كان إعلان تأجيل زيارة ماكرون إلى لبنان بسبب كورونا، منقذاً للجميع وأولهم الرئيس الفرنسي الذي قال إنه راهن برأسماله السياسي على ما سمي مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان.
في حقيقة الأمر، فإن المشاحنات السياسية حول تشكيل حكومة للبلاد مقدِر لها أن تستمر إلى أجلٍ غير مسمّى، بغضّ النظر عن توسّط ماكرون شخصياً، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
إذ لا يبدو أن السياسيين اللبنانيين خاصة الشيعة، لا يأبهون بتهديدات ماكرون وحتى تلك التي يلوح فيها بإطلاق يد الأمريكيين لفرض عقوبات عليهم وهو ما بدأته واشنطن بالفعل.
وكان من المقرر أن تتم زيارة ماكرون للبنان، الأسبوع المقبل، لتصير ثالث زياراته للبلد في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب، الذي مزّق العاصمة ودفع باستقالة مفاجئة لرئيس الوزراء حسان دياب وحرّك دعوات إصلاح واسعة النطاق.
لم يفوا بوعودهم
وكان يفترض أن هذه الزيارة تهدف إلى استكمال محاولات ضمن مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان- لم تُكلل بعد بالنجاح- تبذلها فرنسا لإقناع السياسيين اللبنانيين بتشكيل حكومة من شأنها تنفيذ إصلاحات هيكلية واقتصادية كان قد اشترط المجتمع الدولي إنجازها في مقابل المساعدات المالية التي تشتدّ الحاجة إليها في البلاد.
وعلى عكس الزيارات السابقة التي أجراها الرئيس للبنان في أعقاب انفجار بيروت المدمّر، لم تتصدّر التحضيرات المثيرة قبل حضور التفتيش الباريسي هذه المرّة عناوين الأخبار. وثمّة سبب لذلك.
إذ يقول أدهم الحسنية، من حركة "لي حقي" المستقلّة، إن إلغاء زيارة ماكرون ليس له آثار واضحة حتى الآن، بالنظر إلى ضآلة تأثير مبادرته على تشكيل الحكومة والوضع عموماً.
وكان ماكرون قد استنكر- مطلع هذا الشهر في افتتاح مؤتمر دولي ثان لدعم لبنان بعد مرور أربعة أشهر على انفجار مرفأ بيروت– سلوك المسؤولين اللبنانيين الذين لم يفوا بتعهداتهم تشكيل حكومة والبدء بإصلاحات هيكلية مشروطة بها المساعدات للبنان.
هل "الثالثة ثابتة"؟
جاءت زيارة ماكرون الأولى للبنان بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت الذي أسفر عن مقتل نحو 200 شخص وإصابة الآلاف.
وفاجأ الرئيس الفرنسي الأهالي والمتطوعين في حي الجميزة المدمر ببيروت، وقوبل حينها بهتافات وشعارات مناهضة للحكومة رددها البعض.
قال ماكرون إنه لم يأتِ لدعم الحكومة اللبنانية، إذ وعد بألا توجَّه المساعدة الفرنسية إلى شبكات الفساد في البلاد، وأنه سيدفع نحو اتفاق موحد بين حكام لبنان لتنفيذ الإصلاحات وإنعاش الحياة في البلاد مرّة أخرى، وأطلق ما سمي مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان.
عانى لبنان من أزمة اقتصادية مروّعة خلال العام الماضي جعلت ما لا يقل عن نصف سكانه تحت خط الفقر وأفقدت العملة الوطنية أغلب قيمتها، ووصل الأزمة إلى ذروتها بإنهيار المصارف.
وتفاوض البلد دون جدوى مع صندوق النقد الدولي من أجل إنقاذ الموقف، إلا أن المجتمع الدولي ليس مستعداً لدفع فلس في هيئة مساعدات اقتصادية للبنان دون إجراء إصلاحات مالية وهيكلية.
ورأى البعض زيارة ماكرون الأولى والخطاب الصارم الموجَّه للسلطات اللبنانية أموراً مشجِّعة، إلا أن زيارته الثانية للبلد في غضون أقل من شهر وُصِفت بالفتور- على أقل تقدير، رغم تقديم مخطط إصلاحي والتلويح بفرض عقوبات ضد الطبقة الحاكمة الفاسدة في البلاد.
واعتبر كثيرون تلك الزيارة مجرّد "حيلة دعائية".
ومنذ زيارة ماكرون الأولى، حبس لبنان نفسه في شِراك شلل سياسي كارثي، علقت فيه مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان.
إذ استقال دياب بعد أسبوع من الانفجار، معترفاً في خطابه الفاجع بأن "منظومة الفساد في لبنان أكبر من الدولة".
آنذاك وقع الاختيار على مصطفى أديب، سفير لبنان في ألمانيا، ليخلف دياب في وقت لاحق من ذلك الشهر بمباركة الرئيس الفرنسي، إلا أنه سرعان ما استقال بعد بضعة أسابيع.
وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول، اختير سعد الحريري، رئيس الوزراء السابق وسليل عائلة الحريري ذات الحضور السياسي البارز لمهمة أخرى في مقر الحكومة اللبنانية، إلا أنه لم يتمكن بعد من تشكيل حكومة.
تفاصيل مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان
لم يُعلن على الملأ عن تفاصيل مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان سيئة السمعة، حسب وصف الموقع البريطاني، ومع ذلك، ورد أنها تنطوي على العديد من مواطن التأكيد على وعود الإصلاح التي قدمها لبنان للمجتمع الدولي دون أن يُتّخذ أي إجراء للوفاء بها، لا سيّما استئناف المحادثات مع صندوق النقد الدولي، ووضع خطّة عمل لمكافحة الفساد، وحل مشكلة الكهرباء.
وسبق أن كشفت مصادر دبلوماسية لـ"عربي بوست" عن بنود الميثاق الوطني الجديد، الذي أشار إليه الرئيس الفرنسي على أنه كان يعمل خلال الشهرين الماضيين على إخراجه، ميثاق يضمن اتفاقاً بين الأطراف اللبنانية والمجتمع الدولي وتحديداً واشنطن وباريس ولندن وموسكو.
وأوصى ماكرون بضرورة وضع وثيقة تأسيسيّة تكون بمثابة عقد سياسيّ واجتماعيّ جديد للبنان، وقال إنه في حال لم تصدر قبل نهاية صيف 2020، فإنّ فرنسا ستلغي أيّ إمكانيّة لمساعدة لبنان مالياً، والأهمّ إلغاء مخرجات مؤتمر سيدر الذي عقد في باريس العام 2018، وقرر منح لبنان منحاً وقروضاً بقيمة ١٢ مليار دولار شريطة إجراء الإصلاحات، وبالطبع لم ينصع أحد لتهديداته ومر الصيف والخريف ودخل الشتاء دون تغيير.
وحسب ما تسرب من مبادرة ماكرون لإنقاذ لبنان ستركز باريس تواصلها مع لبنان بلجنة مدنيّة من الحراك تمثّل الشعب اللبنانيّ وليس الإدارة السياسيّة التي تُدير الدولة منذ سنوات.
أمّا في مضمونها فيكشف المصدر أنّ أهم ما جاء في الوثيقة بند "الحياد المسلح" الذي تلتزم بموجبه لبنان الحياد تجاه أي معارك حاصلة خارج حدودها الجغرافية، ملتزمة فقط بمبدأ "الدفاع عن النفس" تجاه أي عدوان مسلح، ويكون رد العدوان من قبل "الجيش اللبناني" فقط، الأمر الذي سيترتب عليه رفع قدرات الجيش اللبناني العسكرية والمالية، واللوجستية، والذي ستتولى واشنطن وباريس ودول أخرى دعمه، وأن هذا البند يحتاج لموافقة وتنازل من حزب الله وقبوله بالصيغة الجديدة .
كما ستتضمّن تنفيذ اللامركزيّة الإداريّة عبر خطّة كاملة تُعيد بلورة عمل المؤسسات والهيئات والمصالح، إضافةً إلى إنقاذ المسار الاقتصادي والاجتماعي عبر الكفاءة والجدارة بدلاً من الطائفية والمحاصصة المذهبية المعمول بها منذ تأسيس لبنان.
ستُعبّر الوثيقة عن التأكيد على الحفاظ على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب ومجلس الوزراء والتعيينات الإداريّة لمنع التفريط بها، فضلاً عن احترام المواطنيّة والتعدديّة وإشراك المرأة.
وبالنسبة إلى حزب الله يؤكد المصدر أنّه "سيكون عليه التراجع عن الإمساك بمفاصل الدولة، بُحكم الموافقة الروسيّة على الميثاق الجديد، والذي سيدفع طهران لاحقاً للموافقة عليها، كي يستطيع العمل مع باقي الأحزاب، فالوثيقة بمثابة إعلان توازن جديد في لبنان وعليه القبول بها والتفاهم على ملف سلاح حزب الله لاحقاً في حال حصول اتفاق إيراني- أمريكي في المنطقة.
ويتضمن الميثاق الجديد أيضاً مشاركة قوى الثورة والحراك بشكل فاعل عبر تشكيل مجلس وطني يضم ممثلين عن أكبر مجموعات الحراك الذي انطلق في 17 أكتوبر/تشرين الأول ويمثل شريحة أوسع من اللبنانيين.
في سبتمبر/أيلول 2020 أُمهل لبنان أسبوعين لتشكيل حكومة وإقرار هذه الإصلاحات. لكن بعد قرابة أربعة أشهر، لم يتحقق شيء على أرض الواقع.
تاهت المبادرة الفرنسية بين مساومات التيار الوطني الحر الذي أسسه الرئيس عون ويقوده صهره جبران باسيل للحفاظ على ما يسميه تمثل المسيحيين الذي يجعل وصياً على الحكومة التي يفترض أنها تكنوقراط، وبين رفض حزب الله وأمل القاطع للتخلي عن ضرورة أن يكون وزير المالية شيعياً ومن اختيارهما.
كيف أفشلت الطبقة السياسية المبادرة حتى قبل زيارة ماكرون إلى لبنان؟
وحتى قبل إلغاء زيارة ماكرون، تبادل الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الوزراء المكلف سعد الحريري، الاتهامات بشأن تأخُّر تشكيل حكومة جديدة، مما أثار مزيداً من الشكوك حول ما إذا كانت الحكومة الجديدة ستتشكل قريباً.
ومؤخراً احتشد السنة جميعاً ضد فكرة التحقيق أو محاكمة رئيس الوزراء المستقيل حسان دياب باعتباره أحد الذين شغلوا الموقع السني الأول، والمفارقة أن رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري نفسه، رفض هذه المطالبات بالتحقيق مع دياب مع أنه ينظر للأخير أنه منافس له ومقرب لحزب الله، والرئيس عون، ولكن طبيعة التركيبة الطائفية في لبنان تجعل استهداف أي زعيم أو شخصية بارزة من أي طائفة استهدافاً للطائفة كلها بصرف النظر عن صحة الاتهامات الموجهة لدياب من عدمها، ولكن هذا الاصطفاف السني وراء دياب سيتكرر أمام أي محاولة للإصلاح أو تقليل الطائفية أو إبعاد رمز فاسد أو محاكمته.
قارن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مؤخراً التداعي السياسي والاقتصادي في لبنان بمشهد تحطّم السفينة تيتانيك "حتى إنه يفتقر إلى الموسيقى". لكن هل يمكن قول الشيء نفسه عن المبادرة الفرنسية؟
أين أخطأ الرئيس الفرنسي؟
يعتقد الزميل الرئيسي بمبادرة الإصلاح العربي، جميل معوض، أن ماكرون قد وضع البيض كلّه في سلّة واحدة، إذ صبّ تركيزه الكامل على حكام لبنان.
وترى مها يحيى، مديرة مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، أنه بغض النظر عن جهود ماكرون، فإن الطبقة الحاكمة اللبنانية عنيدة للغاية، ولا يتسنّى التأثير عليها لتُنفّذ إصلاحات أو تشكّل حكومة.
وقالت مها في حديث أجرته مع Middle East Eye: "لقد بيّن السياسيون اللبنانيون أنهم لن يسرعوا في هذه العملية، رغم مُضيّ لبنان في اتجاه الهاوية. إذ يثبت هؤلاء مراراً وتكراراً أن مصالحهم الخاصة تتفوَّق على مصالح لبنان واللبنانيين مهما كانت الظروف".
فكل المؤشرات تدل على أنّ من بيدهم الحل والربط لم يتفهموا بعد حجم الكارثة. ولا يريدون تقديم أي حل شامل يستدعي التضحية بمصالحهم الفردية والفئوية والآنية، وإن كان البعض منهم قادراً على "الصمود والتصدّي". فأكثرية اللبنانيين عبّرت عن عجزها في خوض مثل هذه المغامرة، حسب وصف الكاتب اللبناني، جورج شاهين في مقال لصحيفة الجمهورية اللبنانية.