بدأت الولايات المتحدة إعادة هيكلة جيشها ضد مَن وصفتهم بالخصوم، وخاصة الصين وروسيا، في إطار استراتيجية الدفاع الوطني، وخفضت مؤخراً عدد كبار العسكريين في إفريقيا، لكن لماذا يثير ذلك القلق من زيادة النشاط الإرهابي؟
من محاربة الإرهاب للتصدي لروسيا والصين
بعد نحو 20 سنة من الحرب على الإرهاب، التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، تجد الولايات المتحدة أنها غرقت في متاهة معارك لا نهاية لها، فمن أفغانستان إلى العراق وسوريا واليمن والصومال والنيجر ومالي إلى غرب إفريقيا، تخوض واشنطن حرباً مفتوحة زمانياً ومكانياً.
وبدلاً من تحقيق هدف القضاء على الجماعات الإرهابية أو احتوائها، فإن هذه الجماعات تتمدد رغم الضربات القوية التي تتلقاها، وتستثمر في رفض شعوب المنطقة لوجود قوات أجنبية على أراضيها.
وبالتزامن مع هذه الحرب المفتوحة مع "الإرهاب" استنزفت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من مواردها البشرية والمادية، في الوقت الذي صعدت الصين اقتصادياً إلى الدرجة التي أصبحت أو تكاد تكون أقوى اقتصاد في العالم.
كما أن روسيا تتوسع وتبسط نفوذها العسكري في عدة مناطق من العالم، وتقضم أجزاء من أوكرانيا وجورجيا، وتُوسع نفوذها في أجزاء من القوقاز وسوريا وليبيا.
لذلك يمثل خيار انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من بؤر التوتر، سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو إفريقيا، خياراً اضطرارياً يتفق بشأنه الديمقراطيون والجمهوريون، تحت ضغط الناخبين الأمريكيين ودافعي الضرائب.
وحتى لا تترك واشنطن فراغاً أمنياً في المناطق التي ستنسحب منها، فإنها تفضل التركيز على إرسال مدربين متخصصين بدل قوات قتالية، لتقليص الخسائر البشرية وعدم استفزاز شعوب المنطقة، وأيضاً التفرغ لخطر آخر بدأ يتعاظم.
وفي هذا الصدد يقول إسبر، إن "التغيير (استبدال القوات القتالية بمدربين) سيُحسن العلاقات الأمريكية مع الشركاء الأفارقة، بينما يحرر القوات القتالية لمنافسة القوى العظمى مثل الصين وروسيا"، ففي فبراير/شباط الماضي، أدرجت الإدارة الأمريكية، روسيا والصين في قائمة التهديدات الأساسية للولايات المتحدة.
الانسحاب من إفريقيا
وفي هذا السياق، يُعيد الجيش الأمريكي ترتيب أولوياته في إفريقيا من خلال خطط لسحب معظم قواته القتالية من البؤر الساخنة، مقابل تعزيز تدريب الجيوش المحلية لمواجهة التنظيمات الإرهابية، بهدف التركيز أكثر على مواجهة تحديات صعود كل من الصين وروسيا.
غير أن التنظيمات الإرهابية وإن تراجعت في مناطق عدة من العالم، فإن نشاطها يزداد بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، ما يدفع حلفاء واشنطن الأوروبيين والأفارقة للتساؤل حول تأثير هذا الانسحاب على الأوضاع الأمنية بالمناطق الساخنة في القارة السمراء.
فمنذ فبراير/شباط الماضي وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020، قلّص الجيش الأمريكي وجوده العسكري في إفريقيا من 6 آلاف إلى 5 آلاف و100 عسكري، أغلبهم في جيبوتي، المطلة على مضيق باب المندب الاستراتيجي.
ومن المرشح أن يتقلص هذا الرقم إلى أقل من ذلك بعد قرار سحب أغلبية القوات الموجودة في الصومال، المقدرة بنحو 700 عنصر، مطلع يناير/كانون الثاني 2021.
بينما لم يتضح بعدُ متى سيتم استبدال 760 عسكرياً أمريكياً، منتشرين في غرب إفريقيا، وبالأخص في منطقة الساحل، بمدربين متخصصين لن يخوضوا عمليات قتالية مباشرة ضد الجماعات المسلحة.
إذ لا تجد خطة سحب القوات حماسة لدى مسؤولي البنتاغون، الذين يعتقدون أن التهديد الإرهابي في إفريقيا مازال عالياً.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ذكر تقرير المفتش العام بوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، أن "الوزارة تقول إنها بحاجة أن تظل (هذه القوات) في موقعها، لتحديد هذه التهديدات بشكل استباقي، وتحديد نطاقها وحجمها، والرد بشكل مناسب".
لكن وزير الدفاع الأمريكي السابق مايك إسبر، طمأن شركاء بلاده، في فبراير/شباط الماضي، بأن خطط استبدال القوات القتالية التقليدية بمدربين عسكريين متخصصين ستترك "نفس العدد تقريباً من القوات في القارة".
بؤرة جديدة لداعش
تُشكِّل الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا تهديداً كبيراً للأمن في المنطقة، خاصة منذ مقتل زعيم "داعش" أبوبكر البغدادي، في 2019، ويخشى مسؤولون في البنتاغون أن يؤدي تقليص الوجود العسكري الأمريكي إلى تدهور الوضع الأمني.
فبحسب تقييم أجرته وكالة الاستخبارات الأمريكية، نقله تقرير المفتشية العامة لوزارة الدفاع، فإن "تهديد الجماعات المتطرفة (في غرب إفريقيا) ازداد بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية".
وقال التقرير الأمريكي، إن بوكو حرام (ألفا عنصر)، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة (ألفا عنصر)، وداعش في غرب إفريقيا (5 آلاف عنصر)، وداعش في الصحراء الكبرى (لم يذكر التقرير عددهم) "استمرت في التوسع جغرافياً، وشنَّت هجمات تهدد مصالح الشركاء".
فبعد القضاء على إمارة "داعش" في العراق وسوريا ثم ليبيا، أصبح ثقل هذا التنظيم الإرهابي متركزاً بالساحل وغرب إفريقيا، في المحور الممتد من شمال شرقي نيجيريا، مروراً بالنيجر، وصولاً إلى الشمال الغربي لمالي.
إذ ذكر تقرير لمؤشر الإرهاب العالمي "جي تي آي"، صدر في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، أن "إفريقيا جنوب الصحراء كانت الأكثر تضرراً مع وجود 7 من أكثر 10 دول شهدت ارتفاعاً في عدد ضحايا الإرهاب، في هذه المنطقة"، وقال التقرير إن 41% من القتلى الذين سقطوا في هجمات منسوبة إلى داعش في 2019، وقعوا بإفريقيا جنوب الصحراء.
إذ تسعى الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل لتشكيل إمارة لها في الصحراء الإفريقية الكبرى، تمتد من موريتانيا غرباً إلى إقليم دارفور السوداني شرقاً، ودعم التنظيمات الإرهابية في نيجيريا جنوباً والجزائر شمالاً، باعتبارهما أكبر دولتين في المنطقة، تشكلان خطراً على مشروعها لإسقاط دول الساحل الفقيرة والهشة أمنياً.
فرنسا تفقد حليفاً مهماً
فرنسا بعد نحو 8 سنوات من القتال بالساحل تجد نفسها أُنهكت، وإن نجحت في طرد الجماعات الإرهابية من المدن الرئيسية شمالي مالي، إلا أنها فشلت في منع هذه الجماعات من التمدد إلى دول أخرى مثل النيجر وبوركينافاسو، وتجاوزت الساحل إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء المطلة على المحيط الأطلسي.
لذلك فالخطة الأمريكية لتقليص حجم وجودها العسكري بالمنطقة لا تخدم الاستراتيجية الفرنسية في إشراك حلفائها، وخاصة الأوروبيين، في تحمل جزء من الأعباء المالية والعسكرية لعملياتها بالساحل.
حيث تواجه الحكومة الفرنسية انتقادات داخلية تحذر من غرقها في مستنقع الساحل الإفريقي، ورفض السكان المحليين لتواجد قواتها على أراضيهم، باعتبارها مستعمراً سابقاً مازالت له أطماع في بلدانهم.
وفي هذا السياق، قالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، خلال زيارة قامت بها إلى البنتاغون، يناير/كانون الثاني الماضي، إنها بينما تدرك "حاجة الولايات المتحدة إلى إعادة تمركز القوات بعيداً عن المنطقة، فإن بعض القدرات الأمريكية، مثل الاستخبارات والمراقبة، لا يمكن تعويضها".
ومع تسلّم جو بايدن مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس من المتوقع أن يتراجع عن خطط سحب القوات من الخارج أو تقليصها، والتي بدأت منذ كان نائباً للرئيس باراك أوباما.
حيث صرّح بايدن لصحيفة "ستارز آند سترايبس" العسكرية الأمريكية، خلال حملته الانتخابية، إنه يؤيد سحب القوات، ولكن "لا يزال يتعين علينا القلق بشأن الإرهاب وداعش".
ويقول موقع بلومبيرغ الأمريكي "منذ ما يقارب الـ11 عاماً، وعندما كان الكثيرون في إدارة باراك أوباما يحثونه على زيادة عدد القوات العسكرية في أفغانستان، كان بايدن صوتاً معارضاً".
ويضيف: "نصح بايدن، أوباما، بتقليص مهمة الولايات المتحدة بدلاً من ذلك، والإبقاء على جهود مكافحة الإرهاب".
لذلك فقد نشهد في المرحلة القادمة استمرار خطط سحب واشنطن لقواتها من بؤر الحروب الطويلة، مع الإبقاء على الحد الأدنى من جنودها لضمان عدم انهيار حلفائها أمام ضربات الجماعات المسلحة.