عاصفة الهجوم الإلكتروني التي تعرضت لها وكالات حكومية أمريكية قد تكون الأخطر حتى الآن، ورغم نفي روسيا تورطها في الهجوم، فإن الاتهامات لها من الجانب الأمريكي تبدو قوية، فلماذا قد يجيز فلاديمير بوتين عملاً عدائياً هكذا قبل تولي جو بايدن؟
تهنئة متأخرة من بوتين لبايدن
لا شك أن الرئيس الروسي استفاد كثيراً من فترة رئاسة دونالد ترامب في استعادة الكثير من النفوذ الروسي على مسرح السياسة الدولية، وهو ما يفسِّر عدم مسارعة بوتين لتهنئة الرئيس المنتخب جو بايدن وانتظاره حتى تصديق المجمع الانتخابي على النتيجة قبل أيام قليلة.
وربما يكون بوتين الأخير بين أبرز قادة العالم الذين فضلوا الانتظار قبل تهنئة بايدن، كما انتقد مسؤولون بارزون في موسكو، بمن فيهم رئيس هيئة الانتخابات في البلاد ووزير الخارجية، العملية الانتخابية الأمريكية التي وصفوها بأنها فوضوية ولا تمثل رغبة الشعب.
وفي رسالة التهنئة التي وجهها إلى بايدن، قال بوتين إن بلديهما "يتحملان مسؤولية خاصة حيال الأمن والاستقرار العالميين"، معرباً عن ثقته بأنه بإمكان موسكو وواشنطن "رغم خلافاتهما، المساهمة حقاً في حل العديد من المشكلات والتحديات التي يشهدها العالم حالياً".
توقيت الهجوم السيبراني مثير للدهشة
وبالتالي فإن توقيت الهجوم السيبراني الضخم الذي استهدف الولايات المتحدة، وقد يكون لا يزال مستمراً، يثير كثيراً من التساؤلات بشأن الأهداف التي يسعى بوتين- في حال كانت موسكو بالفعل هي من تقف وراءه- لتحقيقها من وراء معاداة إدارة بايدن التي تؤكد المؤشرات أنها ستكون أكثر صرامة في التعامل مع موسكو من إدارة ترامب بالفعل.
أعلنت واشنطن عن تعرضها لهجوم إلكتروني، وصفته بـ"الكبير والمستمر"، استهدف عدداً من الجهات الحساسة والمهمة في الدولة، فيما بدا أنها عملية كبيرة مخطط لها بعناية، وتمت على مستوى عالٍ من الدقة والحرفية، وذلك يوم الأحد الماضي 13 ديسمبر/كانون الأول.
وتشير المعلومات التي تتكشف يوماً بعد يوم إلى أن نطاق الاختراق كان كبيراً جداً، حيث يبدو أنه يتجاوز المعامل النووية وأنظمة البنتاغون ووزارتي الخزانة والتجارة الأمريكيتين، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد التحدي أمام المحققين الفيدراليين وهم يحاولون تقييم الضرر وفهم ما تمت سرقته.
تعزيز صورة بوتين في الداخل
وكالة Bloomberg الأمريكية ذكرت أنه يبدو أن هدف بوتين من شن عاصفة الهجوم الإلكتروني على الوكالات الحكومية الأمريكية هو تعزيز لصورته في الداخل على أنه الزعيم القوي الذي لا يخشى مواجهة عدو الحرب الباردة القديم، حتى وإن كان الكرملين، في الوقت نفسه، ينفي التورط في الأمر وسط مخاوف من رد فعل عنيف عندما يصل جو بايدن إلى البيت الأبيض رسمياً.
ونقلت الوكالة عن أندريه كورتونوف، رئيس "مجلس الشؤون الدولية الروسي" الذي أسسه الكرملين، قوله إن ما حدث "يعزز من هيبة السلطات في الداخل. لكن خارج روسيا، يؤدي ذلك فقط إلى تعميق عدم الثقة ومن ثم يخلق مزيداً من المخاطر" من خلال تأجيج العداء في واشنطن وعواصم غربية أخرى.
ترامب يبرئ صديقه بوتين
وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو كان أكبر مسؤول أمريكي يربط موسكو مباشرةً بالهجمات، قائلاً في مقابلة إذاعية أجراها يوم الجمعة 18 ديسمبر/كانون الأول إن بوتين "لا ينفك يشكّل خطراً حقيقياً على أولئك الذين يحبون الحرية منا. أعتقد أنه يمكننا الآن أن نقول بوضوح تام إن الروس هم المسؤولون عن هذا الهجوم".
لكن ترامب المشغول تماماً بنتيجة الانتخابات ورفضه لها، استغرق نحو أسبوع قبل أن يعلق على الهجوم ويبدو أنه قرر التعليق فقط دفاعاً عن بوتين، حيث نشر تغريدات أمس السبت 19 ديسمبر/كانون الأول، ناقض فيها تصريحات بومبيو وأشار بدلاً من ذلك إلى أن ثمة احتمالاً أن تكون الصين هي المسؤولة، مؤكداً في الوقت نفسه أن الأمور "تحت السيطرة" وأنه لا داعي لتضخيم الأمر.
عقوبات متوقعة على روسيا
لكن إذا كان بوتين استفاد من الهجوم- الذي لم تتبنه روسيا وتنفيه- داخلياً في تعزيز الشعور القومي لدى مواطنيه الروس، فإنه على الأرجح معرض لموجة ثانية من العقوبات الأمريكية بمجرد أن يتولى بايدن مسؤوليته رسمياً في 20 يناير/كانون الثاني المقبل.
وقد بدأت المخاطر المتوقعة على روسيا في التكشف الجمعة الماضي تزامناً مع اتهامات بومبيو، إذ تعرض الروبل الروسي لضربة بعد أن حافظ على ارتفاعه لمدة شهرين، حيث انخفضت قيمته بما يصل إلى 1.4% وسط مخاوف متجددة بشأن العقوبات.
ومع ذلك فإن سنوات من العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا تشي بأن الأخيرة أصبحت على ما يبدو أكثر مقاومة للضغوط، وقد لا يتبقى لواشنطن سوى القليل لإخضاعه لعقوباتٍ جديدة دون تعطيل أسواق الطاقة والموارد المعدنية العالمية، حيث تضطلع روسيا بدور مهم في هذه المجالات.
بوتين من جانبه يتجاهل أي اتهامات بأنه وراء حملات القرصنة الإلكترونية تلك، وعندما سأله صحفي في المؤتمر الصحفي السنوي للرئيس الروسي يوم الخميس 17 ديسمبر/كانون الأول، بنوعٍ من السخرية والتلميح، عن سبب عدم تمكن المتسللين الروس من تكرار عمليات الاختراق لعام 2016 للمساعدة في إعادة انتخاب ترامب مرة أخرى، ردَّ بوتين السؤال بابتسامة تحمل قدراً من "الاستفزاز".
حملة "انتقامية"
واتهم زعيم الكرملين الاستخبارات الأمريكية بالتورط في تسريبٍ نُشر حديثاً عن الشؤون المالية لعائلته، واصفاً ذلك بأنه جزء من حملة "انتقامية" ضد روسيا.
في المقابل قال ثلاثة أشخاص مقربين من الكرملين لبلومبيرغ إن تداعيات الهجوم السيبراني على شركة "سولارويندز" SolarWinds Corp الأمريكية للبرمجيات، والذي امتدت آثاره إلى عملائها، ومنها إدارات حكومية وهيئات تابعة لوزارات الخزانة والتجارة وعدد كبير من الشركات الكبرى، قد تطلق العنان لردٍ يتضمن جولة جديدة من الضغط على روسيا.
وفي حين أن روسيا لم تكن تتوقع من الأصل تخفيف سياسة الضغوط الأمريكية في عهد بايدن، فإن كل اتهام جديد يُضعف احتمالات التطبيع الأمريكي معها لأن الرئيس المنتخب لن يكون قادراً على بدء إدارته من صفحة جديدة، بحسب ما قاله أحد المصادر.
ومن الجدير بالذكر أن بايدن يتولى منصبه بعد أربع سنوات من تدهور العلاقات تدهوراً مطرداً بين البلدين، بعد أن خلصت الاستخبارات الأمريكية إلى أن روسيا تدخلت في الحملة الانتخابية لعام 2016 للمساعدة في انتخاب ترامب، وإن كان الكرملين ينفي هذا الاتهام.
ورغم أن قلة من المحللين في موسكو هي من توقعت نوعاً من ذوبان الجليد من الرئيس الأمريكي الجديد، فإنه كان هناك على الأقل توقع إيجاد أرضية مشتركة بشأن بعض القضايا.
فعلى خلاف ترامب، وعد بايدن بتمديد معاهدة "ستارت الجديدة"، التي تهدف إلى تخفيض الحد الأقصى للرؤوس الحربية النووية للبلدين، قبيل انتهائها في فبراير/شباط، وهي آخر اتفاقية أسلحة نووية متبقية بين روسيا والولايات المتحدة.
كما تعهد بادين بالعودة إلى اتفاق 2015 النووي الذي يحدُّ من البرنامج النووي الإيراني، بعد أن كان ترامب قد تخلى عنه، وإن كان ثمة دعوات إلى إدخال بعض التغييرات على الاتفاق.
وتعليقاً على الأزمة، يقول ألكسندر دينكين رئيس "معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية" التابع لأكاديمية العلوم الروسية لبلومبيرغ إن فضيحة "سولارويندز" هي "محاولة لبثِّ المزيد من السلبية وزيادة الخطاب المعادي لروسيا لقطع الطريق أمام مبادرات بايدن الإيجابية القليلة في الأصل"، ووصف ما يحدث بأنه "تحركات خطيرة".
بايدن يركز على ردع الهجمات
واللافت أن بايدن لم يهدد باتخاذ أي إجراءات انتقامية محددة حتى الآن، على الرغم من أنه حذَر يوم الخميس 17 ديسمبر/كانون الأول من أن إدارته ستتحرك لردع الهجمات الإلكترونية من الخصوم من خلال "فرض تكاليف كبيرة على المسؤولين" عن أي هجوم من هذا النوع.
على النقيض، يقول فلاديمير فرولوف، الدبلوماسي الروسي السابق الذي يعمل الآن محللاً للسياسة الخارجية في موسكو، إن المزاعم الأخيرة ليست بالخطورة التي كان عليها الأمر في عام 2016، عندما اتُّهمت الاستخبارات العسكرية الروسية باستهداف المرشحة الديمقراطية للرئاسة، هيلاري كلينتون، من خلال عملية اختراق لبريدها الإلكتروني وتسريب معلومات حساسة، لأن الاختراق الحالي لا يشكّل محاولة للتدخل في السياسة الأمريكية، بحسب فرولوف.
ويشير فرولوف إلى أن ما حدث عملية تجسس كلاسيكية، قائلاً إن الأمريكيين هم من يستحقون اللوم، وكان ينبغي لهم حماية شبكتهم الإلكترونية على نحو أفضل. وأضاف "ربما يُطرد بعض الدبلوماسيين، لكني أشك في أن يتجاوز الأمر ذلك".
يُذكر أن بوتين كان قد شدَّد على المنافسة المتزايدة بين القوى الكبرى في الساحة الرقمية، خلال اجتماع لمجلس الأمن يوم الجمعة 18 ديسمبر/كانون الأول، قائلاً إنه سيركز على "تحييد التهديدات للأمن القومي لروسيا، لا سيما المرتبطة بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي للأغراض العسكرية".