً، كالهند.
فحتى في الحروب بين الجيوش الكبيرة، يمكن استخدام مثل هذه الأنظمة لإلحاق أضرار كبيرة بالمدفعية والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي.
ثبت حتى الآن أنه في المواجهة بين أنظمة دفاع جوي باهظة الثمن والطائرات المسيرة الهجومية منخفضة التكلفة فإن الطائرات المسيرة تربح، خاصة مع استخدام التكتيكات الصحيحة.
وأفادت تقارير بأن الطائرات المسيرة التركية التي استخدمتها أذربيجان دمرت أنظمة إس 300 الشهيرة، التي تمثل منظومة أساسية للدفاع الجوي في العديد من الدول مثل الهند وإيران وسوريا ومصر.
وحتى صواريخ إس 400 الأكثر تقدماً التي نشرت في سوريا، أثبتت عدم فاعليتها في مواجهة الاستخدام المشترك للحرب الإلكترونية والصواريخ المضادة للإشعاع والذخائر الموجهة بدقة.
وحتى دولة مثل السعودية، التي لديها أنظمة دفاع جوي كثيفة ومتطورة وأغلبها غربي، وجدت صعوبة بالغة في صد هجوم الطائرات المسيرة عام 2019، ما أدى إلى أضرار كارثية في منشآت شركة أرامكو النفطية.
مازالت الطائرات المسيرة تواجه مشكلة خاصة بالنسبة للدول الأقل تقدماً تتعلق بمحدودية مداها (رغم أنها تطير لوقت طويل) بسبب ارتباطها بمدى محطات التوجيه، ولكن تشغيل هذه الدول لأقمار صناعية قد يتغلب على هذا الأمر.
ولكن قد يظل أكبر تحدٍّ لم يختبر بشكل كبير أمام الطائرات المسيرة هو مواجهة الطائرات المقاتلة النفاثة، وبينما يسعى الأتراك إلى تسليح طائراتهم المسيرة بدون طيار بصواريخ مضادة للطائرات، تظل السرعة والقدرة على المناورة في صالح الطائرات المقاتلة العادية.
ولكن في المقابل تتفوق الطائرات المسيرة في رخص الثمن، وبالتالي إمكانية استخدام عدد وحدات أكبر، إضافة إلى القدرة على البقاء فترات أطول في الجو، والأهم عدم القلق من الخسائر البشرية.
كما يمكن أن يستخدم في قصف المطارات التي تؤوي الطائرات المقاتلة أي محاولة تحقيق الهيمنة الجوية عبر قصفها وهي ساكنة على الأرض في ظل استحالة مواجهتها في الجو.
ويسعى الصينيون والأتراك أيضاً إلى إنتاج طائرات مسيرة بسرعة الصوت، وأعادت أنقرة تكييف صواريخ كروز كانت تنتجها لتطلق من طائرات F-35 بحيث يمكن إطلاقها من الطائرات المسيرة.