يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مأزقاً داخلياً لا أحد يمكنه التنبؤ بما قد يؤول إليه، فانحيازه للشرطة قد يعني مزيداً من الغضب الشعبي وتراجعه قد يؤدي إلى خسارة دعم الشرطة والمحافظين، فأين المفر؟
كيف جاء ماكرون بوزير الداخلية الحالي؟
منذ وصوله للرئاسة يحكم ماكرون البلاد باعتباره شخصية تكنوقراط، فأعاد صياغة قانون العمل الغامض لتنشيط الاقتصاد وحاول إصلاح النظام المالي للاتحاد الأوروبي. وبالنسبة لقضايا الأمن والنظام -بما في ذلك التوترات طويلة الأمد بين الشرطة والأقليات المسلمة التي تعيش في ضواحي الطبقة العاملة في البلاد- أذعن ماكرون لوزير الداخلية دارمانين وأسلافه في وزارة الداخلية.
فبعد مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة هذا الربيع خرج عشرات الآلاف من الناس إلى الشوارع في فرنسا للتعبير عن الغضب حيال مصير فلويد ومصير رجل فرنسي من أصول إفريقية توفي في حجز الشرطة قبل 4 سنوات، وخلُص تقرير أُجري بتكليف من عائلة ذلك الرجل، أداما تراوري، في يونيو/حزيران أنَّه على الأرجح اختنق بعد إخضاعه على الأرض.
وبحسب مسؤولين فرنسيين كلَّف ماكرون وزير داخليته آنذاك، المساعد المقرب كريستوف كاستانير، بإصلاح ممارسات الشرطة ومعالجة مخاوف المحتجين. رد كاستانير بخطة لحظر الخنق -الضغط على رقبة المشتبهين- والتوقيف الممنهج لضباط الشرطة المشتبهين بالعنصرية.
لكن رد فعل الشرطة كان قوياً، فنفت نقابات الشرطة اتهامات العنصرية وقامت بسلسلة من الاحتجاجات المضادة. وكتب فريدريك فو، المدير العام للشرطة الفرنسية، خطاباً لقواته، أعلمهم فيه أنَّه شعر بإحباطهم من حكومة ماكرون. وكتب: "أشاطركم هذا الشعور بالظلم العميق".
فأجرى ماكرون تعديلاً على حكومته، فأحلَّ جيرالد دارمانين محل كاستانير، الذي التقى الشرطة وبارك مقترحهم بجعل تعتيم أوجه الضباط إلزامياً عند نشر الناس صوراً أو فيديوهات علنية لهم. وقال: "سأرعى هذا المقترح"، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وكان تعيين دارمانين في يوليو/تموز الماضي مثيراً للجدل منذ البداية. إذ يخضع دارمانين للتحقيق من جانب محققين فرنسيين في زعم اغتصابه سيدة عام 2009، وهي المزاعم التي ينفيها. وكان دارمانين عضواً سابقاً في حزب "الجمهوريين" المحافظ، ولديه تاريخ في توجيه انتقادات لاذعة لماكرون.
"لا يمين ولا يسار"
كان ماكرون قد صعد إلى السلطة على أساس برنامج "لا يمين ولا يسار"، لكن الآن بعد سنوات من المزج بين جانبي الانقسام السياسي في فرنسا، يواجه أزمة وطنية تطالبه بالانحياز إلى جانب.
إذ خرج عشرات الآلاف في مسيرات في الشوارع طوال أسابيع للاحتجاج على ما يرون أنَّه وحشية الشرطة وعنصريتها بعد الانتشار السريع لمقطع فيديو يُظهِر عناصر من الشرطة يضربون منتجاً موسيقياً أسود البشرة.
في الوقت نفسه، يضغط دارمانين – بدعم من استطلاعات الرأي، والمشرعين المحافظين، وجحافل من ضباط الشرطة- من أجل قانون لتقييد قدرة الأفراد على نشر صور لعناصر الشرطة على الإنترنت. ومن المتوقع أن يصوت مجلس الشيوخ عليه في وقتٍ مبكر من العام المقبل.
دفع هذا بماكرون إلى زاوية غير مريحة، ففي اجتماع طارئ مؤخراً مع دارمانين، وهو محافظ مثير للمشكلات يبلغ 38 عاماً، وأعضاء بارزين آخرين في حكومته، كان ماكرون غاضباً. فوفقاً لأشخاص مطلعين على المسألة، قال ماكرون (42 عاماً) لدارمانين: "كان بالإمكان تجنُّب الموقف الذي وضعتني فيه"، وقالوا إنَّ دارمانين لم يتأثر.
يتمثل أسلوب عمل ماكرون في: ابقَ بعيداً عن التورط بصورة مباشرة في جدال أو خلاف صعب، وأعلن رأياً في نَفس، وفي التالي قُل: "من ناحية أخرى…"، لكنَّ هذا الشكل من السياسة آخذ بالتفكك، إذ انجرف حزب ماكرون وحكومته نحو اليمين، ويجد الرئيس أنَّه لم يعد بإمكانه تجنُّب الحروب الثقافية التي لطالما مزَّقت روابط المجتمع الفرنسي.
وبدا التحول واضحاً هذا العام، بعد خسارة حزب ماكرون، "الجمهورية إلى الأمام"، العديد من الانتخابات البلدية في يونيو/حزيران الماضي، بما في ذلك في باريس. أعقب ذلك انشقاقات من جانب مشرعين يميلون إلى اليسار، ما كلَّف ماكرون أغلبيته المطلقة في البرلمان.
الهروب إلى الأمام بمهاجمة "الانعزالية الإسلامية"
وفي خضم هذا الانقسام ألقى ماكرون، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خطاباً يستنكر فيه ما سمّاه "الانعزالية الإسلامية"، وهي حركة قال إنَّها تهدف لتقويض قيم الجمهورية الفرنسية، لاسيما مبدأ العلمانية الصارمة، المعروف باسم "اللائكية".
خطاب ماكرون أثار غضب كثير من المسلمين، ليس فقط داخل فرنسا التي يمثل المسلمين فيها نحو 6% من سكان البلاد، لكن إصرار الرئيس الفرنسي التمسك بالرسوم المسيئة لنبي الإسلام خلال تأبينه للمدرس الذي عرض تلك الرسوم على طلابه وتعرض للذبح على يد مراهق شيشاني، أثار عاصفة من الغضب والرفض الشعبي والرسمي في العالم الإسلامي، ما دفع ماكرون للاعتذار.
ومع تراجع دعم اليسار للرئيس داخل البلاد بصورة لافتة، أجرى ماكرون مقابلة مع موقع Brut، وهو موقع إخباري يحظى بشعبية لدى الشباب، ودافع ماكرون عن جوانب من تشريع دارمانين الذي يحمي الشرطة دون أن يفصح عما إن كان يدعم القيود المفروضة على نشر صور الضباط على الإنترنت أم لا. فقال: "أتشارك نفس الهدف: حماية ضباط الشرطة، ما لا أرغب فيه هو تقليص أيٍّ من حرياتنا لبلوغ ذاك الهدف".
ففي أكتوبر/تشرين الأول، قدَّمت مجموعة من المشرِّعين من حزب ماكرون مشروع قانون جديد للبرلمان يهدف لتحسين التنسيق بين قوات الشرطة الوطنية والشرطة المحلية والأمن الخاص قبل الألعاب الأولمبية 2024 في باريس. عمل دارمانين مع المشرعين لإضافة بند، المادة 24، تُجرِّم نشر صور أو مقاطع فيديو لعمليات الشرطة تُظهِر "وجه أو أي عنصر آخر مُحدِّد للشخصية" لأفراد الشرطة بهدف إيذائهم "جسدياً أو نفسياً".
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، خرج الآلاف من الناس بينهم صحفيون ومجموعات حقوق إنسان إلى الشوارع، للاحتجاج على مشروع القانون، وقالوا إنَّ من شأنه أن يمنع الناس من تصوير وكشف وحشية الشرطة. وبحسب نقابة الصحفيين تعرَّض العديد من الصحفيين الذين يغطون الاحتجاجات للضرب من جانب الشرطة، واحتُجِز اثنان منهم على الأقل لبضع ساعات.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني، نشر موقع Loopsider الإخباري الفرنسي لقطات من كاميرا أمنية داخل استوديو موسيقي خاص بميشيل زيكلر في باريس، يُظهِر 3 من ضباط الشرطة يلكمونه ويضربونه بهراوة. ووفقاً لمحامي زيكلر والمحققين الباريسيين الذين يحققون في الحادثة، قال زيكلر إنَّ أحد الضباط نعته باللغة الفرنسية بأنَّه "زنجي قذر" بينما كان يضربه. ويُظهِر الفيديو أيضاً استخدام الغاز المسيل داخل استوديو الموسيقى.
وفي خضم الغضب العام إزاء اللقطات أعلنت حكومة ماكرون أنَّها ستراجع المادة 24، دون أن توضح كيف. لكنَّ وزير الداخلية دارمانيان ظهر على غلاف مجلة Paris Match المجتمعية الفرنسية البارزة وإلى جانبه اقتباس يقول فيه: "لن أتخلى عن ضباط الشرطة".
في غضون ذلك، تنتقد نقابات الشرطة الرئيس على خلفية تعليقاته لموقع Brut بشأن ممارسات الشرطة. وقال ماكرون حينها: "صحيح أنَّه يجري توقيفك بصورة أكثر بكثير اليوم حين لا يكون لون بشرتك أبيضَ".
وكتب ماكرون رسالة لزعيم إحدى نقابات الشرطة إيف لوفيفر، ليقول إنَّه يعتزم تنظيم لقاء كبير مع نقابات الشرطة والعمداء والمواطنين لمناقشة كيفية تحسين تدريب وموارد الشرطة. وكتب: "سأحضر شخصياً". قَبِلَ لوفيفر الدعوة، لكن لم تقبل نقابات الشرطة الأخرى.
الخلاصة أن الرئيس الذي يعاني حالياً من الإصابة بعدوى فيروس كورونا، يعاني أيضاً من مأزق سياسي خطير، فهل يختار الانحياز تماماً نحو اليمين في نهاية المطاف؟.