رغم إعلان الحكومة الفرنسية عزمَها التراجع عن تطبيق بعض بنود مشروع قانون "الأمن الشامل"، فإن المجتمع الفرنسي ما زال يعبر عن رفضه لمواد توصف بأنها تنتهك حقوق الإنسان، فهل يتراجع الرئيس ماكرون عن إقراره؟
ماذا يعني قانون الأمن الشامل؟
قدم ماكرون مشروع قانون الأمن الشامل للبرلمان يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني لإقراره، فاندلعت مظاهرات عارمة رافضة للقانون ولا تزال مستمرة. ويدعو مشروع القانون لتجريم تصوير الشرطة أثناء قيامهم بعملهم أو نشر صور أو فيديوهات لهم على منصات التواصل الاجتماعي.
وتعرّض مشروع القانون لانتقادات حادة داخل وخارج فرنسا، من جانب ضحايا عنف الشرطة، ونشطاء حقوق الإنسان، والمدافعين عن حرية التعبير، وهو ما جعل الحكومة تعلن أنها ستعيد صياغة الماردة رقم 24 من مشروع القانون بشكل كامل (المادة الخاصة بتغريم وسجن من يصورون رجال الشرطة أثناء تأدية عملهم)، لكن ذلك لم يكن كافياً، فاستمرت الاحتجاجات وازدادت اتساعاً.
وتشهد فرنسا منذ عام 2018 تظاهرات مستمرة لأصحاب السترات الصفراء، المطالبين بالعددل الاجتماعي والرافضين لسياسات ماكرون الضريبية والاقتصادية بشكل عام، والتي يرون فيها تكريساً لمكاسب الأغنياء وأصحاب الأعمال على حساب الطبقة العاملة في فرنسا، وتكررت حوادث العنف المفرط من جانب رجال الشرطة ضد المتظاهرين.
وفي هذا السياق، يقول المعارضون لمشروع قانون الأمن الشامل إن حكومة ماكرون تسعى لتقديم مزيد من الحماية لرجال الشرطة، بدلاً من مساءلتهم عن العنف الوحشي بحق المتظاهرين.
كيف تُبرر حكومة ماكرون القانون؟
تقول حكومة ماكرون إن الإجراءات المقترحة ضرورية لحماية رجال الشرطة وعائلاتهم من الإساءة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي قد تؤدي في نهاية الأمر لحوادث عنف تستهدفهم، لكن المنتقدين للقانون يقولون إن الإجراءات بفرض غرامات تصل إلى 50 ألف دولار، والسجن لمدة أقصاها سنة بحق من ينشرون صوراً لرجال الشرطة سوف تقوض الحريات المدنية من ناحية، وتقضي على أي محاسبة تطال رجال الشرطة.
ونشر موقع Vox الأمريكي تقريراً عن القانون وما يصاحبه من مظاهرات وانتقادات، رصد فيه مخاوف المنتقدين للقانون من لغته الغامضة والمطاطة بشأن "تصوير رجال الشرطة بغرض إيقاع ضرر مادي ومعنوي بهم".
وقالت إيما بيرسون، محررة موقع لوكال فرانس المحلي للموقع الأمريكي: "لا يبدو لي أن رجال الشرطة بحاجة إلى الحماية أكثر من غيرهم". إضافة إلى أن الاعتداء عبر تويتر مجرّم بالفعل في فرنسا، وقدمت الحكومة يوم 9 ديسمبر/كانون الأول للبرلمان بالفعل مشروع قانون يستهدف حملات الكراهية وتوجيه التهديدات عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وفي النقطة نفسها قال توماس هوتشمان، أستاذ القانون العام في جامعة باريس نانتير للجزيرة، يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني: "هذا القانون يمثل تعدياً خطيراً على حرية التعبير، حيث سيجعل (العامة والصحفيين) مترددين تماماً في تصوير (جريمة يرتكبها رجال الشرطة أمامهم)".
هل يسعى ماكرون لتعزيز سلطته؟
وخلال تظاهرات الشهر الماضي، التي تخللتها أحداث عنف، وصف المتظاهرون مشروع القانون بأنه محاولة من قبل إدارة ماكرون لتقييد الحريات والتستر على عنف الشرطة وتعزيز سلطوية نظامه، وقال ثوماس جاليير، لوكالة الأناضول، إن مشروع القانون مثير للجدل، وينبغي عدم السماح بتمريره، لأنه يحتوي على بعض المواد المبهمة التي تهدف لتعزيز سلطوية النظام.
وأضاف جاليير، الذي يعيش بالعاصمة باريس، أن إصرار الحكومة على طرح مشروع القانون "لا طائل من ورائه"، لأنه من حق الجميع مشاركة الصور، لاسيما تلك التي تعكس عنف الشرطة، لتقديمها كدليل في بعض التحقيقات، وأردف: "لسوء الحظ، الحكومة أو الشرطة تحاول أحياناً التستر على الأدلة من أجل حماية صورتها، بوضع قيود على حرية التقاط الصور".
واستدرك: "هذه الحرية التي تشكل رادعاً للشرطة لعدم ارتكاب أعمال عنف.. في الواقع، سيكون من غير المجدي محاولة إخفاء شيء ما من خلال منع التصوير".
كما أثار انتقادات منظمات حقوقية وصحفيين ينظرون إلى مشروع القانون على أنه وسيلة لإسكات الصحافة وتقويض الرقابة على الانتهاكات المحتملة للسلطة من قبل الشرطة.
ورغم اعتماد مشروع قانون الأمن الشامل من قبل البرلمان الفرنسي، فإن الحكومة قررت إعادة صياغة المادة 24 الأكثر إثارة للجدل، ومن المقرر أن يتم التصويت على مشروع القانون، الذي سيتم تقديمه إلى مجلس الشيوخ للموافقة عليه في يناير/كانون الثاني 2021، في البرلمان مرة أخرى.
وشهدت فرنسا خلال السنوات الماضية فتح آلاف الدعاوى القضائية ضد الشرطة، بعد ثبوت ارتكابهم للعنف ضد المتظاهرين، ومشاركة صور تُظهر ذلك العنف على وسائل التواصل الاجتماعي خلال مظاهرات السترات الصفراء والاحتجاجات على إصلاح نظام التقاعد.
الشرطة تمارس العنف ضد شريحة معينة
بدورها، انتقدت تانيا لاتوش، المواطنة الفرنسية من أصل إفريقي، محاولات إدارة ماكرون فرض مشروع القانون على المجتمع، معتبرة أن تبني مثل هذا المشروع سيزيد من عنف الشرطة، وذكرت لاتوش، للأناضول، أن المشاركة في الاحتجاجات تزداد صعوبة، والمشكلة الرئيسية ليست الشرطة، بل فقدان المجتمع حقه في حرية التعبير وفقاً للأنظمة الديمقراطية.
وأوضحت أن الحكومة التزمت الصمت حيال تعرُّض الموسيقار الفرنسي من أصول إفريقية، ميشال زكلر، للضرب على أيدي الشرطة عند مدخل الاستوديو الخاص به لمدة 20 دقيقة، وشددت على أن "الشرطة الفرنسية تستخدم العنف ضد شريحة معينة"، في إشارة للمواطنين من أصول إفريقية، مؤكدة أن مشروع القانون أعطى صلاحيات واسعة لقوات الأمن.
وتابعت: "أعتقد أنه من الخطأ منح الشرطة صلاحيات مطلقة، وفي المقابل نحرم الصحفيين وغيرهم من الأشخاص العاديين من ممارسة حق التقاط الصور"، واستطردت: "على فرنسا أن ترمي بمشروع قانون الأمن الشامل كله في سلة المهملات".
وفي الفترة الماضية، انتشر على منصات التواصل الاجتماعي، مقطع مصور لعناصر من الشرطة الفرنسية وهي تعتدي بالضرب المبرح على المنتج الموسيقي زكلر، في الاستوديو الخاص به بالعاصمة باريس.
وفي ظل هذا الجدل العنيف يظل السؤال قائماً بشأن: هل يتراجع ماكرون بالفعل ويتخلى عن القانون بشكل كامل، أم سيواصل محاولات تمريره رغم المعارضة الداخلية والخارجية له؟