تلاعب إماراتي غريب وصادم بدول المغرب العربي، ففجأة حدث تحول في علاقات الإمارات بدول شمال إفريقيا، حيث ساءت علاقة أبوظبي بالجزائر، في حين أعادت إحياء علاقتها بالرباط بطريقة تمثل استفزازاً لافتاً للجزائر.
فبعد أن وصل تدهور العلاقة بين المغرب والسعودية وبالأكثر الإمارات إلى درجة سحب الرباط لدبلوماسيين من أبوظبي واستبعاد أمنيين مغاربة من الإمارات، أعلنت الإمارات وبعدها حليفتها الصغرى البحرين فتح قنصلية لهما في الصحراء في اعتراف بمغربية الصحراء بطريقة مستفزة للجزائر التي تدعم جبهة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء، أعقب ذلك التطبيع المغربي مع إسرائيل الذي يعتقد أن الإمارات قوة دافعة رئيسة له، وللقرار الأمريكي بالاعتراف بمغربية الصحراء، وهو القرار الذي أزعج الجزائر بشدة.
فما سر هذا هذا التقلب في علاقة الإمارات بدول شمال إفريقيا، وما هي أبرز فصول هذا التقلب؟
البداية من تونس
ليس خافياً على أحد تدخل الإمارات الدائم في شؤون تونس مهد الربيع العربي، والحديث عن محاولتها الضغط على الرئيس التونسي الراحل قايد السيبسي للدخول في مواجهة مع حركة النهضة الإسلامية.
كما تتهم الأوساط التونسية الإمارات بدعم عبير موسى رئيس الحزب الدستوري الحر الذي يمثل فلول نظام بن علي ويجاهر بعدائه للإسلاميين وكراهيته للثورة التونسية، إضافة إلى الهجمات الإعلامية المتكررة من الإعلام الإماراتي والسعودي على راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة، والاحتفاء بالمهاترات التي تنفذها موسى ضده في البرلمان.
ولكن لماذا ساءت علاقة الإمارات بالمغرب وهما حليفان تقليديان تجمعهما الملكية؟
ولكن اللافت في علاقات الإمارات بدول شمال إفريقيا، كان موقف أبوظبي العدائي ضد المغرب الدولة الكبيرة والحليفة التقليدية لدول الخليج حيث يجمعهما طابع الحكم الملكي على بعد المسافة بينهما.
فقد شهدت علاقات الإمارات بالمغرب تدهوراً في السنوات الماضية، وصل إلى قرار أبوظبي تخفيض عدد المغاربة العاملين في سلك الشرطة الإماراتية واستبدالهم ببنغاليين بحسب موقع "Middle East Monitor" البريطاني.
وقال الموقع قبل عدة أشهر إن نائب رئيس الوزراء الإماراتي منصور بن زايد، أمر بتخفيض المغاربة ممن يعملون في قوة الشرطة الإماراتية من 916 إلى 600.
ويعتقد أن الخلاف الإماراتي المغربي مرتبط بأربعة ملفات، أولها رفض المغرب المشاركة في حصار قطر في عام 2017، وفي ذلك الوقت قام المغرب بإرسال طائرات محملة بالمواد الغذائية إلى الدوحة، قبل أن يصل العاهل المغربي بنفسه إلى الدوحة بعد شهور قليلة من الحصار.
وسبق أن تحدث وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة،عما فُهم بأنها "أربعة ضوابط لاستمرار التنسيق مع الإمارات والسعودية".
والملف الثاني، موقف الإمارات من المغرب شديد السلبية من الإسلاميين في وقت يحكم المغرب حزب إسلامي، قد يكون الملك له تحفظاته عليه، ولكن يدير الأمر بطريقة سياسية ودستورية مع التزامه برفض تقليدي مغربي لأي تدخل خارجي في شؤون بلاده.
والملف الثالث، هو الأزمة الليبية، حيث زاد تمويل الإمارات الكبير للجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر من توتر العلاقة بين الجانبين.
فبينما تدعم الإمارات والسعودية حفتر تتمتع حكومة الوفاق المعترف بها من قبل الأمم المتحدة بدعم المغرب الذي يعتبر أن أي فوضى في البلد المغاربي تعني دخول المنطقة الأكثر استقراراً نسبياً في شمال إفريقيا والمنطقة العربية إلى المجهول.
إذ إن "تحركات الإمارات في دول شمال إفريقيا، ومن بينها ليبيا، أغضبت المغرب، بسبب عمل الإمارات على عرقلة اتفاق "الصخيرات"، وإفساد جميع مجهودات المغرب الدبلوماسية"، وفقاً لأستاذ العلوم السياسية خالد يايموت.
أما الملف الرابع فهو صفقة القرن، فرغم أن المغرب تقليدياً كان لديه دوماً علاقات معلنة أو غير معلنة مع إسرائيل، ولكن تبني الإمارات لصفقة القرن بما فيها من تفريط كامل في القضية الفلسطينية بشكل لا يؤيده المغرب الذي يعتبر نفسه معنياً بالقضية وخاصة القدس والمسجد الأقصى حيث يترأس العاهل المغربي لجنة القدس التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، وكان لافتاً إبلاغ العاهل المغربي للرئيس الفلسطيني مؤخراً أن التطبيع مع إسرائيل لن يكون على حساب القضية الفلسطينية.
وبدا من الواضح أن أسلوب المواجهة الذي اتبعته الإمارات والسعودية مع المغرب ذي الحكم الملكي العريق والموغل في التاريخ، لن يجدي نفعاً، وبدا أن الحل في أسلوب آخر، هو إغراء المغرب بمكاسب كبيرة في قضية الصحراء، لجذبه لقطار التطبيع، والوقيعة بينه وبين الجزائر في وقت بدا أن الإمارات لم تفلح في تحقيق نتائج تذكر في التقارب مع الأخيرة.
أسباب تدهور علاقة الإمارات مع الجزائر
تقليدياً ليس لدول الخليج المحافظة الصديقة للغرب علاقات قوية مع الجزائر الدولة التي كانت أقرب للمعسكر الشرقي السوفييتي وكانت تتبى إتجاهاً عروبياً اشتراكياً ينفر دول الخليج عادة إضافة إلى أن القضية الفلسطينية تحتل مكانة خاصة لدى الجزائر.
ولكن في السنوات الأخيرة، تحسنت العلاقة بين الإمارات، والجزائر تارة بسبب الاستثمارات الإماراتية وتارة أخرى بسبب الحديث عن علاقة وثيقة للقايد صالح وزير الدفاع الجزائري الراحل مع أبوظبي.
ولكنها علاقة لم تؤد إلى اتفاق في القضايا الخلافية مثل التطبيع وليبيا، والعلاقات مع تركيا وقطر، وهي الملفات التي أصرت الجزائر على الاحتفاظ على استقلالها فيها، وقد يكون هذا قد تسبب في إغضاب الإمارات، التي لم تعد تقبل أن يقال لها "لا".
ومن هنا قررت الإمارات على ما يبدو تبديل سياستها واللجوء إلى الوقيعة بين دول المغرب العربي، ولا يعرف ترتيب معادلة علاقة الإمارات مع دول شمال إفريقيا في ثوبها الجديد، هل أدى تدهور علاقة أبوظبي مع الجزائر إلى تحسن العلاقة مع المغرب أم العكس؟
ولكن يبدو أن الأزمة بين الإمارات والجزائر ليست وليدة اللحظة، فلقد كشفت مصادر لـ"عربي بوست" أنه في حراك فبراير/شباط 2020 سعت أبوظبي بكل الطرق إلى منع أي تغيير في الجزائر، وحاولت إخراج المسيرات من إطارها السلمي.
وسبق أن قالت لويزة حنون، زعيمة حزب العمال في الجزائر لـ"عربي بوست"، إن "الإمارات كانت ألد أعداء الحراك الجزائري، إذ حاولت بكل الطرق زعزعة المشهد السياسي خلال فترة المظاهرات في الشارع"، مضيفة "رأينا تدخلاً مباشراً للإمارات في الشأن الداخلي للجزائر، وقد رد الحراك بقوة على هذه المحاولات، من خلال هتافات ضد مساعي الإمارات للتأثير على الشارع الجزائري".
لويزة حنون أرجعت سبب سجنها إلى انتقادها للإمارات وتدخل دولة خليجية في شؤون الجزائر قائلة: "إن أسباب سجني في 9 مايو/أيار 2019، تعود إلى انتقادي قائد الأركان، نائب وزير الدفاع حينها القايد صالح، بسبب زياراته المتكررة إلى الإمارات، وعلاقته المشبوهة مع آل زايد".
ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر عبدالمالك غالي إن "الإمارات انتقدت من خلال إعلامها، نائب وزير الدفاع قائد أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، لما اختار كفة الشعب، بل هناك تحليلات أدرجته في إطار الانقلاب العسكري، وذلك بعدما انتقد حراك الإمارات وتدخلها في الشأن الجزائري، ما جعل بعض المسيرات المتزامنة مع الحراك في الجزائر ترفع شعار (ديرو الانتخابات في الإمارات)".
كما سبق أن كشف مصادر لـ"عربي بوست" أن من الأسباب التي حركت الإمارات ضد الجزائر مؤخراً، تجميد استثمار الشركات الإماراتية الكبرى وعلى رأسها "موانئ دبي"، بالسوق الوطنية في الجزائر، بعدما كانت تلعب دوراً مهماً في السابق.
وإضافة إلى كل هذه التغيرات بين البلدين، زاد التطبيع الإماراتي مع إسرائيل من الشرخ القائم بين أبوظبي والجزائر، هذه الأخيرة التي صدر عنها تصريح رسمي من رئيس البلاد عبدالمجيد تبون ينتقد فيه المطبعين، حيث شعرت الإمارات بالإهانة من هذا الكلام.
النزاع بين الجزائر والإمارات لم يقتصر على القرارات التي يتخذها آل زايد وجنرالات قصر المرادية، بل تحولت إلى حرب إلكترونية تتهم فيها الجزائر شبكات إلكترونية بمهاجمة الناشط السياسي والمرشح السابق للرئاسيات في الجزائر، عبدالحميد مدني، اتهم بشكل صريح الإمارات بالوقوف وراء محاولات "تمزيق" الجزائر، وبث الخلاف والفتنة بين الجزائريين، من خلال استغلالها لجيش إلكتروني يضرب الهوية الجزائرية بالدرجة الأولى.
وحسب المعلومات المتوفرة لـ"عربي بوست"، فإن العميد عبدالغني الراشدي، المدير العام لقسم الأمن الداخلي في جهاز المخابرات الجزائري استقبل فعلاً رسالة سرية من نظرائه في الإمارات، هذه الأخيرة التي تحدثت بنبرة تهديدية، وقالت "إذا لم تتراجع الجزائر عن التعامل مع حلفاء ضد سياسة أبوظبي، فعليها أن تتحمل مسؤوليتها الاقتصادية والسياسية".
ولكن القرار الإماراتي بفتح قنصلية في الصحراء، وتشجيع التطبيع المغربي مع إسرائيل الذي تعد أبوظبي هي عرابته وما أعقبه من قرار أمريكي بالاعتراف بمغربية الصحراء، يمثل تطوراً لافتاً في الخصومة الإماراتية مع الجزائر، ومحاولة واضحة للوقيعة بين المغرب والجزائر.
ولكن لماذا تبذل الإمارات كل هذا الجهد في التدخل في أزمات المغرب العربي الكبير؟
علاقات الإمارات بدول شمال إفريقيا.. سر الاهتمام الشديد بهذه المنطقة البعيدة
يعتقد أن موقف الإمارات من دول المغرب العربي يرتبط بموقفها من الربيع العربي والحركات الإسلامية.
فمنذ انطلاق موجة الربيع العربي الأولى في 2011، أصابت الإمارات العربية المتحدة حالةُ جزع من أن تطالها رياح التغيير التي عصفت بأنظمة عتيدة في الوطن العربي، فاتخذت موقفاً استراتيجياً بمعاداة ومحاربة رموزه، وخاصة التيار الإسلامي.
ورغم التوتر التقليدي في العلاقات بين أنظمة دول شمال إفريقيا والقوى العلمانية وبالأخص الفرانكفونية في هذه البلدان، من جهة وبين الإسلاميين من جهة أخرى، إلا أن دول المغرب العربي الثلاث تونس والجزائر والمغرب قد تخلت عن السياسة الإقصائية في إدارة العلاقة مع الإسلاميين، وباتت تديرها عبر الصراع في إطار السياسة والبرلمانات لا السجون وأعواد المشانق.
كما أن دول المغرب العربي التي أغلبها سليل دول وسلطانات مستقلة عمرها نحو ألف عام (كانت تونس والجزائر تتمتع باستقلال نسبي كبير في ظل الدولة العثمانية، والمغرب استمر كدولة مستقلة بعد فترة قصيرة من الفتح العربي الإسلامي) لديها حساسية من التدخل الخارجي وهي البلدان التي دفعت ثمناً غالياً لنيل الاستقلال من فرنسا.
كما أن هناك شعوراً بالاستقواء من التدخل المصري والإماراتي في الشأن الليبي، والتعامل مع ليبيا كأنها ليست بلداً مغاربياً، خاصة أن حفتر الذي يعتمد على تأييد شرق ليبيا ويبدو تابعاً للسيسي ومحمد بن زايد، مشهور بتهجمه على دول المغرب العربي.
لهذه الأسباب مجتمعة، فشلت محاولات الاختراق الإماراتي لدول المغرب في أن تؤتي أكلها وتثير تزاعاً أهلياً بين الإسلاميين والأنظمة والعلمانيين، ولم يعد أمام أبوظبي إلا التلاعب بملف الصحراء الذي يمثل أهمية بالغة للمغرب والجزائر، متسببة في تأجيج المنافسة الموجودة أصلاً بين البلدين.
ولكن يجب على الجزائر التي تبدو للوهلة الأولى أنها الخاسرة الكبرى من اللعبة الإماراتية، ملاحظة أن المغرب قد صمد أمام الضغوط الإماراتية السعودية في ملفات عدة من قبل، ولكن لم يستطع الصمود أمام إغراء الاعتراف بمغربية الصحراء مقابل التطبيع، ولكن على البلدين بعد أن وصلا لهذه المرحلة أن يحذرا من الانسياق وراء لعبة الوقيعة بينهما.