توعَّدت إيران بالرد على اغتيال الأب الروحي لبرنامجها النووي محسن فخري زادة، لكن ربما يكون هذا بالتحديد ما تريده إسرائيل حتى يقدم دونالد ترامب على توجيه ضربة عسكرية لطهران قبل مغادرة البيت الأبيض وتنصيب جو بايدن، فهل تقع إيران في فخ الرد أم تؤجل الانتقام؟
ترقُّب إسرائيلي للرد الإيراني
بعيداً عن عدم إعلان جهة أو دولة مسؤوليتها عن اغتيال العالِم النووي الإيراني محسن فخري زادة، تقف إسرائيل وراء العملية التي تمت في قلب طهران تقريباً بنفس الطريقة التي كشف عنها فيلم وثائقي نشرته قبل عامين القناة الإسرائيلية 11 بعنوان "اختراق في قلب طهران"، وجاءت تصريحات المسؤولين الإيرانيين لتؤكد اتهام تل أبيب التي لم تنفِ ضلوعها في عملية الاغتيال ولم تؤكدها رسمياً.
وفي أعقاب عملية الاغتيال التي تم تنفيذها الجمعة 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وجهت إسرائيل برفع مستوى الاستعدادات الأمنية في بعثاتها الدبلوماسية حول العالم ترقباً لرد انتقامي إيراني، فقد توعَّد الحرس الثوري بـ"انتقام قاسٍ" من قتلة فخري زادة، متهماً إسرائيل بالوقوف وراء عملية اغتياله، فيما قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، عبر تويتر، إن "هناك أدلة مهمة حول ضلوع إسرائيل في اغتيال فخري زادة".
وعلى مدى الأيام الثلاثة الماضية احتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بعملية الاغتيال، لكنها في الوقت نفسه رصدت حالة الترقب التي تنتاب المسؤولين وعلى رأسهم بالطبع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في ظل وجود انقسام واضح بين فريقين، يرى الأول فيهما أن توقيت وطريقة تنفيذ العملية بمثابة إعلان واضح أن تل أبيب لم تعد بحاجة لدعم واشنطن في حربها ضد إيران، بينما يرى الفريق الآخر أن دور واشنطن لا يزال أساسياً في تلك المواجهة.
الاغتيال رسالة لبايدن
وإذا انتقلنا إلى طهران لرصد الصورة من هناك بعيداً عن التصريحات الغاضبة والتهديدات بانتقام مزلزل، نجد أن أي رد انتقامي إيراني خلال الأسابيع القليلة المتبقية من ولاية ترامب (تنتهي رسمياً 20 يناير/كانون الثاني 2021) ربما يكون هدف إسرائيل بالأساس من وراء اغتيال فخري زادة في هذا التوقيت.
فتوقيت اغتيال فخري زادة ربما يغير قواعد التعامل مع الملف الإيراني وهذا ليس غائباً عن حكومة نتنياهو التي ربما أرادت أن ترسل رسالة واضحة لإدارة بايدن وهي أن تل أبيب قد أصبحت لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط ولا تحتاج لضوء أخضر من واشنطن كي تتخذ خطوة تصعيدية بهذا الحجم، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وهذا ما عبَّر عنه رئيس معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي الجنرال المتقاعد عاموس يلدين الذي قال لراديو إسرائيل الأحد 29 نوفمبر/تشرين الثاني إنه "أياً كان مَن نفَّذ العملية في قلب طهران، كانت عينه على واشنطن، فلو ردَّ الإيرانيون سيعطي ذلك ذريعة للرئيس ترامب أن يأمر جنرالاته بضرب إيران. ولو لم يردوا (الإيرانيون) قد يؤدي هذا الاغتيال لمنع إدارة بايدن من فتح باب المفاوضات مع طهران".
لكن السؤال الذي توقف أمامه فريق آخر من المحللين في إسرائيل هو كيف سيكون تعامل إدارة بايدن؟ هل ستقبل عملية الاغتيال وربما عمليات أخرى مشابهة على أنها أمر واقع أم أنها ستقرر في وقت ما أن تذكر تل أبيب بمن هو صاحب الكلمة الأعلى في شؤون المنطقة؟ فعلى الرغم من وصول التقارب والتعاون العسكري والأمني بين تل أبيب وواشنطن لمستويات عالية جداً بفضل صداقة نتنياهو وترامب، لا تزال إسرائيل أقل من الولايات المتحدة بصورة لا تخفى على أحد، فتل أبيب تتلقى 3.8 مليار دولار مساعدات عسكرية من واشنطن سنوياً.
وقد تعرضت عملية الاغتيال لانتقادات عنيفة من مسؤولين سابقين في إدارة باراك أوباما ونائبه بايدن، وعلى الرغم من أن بايدن ونائبته كامالا هاريس لم يعلقا على العملية، فإن ذلك لا يعني موافقتهما عليها أو ترحيبهما بها، وقد طالب بعض المسؤولين السابقين طهران بعدم الرد وانتظار تولي إدارة بايدن المسؤولية.
خيارات طهران أحلاها مُر
لكن هل تمتلك إيران رفاهية عدم الرد على إهانة مزدوجة بهذا الحجم؟ اغتيال فخري زادة الذي ذكره نتنياهو بالإسم عام 2018 وقال إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل السابق إنه كان هدفاً للاغتيال وإن أولمرت هو من أمر بوقف العملية، وطريقة التنفيذ في قلب طهران والتي تكشف عن اختراق أمني خطير من جانب دولة لدولة عدو لها.
كما أن الاغتيال الأخير يعتبر الضربة الثالثة التي تتعرض لها طهران هذا العام بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع يناير/كانون الثاني والانفجار الذي وقع في منشأة نطنز النووية في يوليو/تموز (الذي قالت تقارير إعلامية أيضاً إن إسرائيل هي من نفذته بينما لم تؤكد أو تنفِ تل أبيب مسؤوليتها عنه، وهي الاستراتيجية الإسرائيلية التي باتت معروفة للجميع).
صحيح أن إيران ردت على اغتيال سليماني بإطلاق عشرات الصواريخ التي استهدفت قواعد عسكرية أمريكية في العراق، لكن الرد الإيراني الذي لم يسفر عن خسائر في الأرواح بدا وقتها مجرد تحرك لحفظ ماء الوجه دون إثارة الغضب الأمريكي لدرجة الدخول في مواجهة عسكرية شاملة، أما تفجير نطنز فلم يشهد أي رد انتقامي إيراني، ولم توجه طهران اتهاماً مباشراً لإسرائيل.
الوضع الآن مختلف، ففخري زادة لا يقل أهمية عن سليماني، وطهران وجهت بالفعل الاتهام لإسرائيل وتوعدت بالرد على لسان جميع مسؤوليها كالرئيس حسن روحاني وعلي خامنئي المرشد الأعلى وقائد الحرس الثوري قاآني، ومن ثم ربما يتسبب عدم الرد في إثارة الوضع الداخلي المتأزم أصلاً، لكن كيف يمكن أن يكون شكل الانتقام الإيراني؟
السيناريو الأول أن يقوم حزب الله في لبنان بعملية عسكرية محدودة ضد إسرائيل، لكن الوضع الداخلي في لبنان ربما يجعل هذا السيناريو مستبعداً في الوقت الحالي، والسيناريو الثاني هو استهداف أي من سفارات إسرائيل أو مصالحها في المنطقة أو حول العالم، أما السيناريو الثالث فهو محاولة استهداف في الداخل الإسرائيلي كميناء حيفا، والسؤال هنا يتعلق بمدى القدرة الإيرانية على التنفيذ من جهة وبحساب تداعيات الرد الانتقامي من جهة أخرى.
تسريع البرنامج النووي كورقة تفاوض
من المهم هنا التوقف عند تصريحات رئيس لجنة الطاقة في مجلس الشورى الإيراني فريدون عباسي، على حسابه بتويتر الأحد وتأكيده أن "اغتيال فخري زادة سوف يغير هندسة المجلس الثوري حيال البرنامج النووي".
عباسي أوضح أن "إرادة المجلس تتركز الآن على 4 نقاط مركزية، وهي بدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وإخراج جميع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من البلاد، ووقف التعاون مع الوكالة إطلاقاً، والانسحاب من الاتفاق النووي".
كما حذَّر أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني محسن رضائي من أن استمرار اغتيال العلماء الإيرانيين قد يحد من عمل مفتشي وكالة الطاقة الدولية في البلاد، وأعلن المتحدث باسم الوكالة الذرية الإيرانية بهروز كالموندي، في تصريح صحفي، عن "إلغاء التراخيص الخارجة عن إجراءات التحقق للوكالة الدولية للطاقة الذرية".
هذه التصريحات ربما تعكس توجهاً إيرانياً داخلياً بمحاولة الضغط بورقة البرنامج النووي لدفع الأطراف الدولية التي لا تزال ملتزمة بالاتفاق النووي (بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين) لممارسة مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة حتى تعود إلى الانضمام للاتفاق بمجرد تسلم إدارة بايدن السلطة أو على الأقل تقديم ضمانات بهذا التوجه في هذه الفترة.
وهذا ما يراه فريق من الخبراء يستبعد أن تتخلى طهران عن برنامجها السلمي وتنجر للرد العسكري، تغليبا لمصلحتها الاستراتيجية في إمكانية إحياء الاتفاق النووي، مع الاحتفاظ بحقها في الرد في توقيت مختلف بدلاً من الوقوع في فخ الرد الفوري والمخاطرة بضربة عسكرية شاملة يبدو أن ترامب يريد أن يأمر بها قبل مغادرته البيت الأبيض.