قد يشير قرار السلطة الفلسطينية باستئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل بعد تعليق دام ستة أشهر إلى تغييرات جوهرية تلوح في الأفق في العلاقة بين الجانبين، حيث من المتوقع أن يقدم الأول مزيداً من التنازلات للأخير، وفقاً لتصريحات محللين لموقع Middle East Eye البريطاني
يأتي استئناف العلاقات في وقت شهدت فيه المنطقة تحولاً جيوسياسياً، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى اتفاقيات التطبيع الأخيرة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.
أعلنت السلطة الفلسطينية تعليق التنسيق في مايو/أيار الماضي، رداً على خطط إسرائيل لضم المزيد من الأراضي في الضفة الغربية. وقالت إنها جمدت الاتصالات مع إسرائيل في الشؤون المدنية والأمنية، وسحبت قوات الأمن الفلسطينية من ضواحي القدس المحتلة والمنطقة (ج) في الضفة الغربية المحتلة.
وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني، استأنفت السلطة الفلسطينية التنسيق الأمني مع إسرائيل دون الإشارة إلى ما إذا كانت قد حققت أي مكاسب في المقابل. وفي تغريدة على موقع تويتر، وصف رئيس الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، حسين الشيخ، تحرك السلطة بأنه "انتصار"، مما دفع العديد من الفلسطينيين على شبكات التواصل للرد عليه بالسخرية.
"السلطة الفلسطينية هي وكيل للاحتلال"
يثير التطور تساؤلات كثيرة حول فائدة استئناف التنسيق دون تحقيق أهداف سياسية، حيث تم إيقافها ظاهرياً لاستخدامها كورقة ضغط. كما أنه يطرح أسئلة: كيف عادت السلطة الفلسطينية إلى التطبيع مع إسرائيل وهي ترفض الصفقات العربية في الآونة الأخيرة؟ وهل ستستطيع السلطة الفلسطينية الاستمرار في تعليق الاتصالات الثنائية مع إسرائيل، أم أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقوة المحتلة؟
يعتقد الأستاذ والمحلل المقيم في نابلس عبدالستار قاسم أن الفلسطينيين كانوا على علم بأن تعليق التنسيق الأمني سيكون مؤقتاً. وقال لموقع Middle East Eye: "نحن نفهم أن السلطة الفلسطينية هي وكيل للاحتلال ولا يمكنها ترك هذا الدور، لأنها ستفقد امتيازاتها".
وأضاف: "نحن ندرك تماماً أن التنسيق الأمني لا يمكن أن يتوقف تماماً، لأنه يبرر وجود السلطة الفلسطينية.. لقادة السلطة امتيازات ومصالح وثروة، وبالتالي لن يكون هناك تنازل عن المصلحة الذاتية من أجل المصلحة الشعبية".
ويعتقد قاسم أن إعلان السلطة الفلسطينية من المرجح أن يتضمن المزيد من التنازلات، مما يخدم خطط إسرائيل لمواصلة الاستيلاء غير القانوني على الأراضي والتوسع الاستيطاني. وأضاف أن "إسرائيل ستشدد من إجراءاتها لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين بعد أن تمكنت من السيطرة على الأرض".
مزيد من التنازلات قادمة
أحد المؤشرات المباشرة على تنازل وشيك كبير للسلطة الفلسطينية جاء في ملف 4500 سجين سياسي فلسطيني في السجون الإسرائيلية. في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، قال قدري أبوبكر، من لجنة شؤون الأسرى في السلطة الفلسطينية، إن هناك اقتراحاً لتغيير سياسة السلطة الفلسطينية بشأن المدفوعات للأسرى. وقال إن رواتب الأسرى ستتغير حسب احتياجات أسرهم وظروفهم الاجتماعية.
لطالما كانت قضية مدفوعات السلطة الفلسطينية ملفاً مطروحاً على الطاولة بين المفاوضات السابقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ومع ذلك ، كانت الولايات المتحدة في عهد ترامب منذ عام 2018 تضغط مالياً على السلطة الفلسطينية بسبب ضغوط إسرائيل وجماعات الضغط التابعة لها في الكونغرس، وقطعت إدارة ترامب ملايين الدولارات من المساعدات النقدية عن السلطة، بما في ذلك رواتب الأسرى.
واتخذت إسرائيل أيضاً تدابير عقابية حول هذا الملف، إذ هددت بفرض عقوبات على البنوك الفلسطينية التي تضم حسابات خاصة بدفع مخصصات لذوي الأسرى، بهدف منع وصول الرواتب الشهرية التي تقدمها منظمة التحرير الفلسطينية لأهالي المعتقلين الحاليين والسابقين.
عودة التنسيق الأمني ضربة قوية للمصالحة الفلسطينية
وعلى الرغم من تكثيف جهود المصالحة الدبلوماسية بين السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية التي تحكمها فتح، وقطاع غزة المحاصر الذي تحكمه حركة حماس، بما في ذلك من خلال الاجتماعات الأخيرة في بيروت وإسطنبول، اعتبر استئناف التنسيق الأمني ضربة قوية على المستوى المحلي.
وعبرت الفصائل الفلسطينية عن رفضها لخطوة السلطة الفلسطينية. وقالت حماس إنها تعتبرها "طعنة" لجهود المصالحة، مطالبة السلطة الفلسطينية بالتراجع عن قرارها. كما وصفت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" قرار السلطة بأنه "استخفاف" بخطورة المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية التي تستهدف الشعب الفلسطيني.
وتساءل البعض: هل عودة السلطة الفلسطينية إلى التنسيق الأمني مقدمة لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل على حساب المصالحة الفلسطينية الداخلية؟
"عملية سياسية قيد التنفيذ"
وفقاً للمحلل السياسي جهاد حرب، فإن العكس في سياسة السلطة الفلسطينية لا يعني بالضرورة العودة الفورية للمفاوضات الرسمية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، لكنه قد يشير إلى احتمال وجود "عملية سياسية قيد التنفيذ".
وقال لموقع Middle East Eye إنه يعتقد أن الأمر يشمل السلطة الفلسطينية التي تنتظر اتجاهاً جديداً في ظل الإدارة الأمريكية القادمة، والتي أصدرت تصريحات حول مقاربة مختلفة للقضية الفلسطينية الإسرائيلية، والانسحاب من "صفقة القرن" للرئيس دونالد ترامب. وقال حرب: "هذه التصريحات تشجع السلطة على العودة إلى المسار السياسي".
وكشفت صحيفة Haaretz الإسرائيلية في تقرير نشرته يوم الثلاثاء 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أن كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بدأوا محادثات مع مساعدين للرئيس الأمريكي المُنتَخَب جو بايدن، حسبما كشف دبلوماسيون غربيون نقلاً عن أطراف مقربة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
كما قال نائب رئيس حركة فتح، محمود العالول، يوم الإثنين، إنَّ قيادة السلطة الفلسطينية توصلت إلى عدة تفاهمات مع فريق عمل بايدن حول مختلف القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
الاقتصاد.. ضرب السلطة الفلسطينية حيث يؤلمها
ويرى محللون أنه على الرغم من رفض السلطة الفلسطينية لاتفاقات التطبيع الأخيرة بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان، وانسحاب سفرائها من الدول الثلاث، فإن عودتها إلى التنسيق الأمني وإعادة سفرائها هي موافقة ضمنية على هذه الاتفاقيات.
يقول حرب: "السلطة الفلسطينية لا تتطلع إلى الصدام مع الدول العربية، عندما تقوم السلطة الفلسطينية بخطوات سياسية أو تحتاج إلى دعم مالي ، فإنها تلجأ إليهم".
أوضح الباحث في الشؤون الاقتصادية في رام الله، جعفر صدقة، أن الاقتصاد الفلسطيني يواجه مخاطر جسيمة بسبب استمرار إسرائيل في حجب أموال الضرائب الفلسطينية، وهو ما يعتقد أنه المحرك الأساسي لقرار السلطة الفلسطينية باستئناف التنسيق الأمني.
وبحسب صدقة، شهد عام 2020 أسوأ أعوام للاقتصاد الفلسطيني على الإطلاق، وكانت السلطة الفلسطينية تقترب من إعلان عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها المدنيين وموردي السلع والخدمات.
وصادرت إسرائيل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية في بداية انتشار كورونا في الضفة الغربية وفرض السلطة الفلسطينية حالة الطوارئ، مما أدى إلى انخفاض كبير في تحصيل الإيرادات المحلية وتداعيات أخرى مباشرة على مختلف القطاعات الاقتصادية.
وقال صدقة إنه من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد الفلسطيني بنسبة تتراوح بين 7 و14% اعتماداً على استمرار تفاقم أزمة الوباء على المستوى المحلي.
وأضاف أن "إعادة الأموال الضريبية تعني أن حوالي مليار دولار سيتم ضخها في الاقتصاد الفلسطيني دفعة واحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى انتعاش كبير وسريع وسيعكس التراجع الحاد للاقتصاد في فلسطين".
ومنذ إنشائها في عام 1993، حاولت السلطة الفلسطينية بناء اقتصاد ريعي يعمل بشكل أساسي على أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل ثم تعود إلى السلطة الفلسطينية، وتشكل 60٪ من إجمالي إيراداتها. وتم الاتفاق على الشروط المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني وتبعيته لإسرائيل في بروتوكول باريس لعام 1994، الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
وخسارة السلطة الفلسطينية لأموال الضرائب أهم مواردها المالية تعني الدخول في أزمة كبيرة وعجز جزئي عن فترة الوفاء بالتزاماتها، أو الدخول في عجز كلي كان متوقعاً خلال الشهرين المقبلين لو كانت الضريبة.. اليوم، أصبح من المستحيل على السلطة الفلسطينية الاستغناء عن أموال الضرائب.
حملة قمع شديدة مقبلة ستقودها السلطة الفلسطينية على معارضيها
يقول النشطاء على الأرض إنهم يتوقعون أن تترجم عودة التنسيق الأمني إلى جهود مكثفة من قبل قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لقمع خصومها ومعارضيها ومنتقديها. وهم يتوقعون أن تنفذ السلطة الفلسطينية اعتقالات واسعة النطاق وأن تراقب الخطاب على الإنترنت عن كثب.
وفي 19 تشرين الثاني/نوفمبر، داهم عدد كبير من قوات السلطة الفلسطينية منزل الناشط الفلسطيني البارز نزار بنات في بلدة دورا في الخليل. وجاء اعتقاله بعد ساعات من نشره مقطع فيديو على صفحته على فيسبوك يعبر عن رفضه لخطوة السلطة الفلسطينية، ويسخر من تصريحات حسين الشيخ بشأن عودة التنسيق الأمني. وقال بنات في مقطع الفيديو: "التنسيق الأمني يعني تبادل المعلومات، ولا يمكن إيقاف ذلك ما لم يتم حل جميع الأجهزة الأمنية الفلسطينية".
صهيب زهدة، ناشط فلسطيني مقرب من بنات، قال لموقع Middle East Eye إن قوات الأمن رفضت الكشف عن مكان وجود بنات لمدة 48 ساعة، قبل نقله إلى مركز الاحتجاز في مدينة أريحا. وقال زهدة: "اتصلنا بمصادر داخل الأجهزة الأمنية وأكدنا أن اعتقال نزار جاء استجابة لشكوى تقدم بها حسين الشيخ ضده".
وقالت جمعية "محامون من أجل العدالة"، وهي مكتب قانوني مقره رام الله عقب قضية بنات، إن النيابة العامة في الخليل نفذت عملية الاعتقال بتهمة "التشهير بالسلطة" بموجب قانون الجرائم الإلكترونية المثير للجدل، بناءً على مقطع فيديو نشره. وقال زهدة إنه يعتقد أن مؤشرات المناخ السياسي تميل نحو حملة السلطة الفلسطينية من الاعتقالات وإسكات النشطاء السياسيين في المرحلة المقبلة، من أجل صد أي انتقاد للسلطة الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بموضوع التنسيق الأمني.