يرى البعض أن الأمور أصبحت أسوأ في الدول العربية التي شهدت قبل عشر سنوات انطلاق ثورات الربيع العربي من تونس، بينما يرى البعض الآخر أن تلك الثورات لم تنتهِ وستظل مستمرة حتى يتحقق حلم الشعوب في الديمقراطية والعدالة.
شرارة أشعلت الحلم الكامن
قبل عشر سنوات لم يكن أحد مستعداً لا للحجم الهائل ولا السرعة أو الحدة التي اندلعت بها المظاهرات بالتزامن مع بعضها البعض في المنطقة بأكملها، وأسهمت المحطات الفضائية العربية ومنصات التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر وتيرة في العملية، بعد أن سارعت في نقل الصور والأفكار والعواطف عبر الحدود.
أما الأنظمة التي كانت مستعدة للاضطرابات المحلية المتفرقة فقد هالتها أعداد المواطنين الذين اندفعوا إلى الشوارع وعجزوا عن تركها، وعندما رفضت بعض الجيوش أن تقتل لصالح رؤسائها المحاصرين، أعلنت الشعوب انتصارها.
لكن في ظل تواصل الصراعات والإنذار بالزخم الثوري فازت في النهاية القوة العسكرية والمالية الهائلة لأغلب الأنظمة، ثم سعت الحكومات الناجية إلى الانتقام، معاقبةً النشطاء الذي تجرأوا على تحدي حكمها، وحاولت استرجاع الخوف وتحطيم الآمال. وعندما أطاح الجيش المصري الرئيس المنتخب محمد مرسي وقتل مئات المتظاهرين في وسط القاهرة، أحجمت إدارة أوباما حتى عن تسمية ما حدث بأنه انقلاب، وفق تقرير عن الربيع العربي في ذكراه العاشرة نشرته مجلة Foreign Affairs الأمريكية.
التركيز على التطبيع مع إسرائيل
وبالطبع لا توجد مُخططات للاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة لتلك الثورات التي اجتاحت العالم العربي أواخر 2010 ومطلع 2011، بعد أن صارت أيام امتلاء شاشات التلفاز بالحشود التي تهتف "الشعب يريد إسقاط النظام" تبدو تاريخاً بعيداً. اصطدمت الآمال الأولى للتغيير الثوري بالقوى الغاشمة للانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والدول الممزقة.
وفي ظل هذه الأجواء، من السهل أن نتفهم جاذبية فكرة أن الثورات انتهت، وهي الفكرة التي تُشجِّع عليها الأنظمة الاستبدادية والسياسات الأجنبية الواقعية على السواء، فهي تعني العودة لما كان عليه الحال. وقد وافقت كل من إدارة أوباما وترامب على هذه الرؤية ضمنياً وهما تحولان أنظارهما إلى أهداف أخرى في المنطقة، التي تمثَّلت في المفاوضات النووية مع إيران أولاً، ثم لاحقاً تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل.
لكن تلك القناعة في الحقيقة هي الأخيرة في سلسلة من الاستنتاجات السابقة لأوانها، إذ قبل 2011 ضمنت كل التحليلات استقرار الأنظمة العربية الاستبدادية، وكان هذا خطأً، فبعد أن أطاح الضغط الشعبي 4 أنظمة ديكتاتورية حكمت مدة طويلة (زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبدالله صالح في اليمن) هَرَع بعض المراقبين لافتراض أن موجة الديمقراطية الجارفة قد أتت، بينما حذر آخرون -خصوصاً في الغرب- من أن تطبيق الديمقراطية ستفتح الباب أمام الإسلاميين لفرض هيمنتهم، وكان الفريقان على خطأ. ففي عام 2012، اعتقدت الأغلبية العظمى أن نظام بشار الأسد في سوريا قد انتهى، وكانوا مخطئين، وفي عام 2013 قال مؤيدو الانقلاب العسكري في مصر إنه سيعيد وضع البلاد على طريق الديمقراطية، وكانوا مخطئين أيضاً.
غيَّرت تلك الثورات كل بُعد ممكن في السياسات العربية جذرياً، ومنها التوجهات الفردية والأنظمة السياسية والأيديولوجيات والعلاقات الدولية. وربما غطى التشابه الظاهري على مدى هذا التغيير، لكن الشرق الأوسط اليوم يختلف تماماً عما كان عليه في 2010. وقد ضمنت القوى التي حركت ثورات 2011 أن العقد التالي سيشهد تحولات أكثر جذرية، متمثلة في تغييرات تُربك أي سياسة تقوم على عودة الأساليب القديمة.
عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء
بعد عقد كامل من تبدُّد الآمال صار سهلاً أن ننسى كم كانت اللحظة الثورية التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2010 قوية ومفاجئة، كان واضحاً في أواخر عام 2010 أن العالم العربي يشهد حالةً متزايدةً من الإحباط الشعبي وتفاوتاً اقتصادياً متفاقماً، لكن حكام المنطقة اعتقدوا أنهم قادرون على سحق أي تهديد مُحتمل، ومثلهم الأكاديميون الذين درسوهم، والنشطاء الذين واجهوهم.
لا توجد قوى مُحرّكة كثيرة توضح الآثار الجوهرية لتلك الثورات أفضل من الجماعات الإسلامية. وبعد أن كان يُشاد بها بصفتها لاعباً مهماً في الأنظمة الديمقراطية الجديدة، قُمعت الكثير منها على أيدي الأنظمة الاستبدادية المُنبعثة أو كافحت في التعامل مع الديمقرطيات الانتقالية، وقد ولّد هذا التحول شعوراً حتمياً بأن الثورات قد فشلت.
لم يلعب الإسلاميون دوراً بارزاً في أوائل أيام الثورات، ففي تونس على سبيل المثال، كانت الحكومة قد أزالت مثل تلك الجماعات من الحياة العامة بدرجة كبيرة، وفي مصر تأخروا في الانضمام إلى المظاهرات في ميدان التحرير، لكن عندما أُتيحت الفرص أمامهم سارع الإسلاميون إلى دخول الساحة السياسية.
وقد حقق حزب النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر نجاحات هائلة في كلا البلدين في أول انتخابات انتقالية. وشكّل حزب العدالة والتنمية في المغرب سلسلةً من الحكومات بعد انتصاراته الانتخابية في العامين 2011 و2016. وانضم كذلك إسلاميو ليبيا إلى اللعبة الانتخابية، لكنهم لم يحظوا بالنجاح نفسه. أما الإخوان المسلمون في سوريا فلعبوا دوراً تنظيمياً حاسماً، من الخارج في معظمه، في الثورة على الأسد. وبحلول العام 2012 بدأ الإسلاميون يصعدون.
لكن بدلاً من الفوز باللعبة الديمقراطية فشلت أغلب الجماعات الإسلامية بسبب أخطائها الخاصة والقمع الحكومي، وهكذا لم يعد للإخوان المسلمين في مصر -أكبر تلك الجماعات وأكثرها نفوذاً- وجود ملحوظ، إذ دخل عشرات الآلاف من أعضائها السجن، وباقي قادتها إما ماتوا وإما في المنفى، وصادرت الحكومة المصرية أموالها.
وفي الأردن، قطعت الحكومة شوطاً كبيراً لتقويض الجماعة وتركتها مُقسمة ومفككة، وقد فقد حزب العدالة والتنمية الإسلامي في المغرب بريقه بعد أعوام من الحكم مكبلاً بقيود الملك. وتبرأ حزب النهضة التونسي باعتزاز من التوجُّه الإسلامي وأعاد تسمية نفسه بحزب الإسلام الديمقراطي، وباستثناء الكويت يندر تواجد الحركات الإسلامية في معظم البلدان الخليجية، وصار تيار الإسلام السياسي المعاصر شبحاً لما كان في الماضي.
بعد عقد من بدايتها، غيَّرت الثورات الحركات الإسلامية تماماً، بعد أن ازداد وهج المنظمات التي شاركت في الانتخابات السياسية ثم تحطمت، بينما على النقيض منها عانى الجهاديون إخفاقات جسيمة، لكنهم حافظوا على قوتهم السياسية والأيديولوجية الحيوية: مع بقاء بعض الحركات القليلة تعمل كصمامات أمان، وتأصل الصراعات التي تُتيح فرصاً وافرة للاستنفار، يبدو أن تنامي حركات تمرد الجهاديين مُحتمل.
الثورة المضادة
لم تكن الجماعات الإسلامية وحدها هي من شهدت تغيرات حادة في أعقاب الثورات، إذ بدت الطموحات الديمقراطية للمتظاهرين تُنذر بدور جديد للولايات المتحدة، دور ربما تبين في خطاب الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، في القاهرة عندما وعد "ببداية جديدة" للعلاقات الأمريكية مع المنطقة، غير أن الواقع كان شديد الاختلاف.
تحدَّت الثورات العربية النظام الذي تدعمه الولايات المتحدة بالكامل، ما سرَّع انسحاب واشنطن من المنطقة. ويرجع انفصال أمريكا عن المنطقة إلى عددٍ من الأسباب، منها إخفاق غزو العراق عام 2003، والتحولات في الاعتماد على الطاقة، والحاجة الاستراتيجية إلى التمحور حول آسيا، والبغض المحلي للحروب الخارجية، لكن الثورات قوَّضت كثيراً أساس التحالفات الأمريكية، وشجعت القوى المحلية على تطبيق سياسات تتعارض مع واشنطن، ودعت المنافسين الخارجيين مثل الصين وروسيا إلى المنطقة التي كانت أحادية القطب من قبل.
وفي تلك الساحة المُستقطبة تخبَّط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مثل فيلٍ جامح، صعد محمد بن سلمان إلى السلطة في عام 2015 من خلال تنحية منافسيه وترويع خصومه المحتملين بالتخلي التام عنهم، ومنذ ذلك الحين بدأت سلسلة من التحركات السياسية الخارجية الكارثية، فتدخَّلَ في اليمن التي سرعان ما تحوَّلت إلى مأزق وكارثة إنسانية، واحتجز رئيس الوزراء اللبناني، ما أثار ارتباكاً شديداً، وقيل إنه أمر باغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي. وأحدثت تلك التحركات دماراً بالغاً للموقف السعودي في العالم.
وغابت الولايات المتحدة عن معظم تلك الصراعات. وفي ظل حكم ترامب، الذي ركزت إدارته على إيران ولم تهتم باختلافات السياسات الإقليمية، أحجمت واشنطن إلى حد كبير عن دورها كلاعب رئيسي، حتى في مناطق مثل العراق وسوريا، حيث لا تزال هناك قوات أمريكية. واختار ترامب بدلاً من ذلك -بعيداً عن تشجيع التغيير الديمقراطي أو حتى الدفاع عن حقوق الإنسان- الاعتماد على شركاء الولايات المتحدة الاستبداديين، آملاً أن يتجاهلوا الرأي العام ويدخلوا في تحالف مفتوح مع إسرائيل.
وتُقدم علاقات إسرائيل الرسمية الجديدة مع البحرين والإمارات، إلى جانب الدعم الخليجي الأكبر لجهودها في إيران، نوعاً من الدفاع عن ذلك النهج، لكن في ظل غياب توسط الولايات المتحدة، أطالت تدخلات الأطراف الفاعلة الإقليمية الصراعات القائمة بالفعل، دون الالتفات إلى مصلحة الموجودين في الميدان. ورغم أن المتنافسين تغاضوا منذ وقت بعيد عن أهدافهم الأصلية، فإنه لا يزال العنف المتأصل جارياً، ومقيداً مكانه بالوساطات الإقليمية واقتصادات الحروب المحلية.
ماذا يعني كل ذلك؟
على الرغم من وفاة الثورات العربية قبل أوانها والإرث المظلم الذي تركته، لم تكن موجة 2011 الثورة مجرد سراب مار، إذ بعد مرور 10 أعوام بدأت الواجهة الاستبدادية في المنطقة تتصدع مجدداً. منعت انتفاضات كبيرة قامت مؤخراً في الجزائر إعادة انتخاب رئيسها العجوز بوتفليقة، وأدت في السودان إلى الإطاحة بقائدها الذي حكم فترة طويلة، وتحدت الأنظمة السياسية الطائفية في العراق ولبنان. وبالكاد يملك لبنان الآن حكومة، بعد عام من التظاهر ومروره بأزمة مالية وعواقب الانفجار الغامض في ميناء بيروت. أما السعودية فقد شهدت تغييراً سريعاً وهي تتحضر لصعود محمد بن سلمان، الملك المُفترض.
بدت تلك الأحداث محيرة في البداية، ألم يُفترض بانتصار الحكام المستبدين أن يُعيد الاستقرار؟ ألم تُهزم الشعوب العربية وتُرهق وتيأس؟ لكن في الواقع ما بدا أنه النهاية لم يكن سوى منحنى آخر في دائرة عنيدة. وكان وعد الأنظمة المزعوم بالاستقرار، في الحقيقة، هو السبب الأول للاضطرابات. وكان فسادهم واستبدادهم وفشل حكمهم ورفضهم الديمقراطية وإساءتهم لحقوق الإنسان هو ما دفع الشعوب للثورة عليهم. وبمجرد أن بدأت الثورات أجج قمعهم العنيف الاستقطاب الداخلي والحروب الأهلية، وفاقم الفساد والمصائب الاقتصادية، وما دامت مثل تلك الأنظمة لا تزال تُمثل ركيزة للنظام الإقليمي فلن يتحقق أي استقرار.
يبدو اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية الآن أمراً لا مفر منه، فهناك ببساطة عدد كبير من محركات الاضطرابات السياسية التي تجعل البقاء في السلطة لأجل غير مسمى صعباً حتى على أعتى الأنظمة وأقواها. وقد تكدست الضغوطات الجديدة القوية، المتمثلة في جائحة كوفيد-19 وانهيار أسعار النفط والانخفاض الحاد في التحويلات المالية من العمال المهاجرين، فوق الاقتصادات الضعيفة الكارثية بالفعل.
وتستمر الحروب المشتعلة في ليبيا وسوريا واليمن في إخراج اللاجئين، والأسلحة، والتطرف، وجذب التدخلات الخارجية. وقد تسوء الأمور أكثر، فالمواجهة المحتدمة للولايات المتحدة مع إيران يمكن أن تتصاعد فجأة وتتحول إلى حرب مشتعلة، أو يمكن أن يُؤدي سقوط السلطة الفلسطينية إلى قيام انتفاضة أخرى.
الأنظمة تعلمت الدرس، والشعوب أيضاً
من المستبعد أن تتشابه الاحتجاجات المستقبلية مع ثورات 2011، إذ إن المنطقة تغيرت كثيراً، والحكام المستبدون تعلموا كيف يستميلون ويعرقلون ويهزمون من يتحدونهم. كما يُستبعد أن تتفاجأ الأنظمة بالاضطراب المحلي أو العدوى الإقليمية، فاحتمالات امتناع الحكومات عن استخدام القوة في بدايات مراحل الاحتجاج صارت أقل.
لكن المتظاهرين المُحتملين أيضاً تعلموا دروساً قيمة، وعلى الرغم من أن نجاحات الحكام أصابت كثيراً من الشعوب العربية بالإحباط واليأس، بيّن الحراك الثوري الأخير في الجزائر والعراق ولبنان والسودان أن الانضباط والالتزام يفوزان. وفي البلدان الأربعة أثبت المواطنون قدرتهم على المحافظة على الحشد السلمي لشهور متتالية رغم القمع والتحريض.
انقسمت الساحة السياسية في الشرق الأوسط أيضاً إلى محاور متنافسة، وهو ما يمنع وجود هوية عابرة للحدود الوطنية، التي بدورها سمحت للثورات العربية بالانتشار بسهولة في الماضي. وخلافاً لعام 2011، لا يوجد اليوم شعب عربي موحد.
وتفكك الإعلام الإقليمي الذي كان في السابق مصدراً للوحدة، وصارت شبكة الجزيرة تُعد الآن أداة متحيزة تابعة للسياسة القطرية، وليست منصة للمناقشات المشتركة. بينما امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي العربية بحرب المعلومات والردود الآلية والبرمجيات الضارة، ما خلق بيئة مسمومة تعاني فيها التحالفات العابرة للأيديولوجيات من أجل التضافر. لكن كما أشارت التداخلات بين المحتجين في الجزائر والسودان ومثابرة الحركات العراقية واللبنانية، فإن الصعوبات السابقة يمكن التغلب عليها.
ومقارنة بعام 2011، لم تعد البيئة الدولية منفتحة لموجة ثورية اليوم مثلما كانت في السابق، لكنها كذلك أقل معارضة لقيامها. وفي حين عانت إدارة أوباما للتوفيق بين القيم الديمقراطية والمصالح الاستراتيجية، دعمت إدارة ترامب بالكامل الحكام المستبدين في المنطقة، وشاركتهم ازدراء الاحتجاجات الشعبية. لن ينظر أحد في الشرق الأوسط اليوم إلى واشنطن باحثاً عن إشارة أو توجيه، لقد فهمت الأنظمة العربية والمحتجون على السواء أنهم بمفردهم.