هل يَقبل السعوديون التخلي عن برنامجهم الصاروخي السري مقابل برنامج الصواريخ الإيراني، ضمن صفقة لضبط التسلح في منطقة الشرق الأوسط وحل أزماته الأساسية.
ويمثل البرنامج الصاروخي الإيراني المسوغ الرئيسي لإعادة العقوبات الأمريكية على إيران في عهد ترامب والإشكالية الرئيسية أمام إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ولكن المفارقة هي أن واشنطن لا تتحدث عن البرنامج الصاروخي السعودي السري، أو الذي كان سرياً على الأقل، الذي تم بناؤه بمعرفة الولايات المتحدة.
وكانت السعودية قد اشترت صواريخ صينية باليستية طويلة المدى من الصين من نوع صواريخ DF-3 ثم DF-21 IRBM بمعرفة أمريكا في صفقتين أولهما كانت في عام 1987.
ويبدو أن هذه المقايضة هي أول ما ستواجه به إيران الإدارة الأمريكية الجديدة إذا طرحت ملف البرنامج الصاروخي الإيراني وأنشطة الحركات الموالية لها في صلب التفاوض المحتمل مع طهران.
وتحدّث الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن حتى الآن باعتدال عن إيران، بما في ذلك مقال نُشِرَ على موقع شبكة CNN، وفي مقابلة مع صحيفة The New York Times الأمريكيتين، حسب وصف مقال نشر بمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وقال، كجزء من استراتيجية خطوة بخطوة، سيعود إلى الاتفاق النووي كخطوة أولى ثُمَّ سيعالج المخاوف الأخرى بشأن نفوذ إيران الإقليمي وقدراتها الصاروخية.
لكن كيف سيكون رد فعل الحكومة الإيرانية على مطلب الولايات المتحدة بأن تكون القضايا الإقليمية والقدرات الصاروخية جزءاً من المفاوضات؟
يوجد توافق واسع داخل المؤسسة الإيرانية، على أنَّ إيران لن تقدم أي تنازلات فيما يخص استراتيجيتها الردعية والدفاعية. واستخدمت إيران تقليدياً استراتيجية ردع من أجل تعزيز أمنها القومي والدفاع عن وحدتها الترابية في السنوات الأخيرة.
ولهذه الاستراتيجية شِقَّان. الأول تعزيز ودعم الحلفاء الإقليميين والحركات المسلحة في لبنان والعراق وسوريا واليمن وغيرها، والثاني تحسين قدراتها الصاروخية وصنع واختبار صواريخ قصيرة وطويلة المدى، فضلاً عن صواريخ باليستية.
توسعت هذه الاستراتيجية منذ الحربين اللتين قادتهما الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، واللتان أدتا إلى جلب مئات الآلاف من القوات الأمريكية إلى منطقة تبعد بضعة أميال فقط عن حدود إيران الشرقية والغربية، الأمر الذي زاد بشكل كبير خطر شن ضربة عسكرية وشيكة على الأراضي الإيرانية.
وأشارت طهران إلى التهديدات الأمنية في محيطها، وحقيقة أنَّها ليست عضوة في أي تحالفات عسكرية إقليمية، باعتبارها الأسباب التي تجعلها بحاجة لتطوير قدرات صاروخية وتوسيع نفوذها في البلدان الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط.
مدرستان في إيران بشأن التعامل مع الغرب
هناك نهجان مختلفان في إيران للتعامل مع المفاوضات الشاملة مع الولايات المتحدة، حسبما ورد في مقال Foreign Policy الذي كتبه صاحب صادقي: كاتب عمود محلل للسياسة الخارجية في إيران والشرق الأوسط.
فرغم هذا الإجماع العام إزاء استراتيجية الردع، يمكن تقسيم نهج الحكومة الإيرانية حيال دعوة بايدن لإجراء مفاوضات شاملة إلى معسكرين.
تتألف المجموعة الأولى من المحافظين، الذين حازوا في وقتٍ مبكر من هذه السنة الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية، ومن المتوقع أن يفوزوا بالانتخابات الرئاسية. يرفض المحافظون بقوة أي محادثات مع الولايات المتحدة بشأن القضايا غير النووية، وتَعزز موقفهم أكثر باغتيال الجنرال قاسم سليماني في مطلع 2020، ومؤخراً اغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زادة.
بنظرهم، كانت عمليتا الاغتيال محاولة من جانب أعداء إيران لشلِّ الردع الإيراني، وقد حان الوقت الآن لإحياء هذا الردع، وليس التفاوض.
ويعتقد المحافظون أنَّه مثلما سعى الغرب للحد من قدرات إيران النووية في المباحثات النووية مع البلاد في الماضي، فإنَّ أي مفاوضات بشأن القضايا الإقليمية والصواريخ من شأنها أن توجه ضربة ساحقة للأمن القومي الإيراني. فقال رئيس البرلمان المتشدد، محمد باقر قاليباف، مؤخراً: "المفاوضات مع الولايات المتحدة مؤذية للغاية وممنوعة".
وتتألف المجموعة الأخرى من البراغماتيين والمعتدلين الذين لا ينظرون إلى المفاوضات غير النووية باعتبارها تهديداً لمصالح إيران القومية، رغم التأكيد على الحاجة لتعزيز استراتيجية الردع الإيرانية، لكنَّهم مع ذلك لن يقبلوا بتطبيق الاتفاق النووي في حال كان مشروطاً بالمفاوضات الإقليمية والصاروخية.
وبنظرهم، في حال ركَّز فريق بايدن على الحاجة المزعومة لما يُسمَّى أمن الشرق الأوسط ومباحثات ضبط التسلح بدل الإصرار على التصدي لنفوذ إيران الإقليمي ونزع صواريخها، سيكون من الممكن التوصل إلى اتفاق بين إيران والغرب بتعاونٍ من دول المنطقة.
فبالنسبة لهم، حين يكون "التصدي لنفوذ إيران الإقليمي وصواريخها" على الأجندة الأمريكية، فإنَّ هذا يعني نهجاً عدوانياً تجاه إيران، لا يضع في الحسبان المخاوف الأمنية المشروعة للبلاد. ومثل هذا النهج لن يكون فعالاً مثلما أظهر الإيرانيون من خلال مرونتهم في مواجهة العقوبات الأمريكية غير المسبوقة.
برنامج الصواريخ الإيراني دفاعي.. هكذا يرونه
يعتقد البراغماتيون أنَّ سياسة إيران الصاروخية دفاعية بالكامل وردعية بطبيعتها.
وأعلنت طهران بالفعل أنَّ مدى صواريخها لن يتجاوز 1240 ميلاً (2000 كيلومتر)، في حين أنَّ بعض البلدان العربية في المنطقة مثل السعودية اشترت صواريخ صينية يبلغ مداها 3100 ميل (5000 كيلومتر).
ويعتقد البراغماتيون أنَّه في حال فُرِضَت ضغوط في أي مفاوضات مستقبلية محتملة على مستوى المنطقة للحد من قدرات برنامج الصواريخ الإيراني، يمكن لإيران أن تثير مُحِقَّةً قضايا الصواريخ السعودية، والرؤوس النووية الإسرائيلية، ومشتريات الأسلحة الحديثة من جانب دول الخليج، باعتبارها مبرراً للإصرار على الاحتفاظ بقدراتها الصاروخية، وهو ما سيمنح إيران اليد العليا في تلك المفاوضات.
هل يتم النظر إلى ملف التسلح في الشرق الأوسط برمته أم يقتصر على إيران؟
وفي مثل هذا الموقف، يجب على الولايات المتحدة والفاعلين الإقليميين تقرير ما إن كانوا سيمضون قدماً بعملية ضبط تسلح أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط أو الاعتراف بحق إيران في امتلاك قدرة صاروخية.
يعتقد البراغماتيون في إيران أنَّه لا ينبغي أن يكون هناك أي خوف من التفاوض، بل يجادلون بأنَّه يجب استغلال فرصة التفاوض لترسيخ إنجازات إيران الإقليمية والدفاعية. وينظرون إلى انتصار بايدن باعتباره فرصة لحل مشكلات إيران الإقليمية والدولية، ويعتبرون نهجه تجاه حل مشكلات الشرق الأوسط متوزاناً بعكس نهج ترامب.
وتُعَد نظرة البراغماتيين هذه أكثر أهمية بالنظر إلى حديث بايدن عن إعادة النظر في موقف الولايات المتحدة تجاه السعودية. ويحاجج البراغماتيون بأنَّ الرئيس السابق باراك أوباما كان يتحرك في هذا الاتجاه، والآن يمكن أن يسير بايدن على خطى أوباما ويواصل السير في هذا المسار الذي لم يكتمل.
وهذا هو موقف إدارة بايدن
قال مرشح بايدن لمنصب مستشار الأمن القومي، جايك سوليفان، في مقابلة مطولة مع "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" إنَّ إدارة بايدن ستُوقِف حملة الضغط القصوى التي ينتهجها ترامب ضد إيران، ولن تمسك بالاتفاق النووي رهينة للمباحثات الإقليمية والصاروخية، بل ستمثل عودتها إلى الاتفاق ضغطاً على الفاعلين الإقليميين لإجراء مباحثات إقليمية.
وقال أيضاً إنَّ الولايات المتحدة ستُحيل هذه المفاوضات إلى الدول الإقليمية، ولن تتولى زمام المبادرة. يتماشى هذا الموقف مع بيان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، مؤخراً، والذي يعيد التأكيد فيه على استعداد إيران لعقد مباحثات مع دول المنطقة بشأن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
يشير هذا إلى تفهم أمريكي مبدئي لرغبة إيران في تناول ملف التسلح في الشرق الأوسط.
وحتى وزير الخارجية الصيني دعا مؤخراً لإجراء مباحثات بشأن الأمن في الشرق الأوسط. وأعاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مؤخراً، التأكيد على مقترح بوتين لعقد مباحثات بين الأعضاء دائمي العضوية بمجلس الأمن الدولي وإيران لتأسيس نظام أمن جماعي في الخليج.
ماذا سيقدم الإيرانيون للسعودية في المقابل؟
ويبدو أنَّ استعداد إيران لاستخدام النفوذ الذي تتمتع به على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن –وهو الأمر الذي يُصِرُّ عليه بايدن ويكمن في صميم مصالح السعودية وأمنها القومي- يمثل نقطة انطلاق لمعالجة ملفات المنطقة بأكملها، ومنها برنامج الصواريخ الإيرانية والسعودية.
إذ يمكن لطهران أن تقنع حلفاءها اليمنيين بتوقيع اتفاق سلام مع السعودية.
مع ذلك، توجد عوائق حقيقية أمام عقد مفاوضات إقليمية وصاروخية، والتي يعتمد الانخراط فيها على نهج فريق بايدن للسياسة الخارجية. وتُعَد أجواء عدم الثقة بين إيران والولايات المتحدة التي تسهم فيها حملة الضغط القصوى التي ينتهجها ترامب واغتيال سليماني وفخري زاده، هي العقبة الرئيسة.
المحافظون يصنعون فخاً مشتركاً لبايدن وروحاني
تتمثل العقبة الثانية في الفترة القصيرة التي سيبقى خلالها روحاني في منصبه. فمع تولي بايدن الرئاسة في 20 يناير/كانون الثاني 2021، لن يكون أمام البلدين إلا 5 أشهر فقط من أجل إحياء الاتفاق النووي والعمل على القضايا الأخرى قبل انتخابات إيران المقبلة.
وإذا كانت إدارة بايدن تعتزم إحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة" ولم تمضِ عملية رفع العقوبات وفق ما هو متوقع، سيكون الطرفان أمام مشكلة جدية، في مطلع فبراير/شباط، حين تنتهي المهلة الواردة ضمن مشروع قانون دفع به المتشددون ليكون عاملاً مُخرِّباً متعمداً، ومرره البرلمان الإيراني (ومن المعروف أن هذا البرلمان جاء عبر انتخابات جرى التقييد فيها على الإصلاحيين، وهو أمر نتيجة لتوجيهات المرشد الإيراني على الأغلب).
ووفقاً لهذا القانون، فقد منح البرلمان الإيراني البلدان الأوروبية والولايات المتحدة شهرين لرفع العقوبات. وأعربت إدارة روحاني عن معارضتها لمشروع القانون، ووصفته بأنَّه ضار بالجهود الدبلوماسية، لكن ولأنَّ المشروع تحول إلى قانون أقره لا يمكن لروحاني منع نفاذه. وقال ظريف إنَّ الحكومة ستكون مضطرة لتطبيق القانون، والذي ستتخلى إيران بموجبه عن كل التزاماتها النووية تقريباً.
وفي حال طُبِّق هذا القانون، من الممكن أن يُقضى على الاتفاق النووي في الشهر الأول من رئاسة بايدن. لكن بإمكان بايدن رفع العقوبات التي علَّقها الاتفاق النووي من خلال قرارات تنفيذية، وبعد ذلك، مثلما أعلن روحاني مؤخراً، ستعود إيران إلى التزاماتها النووية.