وعد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن بالدعوة لعقد "مؤتمر دولي للديمقراطية"، العام المقبل، بغرض "تجديد روح وأهداف العالم الحر"، ويرى كثير من المراقبين أنه يريد إعادة أجواء الحرب الباردة، لكنه على الأرجح سيفشل.
هل اختفى عالم القطب الواحد؟
يتردد الآن حديث عن عودة سياسات الرئيس السابق باراك أوباما إلى البيت الأبيض، كون جو بايدن كان نائبه في الفترة من 2008 وحتى 2016، رغم أن الرئيس المنتخب أعلن أن رئاسته لن تكون امتداداً لرئاسة أوباما: "لن تكون رئاستي فترة ثالثة للرئيس باراك أوباما".
لكن المؤشرات الصادرة خلال حملة بايدن الانتخابية والمفردات اللغوية التي تكررت كثيراً مثل "العالم الحر" و"قيادة الولايات المتحدة للعالم" وغيرها، توحي بأن الرئيس الديمقراطي يطمح إلى إعادة ترتيب المسرح السياسي العالمي تحت قيادة أمريكا "قائدة العالم الحر"، بحسب وصفه.
وهذا ما عبَّر عنه سايمون تيسدول، المعلِّق السياسي المخضرم والكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية في مقال له بقوله: "الفكرة الكبرى التي يتحرك في إطارها جو بايدن هي تحالف عالمي دولي بقيادة الولايات المتحدة، يضم الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، في مواجهة الأنظمة السلطوية والزعماء الأقوياء، تقبع في القلب من مشروع استعادة القيادة الأمريكية للعالم".
وهذا المقترح الذي يعول عليه بايدن لتشكيل "جبهة موحدة من الأخيار والكبار"، يهدف بالأساس إلى مواجهة الصين وروسيا، لكن العالم اليوم لم يعد كما كان خلال الحرب الباردة بين معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة وآخر شرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، فقد جرت في النهر مياه كثيرة.
وقد شهدت السنوات الأربع الماضية -فترة حكم الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب- تبلور مسرح سياسي عالمي جديد متعدد القطبية بصورة لا يمكن تجاهلها أو وقف قطارها المنطلق بسرعة صاروخية. فالصين أصبحت القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، بينما يعاني الاقتصاد الأمريكي من تداعيات جائحة كورونا بصورة ربما لم يتوقعها أحد، وهو ما يحدّ من قدرة واشنطن على استخدام المساعدات الاقتصادية كورقة ضغط كما كان الحال سابقاً، عكس بكين.
لكن بعيداً عن المجال الاقتصادي تكشف نظرة سريعة على الملفات الساخنة حول العالم عن مدى تراجع الدور الأمريكي عالمياً، مقابل صعود قوى إقليمية وعالمية أخرى لها حساباتها الخاصة ومصالحها التي تجعلها تتحدى واشنطن دون تردد، حماية لتلك المصالح، وهذه الدول ليست فقط الصين وروسيا، بل أصبحت القائمة طويلة وممتدة من شرق العالم إلى غربه.
بايدن يريد استعادة "زعامة العالم الحر"
النقطة الأخرى في هذا السياق تتعلق بأوضاع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وما شهدته الانتخابات الرئاسية هذا العام -ولا تزال في حقيقة الأمر- من تشكيك في نزاهتها من جانب ترامب، والأثر السلبي الذي تركه ذلك الجدل المستمر على صورة الديمقراطية الأمريكية حول العالم.
لكن مهزلة الانتخابات ليست بداية مسار السخرية من حديث بعض السياسيين الأمريكيين عن تفوق بلاد العم سام وريادتها على العالم في مجال الديمقراطية والقيم الليبرالية، حيث لا يمكن غض الطرف عن التعامل الكارثي والفوضوي للإدارة الأمريكية مع جائحة كورونا، وهو ما جعل البلاد على رأس القائمة السوداء لضحايا الوباء من حيث عدد الوفيات والإصابات.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً بعنوان "زعيمة العالم الحر لم تعد حرة"، رصد تراجع الثقة عالمياً في الديمقراطية الأمريكية، وكيف أن أحداً من دول العالم لم يعُد يحترم ذلك النموذج، عكس ما كانت عليه الأمور قبل عقود على سبيل المثال.
فقبل 20 عاماً تباهت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بتلك الريادة للعالم الحر، وقالت "لا نزال نقف وننظر أبعد من الآخرين إلى المستقبل"، مشيرة إلى التفوق الأمريكي القائم على احترام قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن السنوات الأربع الماضية أصبحت شاهداً على تراجع هذه الفرضية بصورة لا يمكن إنكارها، بحسب كثير من السياسيين والمحللين الأمريكيين أنفسهم.
فالرئيس الأمريكي ترامب تحالف مع الأنظمة السلطوية حول العالم، من فلاديمير بوتين إلى ناريندرا مودي في الهند، إلى ولي عهد السعودية وولي عهد أبوظبي، والرئيس المصري وغيرهم، كما غضت إدارته الطرف عن الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان، سواء في مصر أو الهند أو السعودية، وربما يكون أبرزها موقف ترامب من جريمة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في تركيا.
كيف فقدت واشنطن نفوذها؟
وبالتوقف عند البؤر الساخنة حول العالم يتضح التراجع الكبير في دور الولايات المتحدة في غالبية تلك الملفات خلال السنوات الأربع الماضية، وهذا ليس غريباً، فقد جاء ترامب إلى البيت الأبيض رافعاً شعار "أمريكا أولاً".
فرغم وجود الولايات المتحدة كضلع من أضلاع مجموعة منسك الثلاثية، إلى جانب روسيا وفرنسا، وهي المجموعة المكلفة من المجتمع الدولي بإيجاد حل سلمي لقضية إقليم ناغورني قره باغ الذي تحتله أرمينيا من أذربيجان منذ ثلاثة عقود، فإنه لم يكن هناك أي دور لواشنطن خلال المواجهة العسكرية الأخيرة بين الطرفين، والتي شهدت حضوراً تركياً وروسياً لافتاً، أدى لاستسلام أرمينيا وموافقتها على الانسحاب من باقي أراضي الإقليم المحتل بعد هزيمتها عسكرياً.
وفي ليبيا التي تشهد حرباً أهلية منذ الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، وصولاً إلى اتفاق الصخيرات عام 2015، ثم انقلاب زعيم ميليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر على العملية السياسية، ومحاولته الفاشلة السيطرة على طرابلس مقر الحكومة المعترف بها دولياً، وصولاً إلى محاولات التوصل لحل سلمي مرة أخرى حالياً، لا يوجد دور حقيقي لواشنطن في الصراع، ولا يبدو أن أحداً يستمع "لمناشداتها" ولا حتى "عقوباتها"، التي طالت حفتر وبعض قادة ميليشياته مؤخراً.
فالإمارات ومصر وروسيا ومعها فرنسا تقدم الدعم لحفتر وميليشياته، ما جعله حجر عثرة أمام التوصل لمخرج سياسي وسلمي يُنهي الصراع المأساوي، وذلك رغم فرض واشنطن عقوبات على أحد قادة الميليشيات المتحالفة معه وتهديدها بفرض عقوبات على حفتر نفسه، وهو ما يشير بوضوح إلى تراجع الدور العالمي لواشنطن في الصراعات الإقليمية. والحرب الأهلية في سوريا نموذج آخر على تراجع الدور الأمريكي على الساحة الدولية، مقابل تعاظم الدور الروسي الداعم لبشار الأسد.
هل يملك بايدن فرصة النجاح؟
المشهد الذي خلّفته رئاسة ترامب عالمياً يضع طموح بايدن في استعادة الدور الرائد للولايات المتحدة محل شك كبير، بحسب المراقبين، وربما تكون المعضلة الأكبر التي سيكون على بايدن التعامل معها هي ملف حقوق الإنسان مقابل المصالح قصيرة المدى.
ففي الشرق الأوسط، إذا ما أثار بايدن ملف حقوق الإنسان مع الحلفاء التقليديين لواشنطن في القاهرة والرياض وأبوظبي، سيكون عليه بذل ضغوط مكثفة على قيادات البلدان الثلاثة، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية تتمثل في تقارب أكبر بينها وبين الصين وروسيا.
ويرى كثير من المراقبين أن إدارة بايدن قد لا تمتلك أوراقاً كثيرة للضغط كما كان الحال في الماضي القريب، من ناحية بسبب الوضع الصعب الذي تواجهه الولايات المتحدة بفعل جائحة كورونا، وهو ما سيجعل الإدارة الجديدة أكثر انشغالاً بالأوضاع الداخلية في الفترة الأولى لتوليها، 20 يناير/كانون الثاني المقبل، ومن ناحية أخرى بسبب اختلاف أوضاع العواصم الثلاث عما كانت عليه قبل عدة سنوات من سيطرة زعماء تلك الدول على الوضع الداخلي بصورة أكثر إحكاماً.
وبالطبع ملف البرنامج النووي الإيراني، ورغبة بايدن في إعادة بلاده إلى الاتفاق بشأنه تمثل تحدياً آخر لن يتمكن الرئيس الجديد على الأرجح من إحراز تقدم ملموس فيه، إلا بالحفاظ على التحالف مع الدول الخليجية التي أصبحت -بعد تطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل- أكثر قدرة على المناورة مع ضغوط واشنطن.
وإذا كانت الصورة بهذا التعقيد بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الذي كان حتى وقت قريب يعتبر ملعباً أمريكياً خالصاً، فالأمر أكثر صعوبة وتعقيداً في مناطق أخرى كالقوقاز وأمريكا الجنوبية وأوروبا، وبالتأكيد آسيا التي أوشكت أن تصبح ملعباً صينياً-روسياً خالصاً.
هذه المؤشرات تشي بأن محاولات بايدن استعادة دور الولايات المتحدة كالقوة العظمى الأبرز والأكثر تأثيراً على المسرح الدولي تشبه إلى حد كبير محاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وعلى الأرجح لن يكون النجاح حليفها، بحسب المراقبين الأمريكيين قبل غيرهم.