فيما يحتفل الأمريكيون هذا العام بعيد الشكر وسط الجائحة، ستتذكَّر كوريا الشمالية ذكرى سنوية خاصة بالنسبة لها. ففي 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أشرف الديكتاتور كيم جونغ أون على إطلاق آخر دولة ستالينية في العالم أكبر صاروخ يجري اختباره على الإطلاق. أظهر الصاروخ، الذي يُطلَق عليه "Hwasong 15" (المريخ 15)، أنَّ صواريخ كوريا الشمالية بإمكانها ضرب أي مكان في البر الرئيسي للولايات المتحدة -من لوس أنجلوس إلى نيويورك- بسلاح نووي حراري.
يحتفل النظام الكوري الشمالي بتاريخ الاختبار باعتباره "ثورة"، ضمن ثالث أكبر إنجازات كيم؛ بل جرى تخليد ذكرى الإطلاق بنصب تذكاري، تظهر عليه قصيدة مُكرَّسة لـ"الإنجاز الأبدي والخالد الذي حمل قوة عظيمة". يواجه كيم اليوم مجموعة من المشكلات، من ضمنها العقوبات الاقتصادية الشديدة، وسلسلة من الكوارث الطبيعية، والجائحة، لكنَّ قبضته على السلطة صارت أكثر أماناً في تلك الليلة من 2017، حين استطاع إعلان أنَّ الردع النووي للبلد الفقير بات الآن "مكتملاً"، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
أنظمة البرمجة ممكن أن تُحدث كارثة!
ويستند هذا الردع إلى كلٍّ من "العتاد"، وهي القنابل ووسائل الإطلاق، إضافة إلى "البرمجيات"، وهي أنظمة القيادة النووية والتحكم والاتصالات. حظيت الأسلحة نفسها بمعظم التركيز حين كانت كوريا الشمالية تكدس ترسانتها النووية، لكن الآن وقد صار بإمكان بيونغ يانغ شن هجوم نووي على البر الرئيسي للولايات المتحدة، قد تكون جودة وبنية أنظمة القيادة النووية والتحكم والاتصالات هي الفاصل بين التعايش الأمريكي القلق مع كوريا الشمالية والكارثة النووية. وستكون "برمجياتها" مبعث قلق مهماً لإدارة بايدن المقبلة. إذ كانت دبلوماسية ترامب مع كوريا الشمالية شخصية للغاية، لكنَّها أثبتت أنَّها كانت رائعة في الأبهة والعظمة وضعيفة في النتائج العملية.
تُعَد أنظمة القيادة النووية والتحكم والاتصالات هي عصب القوات النووية لأي بلد. وهي تشمل التنظيمات والإجراءات وتدابير السلامة الفنية مُدمَجةً في قوة نووية. في يوم رأس السنة عام 2018، لمح كيم بوضوح إلى هذا، مُذكِّراً واشنطن بأنَّه ليس فقط كامل البر الرئيسي للولايات المتحدة "في نطاق ضربتنا النووية"، بل إنَّ "الزر النووي على مكتبي طوال الوقت" أيضاً.
البحث عن مصداقية الردع النووي
كان كيم يحاول إكساب ردعه النووي مصداقية، من خلال تأكيد الإمكانية الحقيقية لاستخدام الأسلحة الذرية. ففي نهاية المطاف، القدرة على إطلاق السلاح النووي وحدها لا يمكن أن تمثل ردعاً مالم يُصدِّق خصومك أنَّها ستكون متاحة دوماً للاستخدام. لكنَّ كيم، شأنه شأن القادة الآخرين ممن لديهم ترسانات نووية، عليهم أن يجتازوا ما يدعوه الخبراء معضلة "دائماً-أبداً"؛ إذ يتعين أن يكون أي نظام قيادة نووية وتحكم واتصالات رشيقاً بما يكفي لتكون الأسلحة النووية عاملة دوماً ويمكن استخدامها عند الحاجة، لكن يتعين أيضاً أن تكون هناك ضوابط وتوازنات قوية كافية تضمن عدم استخدام الأسلحة أبداً دون إذن صريح أو إطلاقها بالخطأ.
لم تُحَل هذه المعضلة بصورة حقيقية قط، وتُسبب قلقاً مستمراً. تمتلك الدول النووية الأكثر خبرة –لاسيما الولايات المتحدة وروسيا- أنظمة قيادة وتحكم معقدة، في حين تعاني القوى النووية الأحدث مثل الهند وباكستان، والآن كوريا الشمالية، لتحقيق توازن "دائماً-أبداً" هذا بصورة صحيحة.
عند إعلان كوريا الشمالية نفسها دولة نووية في 2013، أعلنت كذلك كيف أنَّها ستضمن عدم استخدام الأسلحة النووية دون تصريح. ومن شأن سلطة الإطلاق النووية أن تعتمد فقط على القائد الأعلى "لصدِّ أي غزو أو هجوم من دولة نووية معادية وشن ضربات انتقامية". وكما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث بإمكان الرئيس وحده إصدار الأمر بإطلاق سلاح نووي، بإمكان كيم وحده أن يصدر الأمر باستخدام الأسلحة النووية لكوريا الشمالية في وقت السلم.
الأمر بيد كيم
لكنَّ أحكام القيادة والتحكم قد تتغير في ظل أزمة، وهنا تصبح الأمور مخيفة. لطالما خشيت كوريا الشمالية محاولة أمريكية لـ"قطع رأس" نظامها بهجوم مباغت لقتل كيم. وإذا ما كان كيم هو المصدر الشرعي لإصدار أمر الإطلاق النووي في كوريا الشمالية، فإنَّ قتله مبكراً خلال أزمة قد يضمن عدم استخدام الأسلحة النووية، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وعلى هذا النحو، إذا بدأت الولايات المتحدة تحريك السفن والقاذفات إلى آسيا من أجل البداية المحتملة لحرب، فقد يُوسِّع كيم بتكتُّمٍ نطاق سلطة الإطلاق النووي إلى القادة العسكريين في الميدان، سواء أعلن ذلك علانيةً أو لم يعلن. وبهذا الشكل، إذا ما فصل أي هجوم أمريكي، كيم عن "زره" أو قتلوه بشكل صريح، فسيظل من الممكن إطلاق أسلحته النووية.
لا توجد أدلة على أنَّ كيم اتخذ هذه الخطوة، لكنَّ منطق الردع النووي من شأنه أن يجعل الأمر خطوة عقلانية. وبهذا، ستؤدي أي ضربة على كوريا الشمالية، في وجود كيم أو من دونه، إلى انتقام نووي. وبما أنَّ الولايات المتحدة لا تستبعد احتمالية خسارة عديد من المدن الأمريكية في ضربة كهذه، فإنَّ المنطق يقول إنَّه سيتعين على واشنطن التخلي عن أي خيار لقطع الرأس.
هامش الخطأ أكبر
لكن داخل نظام كوريا الشمالية الاستبدادي الأحادي، قد يثير هذا التفويض المُسبَق في أزمة ما، إلى إثارة بعض الأسئلة غير المريحة تماماً. فمن ناحية، يُختار أفراد وضباط القوة الاستراتيجية في الجيش الشعبي الكوري بسبب الولاء الأيديولوجي للقيادة العليا لكيم جونغ أون (إلى جانب عوامل أخرى). يعني هذا أنَّ أولئك الرجال سيكونون مستعدين لتفسير الظواهر غير الضارة في أي أزمة –ولنقل مثلاً شرود طائرة مدنية كورية شمالية عن مسارها- باعتبارها شيئاً أكثر خطورة مما هي عليه، مثل أنَّها قاذفة أمريكية نووية. وأدَّى نظام الرادار الكوري الشمالي غير المتطور إلى رؤية الطائرات الشبحية من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية باعتبارها تهديداً كبيراً، ما لا يترك هامشاً كبيراً للخطأ.
لن يعتمد منع كارثة نووية غير مقصودة في شبه الجزيرة الكورية على تحسين كيم برمجياته النووية وحسب، بل أيضاً على الفهم الأفضل من جانب الولايات المتحدة للخيارات والظروف التي تُحرِّك موقف كوريا الشمالية النووي. لطالما ألقت أعباء الردع النووي بثقلها على علاقات واشنطن مع موسكو وبكين، وسيحدث ذلك الآن مع بيونغ يانغ أيضاً.