سؤال يتكرر عند كل انتخابات أمريكية وهو: ماذا ستفعل الإدارة الجديدة للبيت الأبيض مع إسرائيل؟ فستكون الإجابة دوماً: الدعم اللامحدود. لكن يبدو أن الرئيس المنتخب جو بايدن قد يكون أكثر جرأة في التعامل مع إسرائيل من الرؤساء السابقين، لا لشيء إلا لقدرة تل أبيب على التعامل بمفردها بعيداً عن واشنطن في الملفات الحساسة، التي قامت بعديد منها في الفترة الأخيرة.
وبحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي، يرى ميتشل بليتني، نائب الرئيس السابق لـ"مؤسسة السلام في الشرق الأوسط"، أن ما حدث في حقبة أوباما من توتر بين نتنياهو والرئيس السابق باراك أوباما، قد يتكرر في عهد بايدن ولكل بشكل أكثر قسوة.
ففي عام 2015، خرج نتنياهو على عقود من التقاليد الإسرائيلية وتدخَّل على نحو سافر في السياسات الحزبية بالولايات المتحدة. تواطأ نتنياهو مع رئيس مجلس النواب آنذاك، جون بوينر، لتجاوز الرئيس باراك أوباما وإلقاء كلمة في جلسة مشتركة للكونغرس، دون موافقة من البيت الأبيض، للتعبير عن معارضته للاتفاق النووي الإيراني.
هل كانت العلاقة بينهما على المحك؟
وعلى الرغم من أن مستشارة أوباما للأمن القومي، سوزان رايس، قالت إنَّ تصرف نتنياهو "مدمر لنسيج العلاقة" بين إسرائيل والولايات المتحدة، فإن إسرائيل لم تُنقص شيئاً خلال السنوات بعدها، وجاء رد أوباما نفسه على هذا التدخل المباشر في السياسة الأمريكية بالتصديق على التزام أمريكي جديد بدعم إسرائيل لمدة 10 سنوات بأكبر منحة مساعدات عسكرية في التاريخ. كما أن الإجماع الراسخ بين الحزبين على تأييد إسرائيل لم يلحق به سوى قليل من الضرر.
لقد أدرك الإسرائيليون في هذه الواقعة أن إسرائيل تستطيع أن تفعل ما تريد، وأن ذلك لن يغير من أصوات الديمقراطيين بشأنهم أو ينتقصهم شيئاً. وفوق ذلك، برهن نتنياهو على أن بإمكانه تجاهل التقاليد والأعراف السياسية التقليدية دون عواقب تذكر.
عندما حذَّرت رايس من إضرار نتنياهو بجوهر العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، قال نتنياهو إنها تخادع. لكن رايس على الحقيقة لم تكن تُخادع عندما قالت ذلك، لقد اعتقدت بالتأكيد فيما كانت تقوله. غير أن نتنياهو راهن، وكان محقاً، على أنها مخطئة، وأن الديمقراطيين في معظمهم سيشعرون بالاستياء أيضاً، لكن عندما يحين وقت التصويت على مسائل مهمة تتعلق بإسرائيل، فإنهم سيفعلون ما دأبوا على فعله دائماً، في ظل أقلية تدافع عن حقوق الإنسان العالمية والأمل في السلام، وأغلبيةٍ كاسحة تتماشى مع أهداف السياسة الإسرائيلية وقراراتها.
ترامب دعم إسرائيل بشكل غير محدود
كان ترامب، في خطوةٍ تنطوي على كسر للتقاليد والقواعد المعروفة، قد نشر خطةً ادّعى أنها تشمل دولة فلسطينية (فيما هي لا تشمل ولا شيء) دون التحدث إلى الفلسطينيين من الأصل، وأقرَّ بالقدس عاصمةً لإسرائيل وبالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان. وأكثر من هذا وذاك، توسط منفرداً في اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل وعدة دول أعضاء في جامعة الدول العربية. وكل هذه التحركات كان قد قيل، بين وقتٍ وآخر، إنها خطوات شديدة الخطورة ومن شأنها أن تسبب زلازل إقليمية، ومع ذلك لم يحدث شيء.
لكل هذا وغيره، سيتعيّن على بايدن الآن أن يتعامل مع إسرائيل أشد جرأةً من أي وقت مضى، إسرائيل التي حسمت الآن ما كان يمكن أن تشوبه الشكوك لسنوات عديدة: أن الدولة الإسرائيلية لديها قدر أكبر بكثير من حرية التصرف مما كان يُعتقد في السابق.
ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق بسياسة الولايات المتحدة وضغوطها فحسب، بل يتعلق، ضمن عوامل أخرى، بالأوضاع وديناميكية التغير في الشرق الأوسط. وهو ما أشرت إليه عندما نقلَ ترامب السفارة الأمريكية إلى القدس في عام 2017.
وبحسب الموقع الأمريكي فإنه "سيكون الإقدام على ذلك بمثابة القول للفلسطينيين… إن جميع المعايير التي أسَّسوا عليها التزامهم بالمفاوضات ليست سوى هباء، وإن الولايات المتحدة عدوة لهم، وهو أمر يعتقده كثيرون بالفعل، لكن لم يثبت صراحةً قط. سيعني ذلك إخبارهم بأن المجتمع الدولي إما عاجز وإما غير راغب في فعل أي شيء لمساعدتهم مادياً عندما تتعسر الأمور، وأن أملهم الوحيد هو إيلام الإسرائيليين بكل ما في وسعهم وإثارة الاضطرابات في جميع أنحاء المنطقة؛ ليشعر أحد بأنه يجب تلبية احتياجاتهم… كما أن ذلك سيخبر إسرائيل، بعبارات لا لبس فيها، بأن وجهة نظرها في أن لرغباتها الوطنية والإقليمية حقَّ الانتصار التام والسحق الكامل للحقوق الفلسطينية صحيحةٌ".
علاقة نتنياهو بترامب قد تُغضب بايدن!
وبحسب ما تبيّن بعد ذلك، فإن الرسالة التي تلقتها إسرائيل مما حدث كانت أقوى من أي توقع. لقد رأوا بأعينهم أن توسيع سيطرتهم على الضفة الغربية والإبقاء على حصار لا هوادة فيه على غزة لن يكونا بعد الآن عقبةً أمام التطبيع مع الدول العربية، وأن إسرائيل يمكنها التوصل إلى اتفاقيات مع أطراف رئيسية في العالم العربي دون إعطاء أي شيء في مقابل ذلك للفلسطينيين.
مع ذلك، ورغم أن نتنياهو يظل في حاجة إلى القيام ببعض العمل لإصلاح العلاقات مع بايدن والديمقراطيين، فإن مدحه المفرط لدونالد ترامب خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلى جانب التأخر الملحوظ في تهنئة بايدن بفوزه الشهر الماضي، كل ذلك يرسل رسالة إلى بايدن، مفادها أن إسرائيل تدرك أنها تستطيع أن تتحدى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بل إفساد خططه، والإفلات من العقاب.
في مقابل ذلك، أصدرت "مجموعة الأزمات الدولية"، بالشراكة مع مبادرة "الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية"، يوم الإثنين الماضي 14 ديسمبر/كانون الأول، تقريراً يوضح ما يرون أنه خطوات أساسية يحتاج بايدن اتخاذها، لمجرد الشروع في استئناف جديد للعلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية الفلسطينية. ومن المرجح أن تأخذ إدارة بايدن ببعض تلك التوصيات، مثل التنصل من "صفقة القرن"، وإعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية، وعودة التمويل للسلطة الفلسطينية و"وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين" (أونروا). أما الخطوات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ذلك، فيظل الإقدام عليها أقل احتمالية بكثير، مثل الامتناع عن استخدام حق النقض (الفيتو) الأمريكي تأييداً لإسرائيل في الأمم المتحدة، أو المطالبة بمزيد من الشفافية من إسرائيل في طبيعة استخدامها للأسلحة التي تعتمد على تمويل من الولايات المتحدة.
هل سيعيد الديمقراطيون حساباتهم؟
لكن الأهم من ذلك أن الديمقراطيين الذين لطالما اعتمدوا بشدة في الماضي على الحجة القائلة إن التهاون أو عدم التعاون مع جهود السلام يضر بإسرائيل وتنجم عنه عواقب إقليمية وخيمة، أصبحوا الآن أمام وضعٍ، بات للولايات المتحدة فيه سفارة معترف بها في القدس، وشرعت عديد من الدول العربية في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل علناً، حتى إن السعودية أصبحت أكثر انفتاحاً بشأن التنسيق والتواصل مع إسرائيل، علاوة على أن جميع التحذيرات السابقة بشأن انفجار الغضب في المنطقة تمخضت عن لا شيء. والآن صار الدليل واضحاً للعيان على أن القيادة العربية ليست فقط مستعدة للتخلي عن الفلسطينيين، بل الإفلات بذلك دون عاقبة من شعوبهم أيضاً.
كل ذلك سيجعل إسرائيل وأنصارها في الشرق الأوسط أشد جرأة وأقل رغبة في الوصول إلى تسوية مع حكومة أمريكية سيراها الجانب الإسرائيلي حتماً أقل وداً حياله من الإدارة السابقة. ومن ثم فإن ميل بايدن للاعتدال والتوسط في الأمور لن ينسجم جيداً مع الموقف الإسرائيلي الجديد.