لم يكن متوقعاً أن تراهن روسيا بسمعتها لحماية ميليشيات ليبية تابعة لحفتر، متورطة في جرائم مروعة بمدينة ترهونة (غرب)، وتحبط قرار إدراجها تحت طائلة العقوبات الدولية في مجلس الأمن، إلا إذا كانت تخشى ما هو أسوأ.
حيث رشحت الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وأستونيا، الأعضاء في مجلس الأمن، محمد الكاني وميليشيا "الكانيات"، إلى لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة، لانتهاكهم الفظيع لحقوق الإنسان بليبيا، بحسب المندوبة الأمريكية الدائمة كيلي كرافت.
لكن روسيا، التي تملك حق الفيتو بمجلس الأمن المشكل من 15 دولة، أجهضت صدور قرار بهذا الشأن، متعللة بأنه لا يوجد "دليل قاطع على تورط ميليشيا الكانيات في قتل مدنيين"، بحسب ما رشح من أحد الدبلوماسيين الروس.
وقال دبلوماسي روسي، في مذكرة موجهة لزملائه بمجلس الأمن، إن بلاده يمكن أن تدعم مستقبلاً هذه المبادرة، بشرط تقديم "دليل قاطع"، بحسب ما نقلته وكالة "رويترز".
مئات الانتهاكات لميليشيا "الكانيات" المدعومة من حفتر
في حين استندت الولايات المتحدة وألمانيا، في اقتراحهما الخاص بالعقوبات، إلى تقارير تلقتها منظمات حقوقية دولية والبعثة الأممية إلى ليبيا، تتضمن "مئات الانتهاكات لحقوق الإنسان التي ارتكبتها ميليشيا الكانيات، ضد أفراد ومسؤولين حكوميين، والمقاتلين الأسرى ونشطاء المجتمع المدني في ترهونة".
وتوضح واشنطن وبرلين أن تقارير تفيد أن "ميليشيا الكانيات ارتكبت عمليات إخفاء قسري وتعذيب وقتل. كما تحققت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا من ارتكاب ميليشيا الكانيات للعديد من عمليات إعدام بلا محاكمة في سجن ترهونة في 13 سبتمبر/أيلول 2019".
وفي هذا التاريخ وثقت بعثة الأمم المتحدة، في أحد تقاريرها، مقتل أكثر من 30 شخصاً على يد ميليشيا الكانيات انتقاماً لمقتل محسن الكاني (قائد ميداني) وشقيقه عبدالعظيم (22 سنة) بالإضافة إلى عبدالوهاب المقري، قائد اللواء التاسع 2019.
جرائم بلا حساب في ليبيا
المثير للاستغراب أن ميليشيا الكانيات (نسبة إلى إخوة من عائلة الكاني)، التابعة للجنرال الانقلابي خليفة حفتر، ارتكبت من جرائم القتل والتعذيب والاختطاف ما لم يتم إحصاؤه بالكامل، وذلك خلال سيطرتها على ترهونة (90 كلم جنوب شرق العاصمة طرابلس)، بين 2013 و2020.
ففي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أصدر النائب العام الليبي أوامر ضبط دولية، في حق الإخوة محمد وعبدالرحيم وعبدالعظيم الكاني، لما ارتكبوه من جرائم.
لكن أخطر تلك الجرائم التي ارتكبتها ميليشيا الكانيات وقعت خلال هجوم ميليشيات حفتر، المدعومة بمرتزقة شركة فاغنر الروسية والمرتزقة الأفارقة من تشاد والسودان.
بينما اعتبرت وزارة العدل الليبية في يونيو/حزيران الماضي، أن عائلات في ترهونة تعرضت لمجازر ترقى إلى جرائم الإبادة.
وبعد طردها من ترهونة في 5 يونيو/حزيران الماضي، تجلت عدة جرائم ارتكبتها ميليشيا الكانيات، أبرزها اكتشاف عشرات القتلى في مستشفى المدينة، وعشرات الجثث في مقابر جماعية ما زالت تتكشف تباعاً، وسجون ضيقة أشبه بالأفران لتعذيب المساجين، بالإضافة إلى 250 مختفياً قسرياً تم التبليغ عن فقدانهم.
واستخرجت الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين، نحو 264 جثة من المقابر الجماعية، بين 5 يونيو/حزيران و15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لكنها لم تتمكن لحد الآن من التعرف على هوية سوى عدد قليل منهم بسبب تحلل الجثث.
ما بعد الكانيات.. روسيا تخشى إدانة "الفاغنر"
أحد الأسباب الحقيقية التي تدفع روسيا إلى الوقوف ضد إدراج محمد الكاني والكانيات ضمن القائمة السوداء لمنتهكي حقوق الإنسان في ليبيا، ليس عدم وجود دليل قاطع، بل الخشية من أن تفتح القائمة لتطال حفتر وميليشياته، بل حتى مرتزقة فاغنر الروس.
فموسكو تدعم حفتر دبلوماسياً وعسكرياً عن طريق فاغنر، وطائرات ميغ 29 وسوخوي 24، وإن أنكرت ذلك، وأي إدانة لميليشيا الكانيات هو إدانة لحفتر ذاته، بل لفاغنر وروسيا أيضاً.
خاصة أن مرتزقة فاغنر متهمون بزرع مفخخات وألغام بالأحياء الجنوبية لطرابلس، قبل انسحابهم منها نهاية مايو/أيار 2020، تسببت بمقتل العديد من الأشخاص بينهم مدنيون.
وهذا ما أشارت إليه المندوبة الأمريكية في كلمتها بمجلس الأمن عندما قالت: "يجب أن نرسل رسالة قوية، مفادها: أن المجتمع الدولي سيتخذ إجراءات هادفة لإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب في ليبيا التي أججت الصراع".
وتتحمل ميليشيات حفتر الجزء الأكبر من الجرائم المرتكبة بحق الشعب الليبي، وتلاحقه العدالة الأمريكية بتهم ارتكاب جرائم، وسبق للنائب العام العسكري الليبي فتحي سعد أن أصدر قراراً بالقبض على حفتر في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
أدلة موثقة على جرائم حفتر
لكن من شأن لجنة تقصي الحقائق الأممية المكلفة بالتحري حول المقابر الجماعية وجرائم الحرب، أن تقدم أدلة موثقة وقاطعة بتورط حفتر، خصوصاً أن سكان ترهونة يعرفون جيداً من قام بارتكاب مختلف الانتهاكات بحقهم وحق أهاليهم القتلى أو المغيبين قسرياً.
حيث دعا مندوب بريطانيا جوناثان آلين، خلال كلمته أمام مجلس الأمن، السلطات في ليبيا للتعاون مع لجنة تقصي الحقائق بشأن قضايا حقوق الإنسان بالبلاد، قائلاً: "ما من أسبوع يمر دون الكشف عن مقابر جماعية في ليبيا".
لكن ليست الجرائم المرتكبة في ترهونة وحدها التي يطالب المجتمع الدولي بكشف المتورطين بارتكابها، بل هناك أيضاً جرائم في شرق ليبيا، آخرها اغتيال المحامية حنان البرعصي، في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وسط مدينة بنغازي (شرق) بعد انتقادها لحفتر ونجله صدام، في فيديو بُث مباشرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
حيث طالب المندوب البريطاني بضرورة "التحقيق في حادثة مقتل حنان البرعصي، وإخفاء (النائبة) سهام سرقيوة".
ويتزامن ذلك مع إقرار مجلس النواب الأمريكي، مشروع قانون "تحقيق الاستقرار في ليبيا"، وصعود جو بايدن، إلى الرئاسة بعد هزيمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، صاحب المكالمة المشهورة التي منحت حفتر "الضوء البرتقالي" للهجوم على طرابلس.
وكل هذه المؤشرات توحي أن الأشهر المقبلة ستكون صعبة على حفتر، حتى وإن كان ما زال يحظى بدعم من روسيا. بينما توارى صوت فرنسا، الداعم الشرس لحفتر، وبدا باهتاً في مجلس الأمن، ولم تدعم روسيا في رفضها وضع الكانيات وقائدها محمد الكاني على قائمة العقوبات، بل انشغلت باستقبال وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا، بحثاً عن أدوار جديدة من الممكن أن تلعبها في ليبيا.