يواجه الاقتصاد التركي معادلة صعبة، إذ كان أداؤه ثاني أفضل اقتصاد في مجموعة العشرين بعد الصين في الربع الثالث من هذا العام، في ظل معاناة العالم من جائحة كورونا، بينما كان أداء الليرة التركية معاكساً لهذا التوجه.
هذا الأداء تحقق بفضل حملة تحفيز مالية نفذتها الحكومة ولكنها ضحت بالليرة واستقرار الأسعار، حسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
ووفقاً لتقرير Bloomberg فإنه من المحتمل أن يكون أداء الاقتصاد التركي البالغ حجمه 740 مليار دولار قد تفوق على جميع دول مجموعة العشرين باستثناء الصين، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى مزيج من تخفيضات أسعار الفائدة والإنفاق المالي والائتمان الذي تقوده الحكومة.
وتظهر بيانات يوم الإثنين ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.8% عن العام السابق، وفقاً لمتوسط 14 توقعاً في استطلاع Bloomberg.
وحسب بيانات الوكالة الأمريكية كان معدل النمو الاقتصادي في الصين في الربع الثالث من العام على أساس سنوي 4.9% تليها تركيا 4.8% ثم 1.3% لكوريا الجنوبية.
بينما باقي اقتصادات مجموعة العشرين جاء النمو بالسالب (أي حدث انكماش حجم الاقتصاد)، حيث بلغ في إندونيسيا 3.5- %، روسيا 3.6-%، ومنطقة اليورو 4.4 -%، والهند 7.5-%، والمكسيك 8.8 -%.
معادلة صعبة.. نمو استثنائي في ظل الجائحة مع تضحيات جسيمة
فلمساعدة الشركات والمستهلكين على التغلب على الوباء، دفعت الحكومة التركية البنوك إلى زيادة الإقراض، وظل نمو القروض قوياً طوال الصيف، حيث تباطأ قرب نهاية الربع الثالث.
في مقابل هذا النمو الاستثنائي في ظل الجائحة سجلت العملة التركية أدنى مستوياتها حيث فقدت الليرة 24% من قيمتها مقابل الدولار هذا العام، مما رفع معدل التضخم.
يقول تقرير الوكالة "ربما استعاد إنتاج تركيا مستواه قبل Covid في الربع الثالث من العام، وهو أحد أسرع الانتعاشات في الأسواق الناشئة".
ولكن لغز الاقتصاد التركي، يحتاج إلى إجابات غير تقليدية لأسئلة تواجهها أغلب اقتصاديات العالم في ظل الجائحة.
فالسياسات المالية التحفيزية يمكن أن تنقذ الاقتصاد من الركود الذي يسببه كورونا، ولكن في الوقت ذاته قد تضحي باستقرار العملة والأسعار.
في المقابل، فإن محاولة الحفاظ على استقرار العملة وتخفيض التضخم، تعني رفع أسعار الفائدة، وهذا يرفع من تكلفة الاستثمار ويؤثر على الشركات وعلى توظيف العمالة، وفي هذه الحالة، يفضل الناس وضع أموالهم في المصارف بدلاً من الشراء وتدويرها بالأسواق.
بالنسبة للاقتصاد التركي بعد أن مر بدورة من النشاط الاقتصادي التي كان يعيبها التضحية بالليرة، فإنه الآن يتجه لمحاولة الحفاظ على العملة حتى لو على حساب الرواج الاقتصادي.
ويبدو أنه بالنسبة لأغلب دول العالم باستثناء الصين من الصعب الحفاظ على النجاحين معاً، النمو والاستقرار النقدي.
تأثير كورونا على الاقتصاد التركي
وعانت تركيا من أزمة العملة في عام 2018، أدت لتراجعها بشكل كبير في ذلك الوقت، ولكن قبل جائحة كورونا، شهدت الاحتياطات التركية من العملات الأجنبية والذهب زيادة كبيرة، حيث تجاوز إجمالي أصول الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي في تركيا 101 مليار دولار في أغسطس/آب 2019، بزيادة 14.2% عند المقارنة على أساس سنوي، عندما كان الاحتياطي يقف عند 88.9 مليار دولار في نهاية أغسطس/آب 2018.
كما أن احتياطيات النقد الأجنبي والذهب شهدت في ذلك الوقت زيادة قوية تجاوزت ملياري دولار في أسبوع واحد.
وكانت تركيا تراهن عقب خروجها من أزمة عام 2018، على قدرتها على الاستفادة من تراجع الليرة لزيادة الصادرات وتعزيز السياحة لتحقيق فائض في ميزان المدفوعات والحساب الجاري، مع الحفاظ على سياسة خفض الفائدة التي أدت إلى تحقيق نمو اقتصادي جيد، وبالتالي يصبح الدولار الداخل للبلاد أكثر من الذي يخرج منها بعيداً عن الأموال الساخنة.
كانت تركيا تريد بناء رصيد من حقيقي من العملات الأجنبية، بناء على نمو اقتصادي وزيادة في مدخول العملات، وليس من خلال مستثمري الأموال الساخنة الباحثين عن أسعار فائدة عالية، ولكن جائحة كورونا جاءت لتفسد هذا التوازن، خاصة فيما يتعلق بتراجع قطاع السياحة.
ورغم الانتقادات التي توجَّه في الأوساط المالية العالمية لإصرار أردوغان على سياسة تخفيض الفائدة، فإن هذه الأوساط (التي هي أقرب دوماً لمستثمري الأموال الساخنة) تقر بخجل بأن سياسة خفض الفائدة وتيسير الإقراض ساعدت في عدم سقوط الاقتصاد التركي في ركود خلال جائحة كورونا، كما حدث في أغلب دول العالم.
وساعدت هذه السياسات الشركات التركية على تخطي الجائحة، خاصةً أن أنقرة كانت تطبق سياسة مرنة للتعامل مع الجائحة، تركز على الإجراءات الاحترازية مثل ارتداء الكمامات أو منع الازدحام دون إغلاق، مع تنفيذ إغلاق جزئي لعدة أيام في ذروة الجائحة أو حظر تجول انتقائي شمل فئات بعينها مثل كبار السن أو المراهقين أو الأطفال.
ويشير تقرير Bloomberg إلى اعتراف ضمنى لبعض الفوائد جراء سياسات التيسير المالي التي أصر عليها أردوغان والتي طالما انتقدتها الوكالة، إذ حافظت على النمو الاقتصادي والتشغيل.
خلال الجائحة قام البنك المركزي التركي بضخ السيولة عن طريق جمع السندات الحكومية، وقدم تخفيفاً بنسبة 1575 نقطة أساس إلى أن أوقف خفض أسعار الفائدة في يونيو/حزيران 2020، مما جعل تكاليف الاقتراض المعدلة حسب التضخم في تركيا من بين أدنى المعدلات في العالم.
وانخفض المتوسط المرجح لتكلفة التمويل إلى 7.34% في يوليو/تموز 2020 ثم بدأ في النمو لبقية الربع لينتهي عند 11.1%.
تعد هذه أخباراً إيجابية بالنسبة للشركات وعمالها لأنها ساعدت على تقليل تداعيات الوباء الاقتصادية.
مع رفع معظم القيود المتعلقة بالفيروسات التي فُرضت في الربع السابق (الثالث) من العام، تسارعت وتيرة السياحة المحلية، وفتحت المطارات لمعظم السياح الأجانب.
مستقبل الاقتصاد التركي بعد تغيير السياسات النقدية
تبدو صورة الربع الأخير أقل وردية حيث بدأت تركيا في إعادة فرض القيود بعد تصاعد الفيروس واستبدلت رئيس بنكها المركزي ووزير الاقتصاد، تبدو تركيا أنها ستتجه لمسار أقرب لبقية مجموعة العشرين.
وتعهد الرئيس رجب طيب أردوغان بدعم مسؤوليه الاقتصاديين الجدد بسياسات "الدواء المرة" التي تتعارض مع آرائه.
والآن، تتوقع Bloomberg أن نشاط الاقتصاد التركي سيتباطأ في الربع الرابع من العام الجاري بعد تغيير محافظ البنك المركزي واستقالة وزير الاقتصاد براءت ألبيرق وما تبع ذلك من رفع أسعار الفائدة وزيادة معدل الإصابة بفيروس Covid-19.
ويتوقع بعض محللي الوكالة أن يكون النمو حوالي الصفر هذا العام، قبل أن يتقدم إلى 4% في عام 2021.
وبدأ محافظ البنك المركزي الجديد، ناجي إقبال، فترة ولايته برفع أسعار الفائدة بأكبر قدر خلال أكثر من عامين، وهي خطوة يمكن أن تضعف الطلب، ولكنها قد تقوي الليرة، وحققت صدى إيجابياً في أسواق المال الدولية.
وقال إنفر إركان الاقتصادي المقيم في إسطنبول في بيت الاستثمار تيرا ياتريم، "سيشير الربع الرابع إلى صورة نمو أبطأ".