ذات مرة، عندما طلب أحد المراسلين من الأمير السعودي تركي الفيصل وصفَ إيران، قال الأمير إن الجمهورية الإيرانية قد "تحولت إلى نمر من ورق، لكن بمخالب فولاذية". وأشار السفير السعودي السابق في واشنطن ورئيس هيئة الاستخبارات العامة السعودية لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، إلى أنه يقصد بالمخالب الفولاذية حزب الله اللبناني، والمجموعات المختلفة في العراق واليمن وسوريا.
لكن ما حملته الأيام قد يشي بأن الأمير السعودي ربما كان "كريماً أكثر من اللازم في وصفه"، يقول الخبير والصحفي الأمريكي كامبيز فروهر، الرئيس سابق لمكتب شؤون الأمم المتحدة في وكالة Bloomberg الأمريكية. ويضيف: يبدو أنه بعد أكثر من أربعين عاماً من اتقاد شعلة الحماسة الثورية الإيرانية وقبضتها التي لا تُضاهى، بات المسؤولون في الجمهورية الإيرانية في وضع يحاولون فيه القيام بدور "الشرير الصارم"، لكن تمثيلهم يأتي غير مقنع، أم أن الأمر يتعلق بأن الستار قد سقط، ليكشف عن ساحر رديء المستوى وعاجز عن التلاعب والتحكم في الخيوط التي تكفل تصديقه والإيمان بثوريته؟ يتساءل فروهر في تحليل منشور بمجلة The National Interest الأمريكية.
هل خارت قوة إيران بالفعل وانكسرت هيبتها؟
ويرى فروهر أنه في واقع الأمر، كان عام 2020 عاماً مروعاً على الجمهورية الإيرانية، غير أن السوس كان قد بدأ ينخر منذ سنوات عديدة بجسمها؛ إذ بعد سنوات من تمويل الجماعات المسلحة وإطلاق التهديدات ضد أمريكا وإسرائيل، يبدو من المفارقات أن ساحة الجمهورية الإيرانية باتت ملعباً يرمح فيه الموساد الإسرائيلي، والأدهى أنها على ما يبدو لا تملك سوى القليل لفعله في مواجهة العمليات التي يقوم بها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي في عمق البلاد مرة تلو المرة.
ففي عام 2018، اقتحم فريق من العملاء الإسرائيليين خزائن منشأة سرية إيرانية في منطقة توركوز آباد جنوب العاصمة طهران، ليسرقوا نصف طن من وثائق الأرشيف النووي الإيراني، وربما حتى عينات مشعة، ويفروا بها على شاحنة محملة بالملفات السرية، بحسب مصادر إسرائيلية. ويكفي لتصور الأمر أن تضع في اعتبارك أن الغالبية العظمى من الإيرانيين لم يسمعوا قط بمنطقة توركوز آباد ولا يمكنهم حتى تحديد موقعها على الخريطة، حتى كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن الاختراق وعملية التسلل. ومع ذلك، فإن عملاء الموساد لم يتمكنوا فقط من تحديد موقع المنشأة، بل تمكنوا من التسلل إليها وتهريب أكوام من الوثائق السرية الإيرانية إلى إسرائيل.
وفي بداية هذا العام، اغتيل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع لـ الحرس الثوري الإيراني وفصيل النخبة الاستكشافية بالحرس الثوري، في غارة أمريكية بطائرة مسيّرة بعد هبوط طائرته في بغداد. وقد وقعت هذه الزلّة الأمنية في العراق، لكن واقع الأمر أن الوضع أيضاً داخل إيران لا يقل إثارة لجزع النظام عنه خارجها.
وخلال الأسبوع الماضي، جاء اغتيال محسن فخري زادة، كبير العلماء النوويين الإيرانيين، وهو في طريقه إلى بيته في بلدة أبسارد على تخوم طهران، بعد سلسلة من الأعمال التخريبية المثيرة التي استمرت طيلة الصيف ضد بعض المواقع النووية الإيرانية الأشد حساسية، وعلى رأسها درة التاج الإيرانية، منشآت البرنامج النووي الإيراني في نطنز.
غير أن الأمر لم يقتصر على ذلك، ففي أغسطس/آب، أطلقت فرقة عملاء إسرائيلية محمولة على دراجات بخارية النارَ على المسؤول الثاني بتنظيم القاعدة، عبدالله أحمد عبدالله، الذي كان يحمل الاسم الحركي أبومحمد المصري، في أحد أرقى شوارع طهران وأزحمها. ومع أن تسريب أنباء الضربة لم يظهر إلى العلن إلا بحلول نوفمبر/تشرين الثاني، فإن ما تبين أنها كانت بأوامر من مسؤولين أمريكيين ثأراً لهجمات 1998 المميتة على سفارات أمريكية في إفريقيا.
"فرق الموساد الإسرائيلي تسرح وتمرح في إيران"
يقول فروهر، تشير عمليات القتل المتباينة هذه إلى أن إسرائيل لديها فرق متعددة تعمل داخل إيران وبقدرات تتجاوز نظيرتها في وحدة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري الإيراني، والتي يبدو أنها تركز أكثر على الأكاديميين المعارضين وذوي الجنسية المزدوجة. ولا يزال يُستعصى على الفهم كيف أن شخصية مثل فخري زادة، وهو أحد رواد الجهود الإيرانية للحصول على ترسانة نووية، كانت محمية بهذا الضعف من الحرس الثوري الإيراني، الذي يفترض أنه المسؤول عن توفير الحماية والأمن للمسؤولين البارزين في البلاد.
من جهة أخرى، فإن تفاصيل عملية الاغتيال لا تزال غامضة، فقد ادعت إحدى الروايات وجود خمسة أو ستة من مطلقي النار، في حين ادعت رواية مختلفة، جرى "تسريبها" عبر "صانع أفلام وثائقية" مقرب من الحرس الثوري الإيراني، أن 12 شخصاً شاركوا في إطلاق النار بالإضافة إلى فريق دعم يضم نحو خمسين شخصاً. وذلك في حين زعمت وكالة أنباء فارس، التابعة للحرس الثوري الإيراني، أن العملية برمتها تمت بواسطة مدافع رشاشة أوتوماتيكية جرى التحكم فيها عن بُعد، وكانت مخبأة داخل سيارة نيسان زرقاء، قبل أن تنفجر ذاتياً مباشرة بعد الانتهاء من مهمتها.
"ضربة لصورة إيران الثورية في المنطقة"
ومع ذلك، ومهما كانت الطريقة التي تمت بها، فإن تلك العملية تمثل ضربة لصورة الجمهورية الإيرانية في الشرق الأوسط وخارجه. ففي نهاية الأمر، لم تستطع إيران حماية عمق أراضيها وأصولها، فكيف يمكنها توفير الأمن والحماية لحلفائها وقادة الجماعات المسلحة؟ أي أن مصداقية إيران الثورية وحُرمتها باتت تحت نيران التشكيك.
إيران التي لطالما استخدمت القوة الغاشمة للبقاء في السلطة في مناسبات عديدة، وآخرها وقائع قمع المتظاهرين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث قتلت قوات الأمن أكثر من 1500 شخص، وليس نهايةً باغتيال المنتقدين ورموز المعارضة، ها هي تواجه على إثر اغتيال فخري زادة تصدعاً في صرح الدولة القوية التي كانت "تحتكر العنف".
لا بد أنه أمر مخيف لقادة الجمهورية الإيرانية وهم يدركون أن عملاء الموساد الإسرائيلي باتوا يعملون دون إفلات من العقاب عبر طول إيران وعرضها. والأمرُّ من ذلك أن حتى المخالب الفولاذية قد تتحول، في وقت قريب، إلى مخالب ورقية أيضاً، يقول فروهر.