في وقت سابق من هذا الأسبوع، أعلنت إدارة ترامب عن خطط لإعادة نصف القوات الأمريكية البالغ عددها 5000 جندي، والتي لا تزال متمركزة في أفغانستان، بالإضافة إلى 500 من أصل 3000 جندي يتمركزون الآن في العراق. الوعد الذي تعهدت الإدارة بالوفاء به بحلول 15 يناير/كانون الثاني لا يحظى بشعبية بين الضباط العسكريين وخبراء الدفاع الأمريكيين، لكنه قدم هدية غير متوقعة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن، كما تقول مجلة foreign policy الأمريكية.
معضلة حروب أمريكا التي "لا نهاية لها"
طوال حملة هذا العام، تعهد بايدن مراراً وتكراراً بإنهاء "حروب أمريكا إلى الأبد". الآن الرئيس ترامب قد أعاد إلى البلاد نحو 3000 جندي وهو ما يقرب بايدن من هدفه. لكن بايدن سيواجه قريباً مشكلة أكبر وأصعب بكثير: كيف سيفي ببقية تعهده عندما يتولى منصبه أخيراً؟ في هذه المرحلة، احتمالات نجاحه لا تبدو جيدة جداً.
لمعرفة السبب، علينا أولاً تحديد معنى مصطلح الحرب "إلى الأبد" أو "التي لا نهاية لها". في الواقع، تبين أن الإجابة صعبة للغاية، حتى لكل مرشح رئاسي ديمقراطي تقريباً في سباق هذا العام، وترامب من قبلهم.
لكن يُحسب لبايدن أنه حاول على الأقل توضيح ما يعنيه بالضبط، إذ كانت أولويته الأكبر والأسهل هي "تجنب المزيد من العمليات القتالية على نطاق واسع" كما هو الحال في أفغانستان أو العراق أو ليبيا. يمكن أن يكون هذا ممكناً بشكل كبير، فبعد كل شيء لا تلوح في الأفق حروب كبرى. الاستثناء الوحيد المحتمل هو إيران، ولكن حتى وزير الخارجية مايك بومبيو، عضو إدارة ترامب المتشددة بشأن هذه القضية، يقال إنه جادل ترامب بفكرة شن ضربات على المجمعات النووية الإيرانية الأسبوع الماضي.
وبشكل واضح، وعد بايدن بإنهاء الدعم الأمريكي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وهذا وعد سهل للغاية؛ حتى العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين يتفقون على ذلك.
المعنى الأكثر تعقيداً لإنهاء حروب أمريكا الأبدية
ولكن بعد ذلك، تصبح الأمور أكثر تعقيداً. يعرّف التقدميون الأمريكيون إنهاء الحروب إلى الأبد بنطاق أوسع بكثير مما يعد به بايدن. على سبيل المثال، يرى مات دوس، مستشار السياسة الخارجية للسيناتور بيرني ساندرز، أن ذلك يشمل مواجهة الجوانب السلبية للحرب على الإرهاب، بما في ذلك استخدام التعذيب وعمليات القتل المستهدف، والتعاون مع الحكومات الاستبدادية، وهي عملية يمكن أن تفعل المعجزات لسياسة الولايات المتحدة على المدى الطويل، ولكنها ستثبت أنها مثيرة للخلاف ومثيرة للجدل على المدى القصير بحيث يصعب تخيل أن بايدن لديه الجرأة لفعل ذلك، كما تقول المجلة الأمريكية.
وفي الوقت نفسه، فإن تصميم الرئيس المنتخب بايدن على الحفاظ على وجود قوي لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم سيؤدي أيضاً إلى إثارة الغضب بين بعض حلفائه من اليسار، الذين يدرجون عمليات مكافحة الإرهاب في تعريفهم للحروب التي لا نهاية لها. وحتى لو أراد ذلك، فهناك العديد من الأسباب القوية التي تجعل بايدن يجد صعوبة في إنهاء هذه المهام القتالية منخفضة النطاق – والتي تضمنت في السنوات الأخيرة القتال في 15 دولة مختلفة حول العالم. ومن هذه الأسباب:
أولاً: كما أظهرت السنوات العشرون الماضية، فإن مجموعات مثل القاعدة وداعش بارعة جداً في تغيير شكلها والانتقال إلى بلدان جديدة ذات حكومات ضعيفة ومواطنين غاضبين للغاية، ثم استغلال هذا الغضب في هدفهم النهائي المتمثل في "الجهاد العالمي". وأثناء قيامهم بذلك فإنهم يخلقون تهديدات دولية خطيرة جديدة في هذه العملية.
ثانياً: كل رئيس أمريكي يتولى منصبه يعد بمقاربة أكثر سلمية للسياسة الخارجية يتعرض حتماً للنزول إلى الواقع عندما تظهر تهديدات غير متوقعة، أو يبدأ جنرالاته في الإشارة إلى العواقب الوخيمة المحتملة للتخلي عن النزاعات القائمة أو تجنبها أو سحب القوات منها. ويقول كوري شاك، رئيس دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد أمريكان إنتربرايز، إنه "من الأسهل كثيراً انتقاد ممارسة التعامل مع التهديدات حيث تظهر عندما لا تكون مسؤولاً عن تحمل مخاطر فهم الأمر بشكل خاطئ".
وقد يفضل غالبية كبيرة من الأمريكيين إعادة القوات الأمريكية إلى الوطن، بل الاحتفاظ بها هناك. لكن هل تريد أمريكا حقاً التخلي عن أفغانستان وتركها تحت سيطرة طالبان بالكامل؟ أو أن تقبل المخاطرة بسحب الوجود العسكري الأمريكي من العالم كله لكي تشتعل صراعات جديدة أو تندلع حتى هجمات إرهابية ضد الغرب؟ في غضون ذلك، لنفترض أننا تعهدنا بدعم حقوق الإنسان -كما فعل بايدن، مثل كل مرشح ديمقراطي- واندلعت جولة أخرى من التطهير العرقي في مكان ما، هل ستجلس الإدارة الأمريكية صامتة وتراقب فقط؟
ربما ستكون الإجابة عن كل هذه الأسئلة لا، وهذا هو السبب في أن باراك أوباما، على سبيل المثال تولَّى منصبه وقدم وعوداً مماثلة، ولكن انتهى به الأمر إلى إرسال المزيد من القوات إلى العراق وأفغانستان، والانخراط في الحرب الأهلية السورية، والمساعدة في الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا.
إذن ماذا يجب أن يفعله بايدن للوفاء بالتزامه؟
تقول المجلة الأمريكية إن بايدن كرئيس، ستكون أمامه ثلاثة خيارات رئيسية:
الأول، يمكن أن يسمى نهج "جيم جيفريز": فقط الكذب. وكما قال جيفريز، الدبلوماسي المحترف الذي يحظى باحترام كبير بين الساسة الأمريكيين والذي استقال مؤخراً من منصب مبعوث ترامب الخاص لسوريا، في مقابلة الأسبوع الماضي، فإن فريقه باستمرار كان يخدع البيت الأبيض بشأن العدد الحقيقي للقوات الأمريكية في سوريا، وهو رقم ظل أكبر بكثير من 200 جندي اعتقد ترامب أنهم سيغادرون من هناك العام الماضي.
أما النهج الآخر الأقل ازدواجية لإنهاء الحروب إلى الأبد فهو القيام بما اقترحه عالم السياسة تشارلي كاربنتر والعديد من العلماء والخبراء الآخرين على مدار العشرين عاماً الماضية: التعامل مع الإرهاب العالمي كمشكلة قانونية، واستخدام أدوات إنفاذ القانون الدولية لمهاجمته. لكن هذا الخيار يحمل الكثير من المخاطر والمشاكل المحتملة – السياسية والتقنية على حد سواء – وسيكون مثل هذا التحول الجذري من سياسة الولايات المتحدة طويلة الأمد، بحيث يصعب تخيل زعيم معتدل مثل بايدن يتبناه.
النهج الثالث، وقد يكون أفضل خيار لبايدن هو اتباع نصيحة ساندرز: تحسين الإجراءات التي تحكم بمتى تستخدم الولايات المتحدة القوة ومتى لا تستخدمها، وتعزيز شفافية الإدارة الأمريكية حول ذلك. وشدد ساندرز على أن الخطوة الأولى الحاسمة ستتمثل في حمل الكونغرس على استئناف واجبه الدستوري لتقرير موعد خوض الولايات المتحدة الحرب.
ويتبنى ساندرز قوانين تقيد التدخل العسكري الأمريكي في العالم، لذلك اتهمه البعض بأنه يتبنى نهجاً "انعزالياً"، لكنه يقول إنه يتبنى بناء تحالفات دولية والقيام بعمل عسكري في ظل ظروف محددة، ويؤيد عقد صفقات مع دول العالم "تراعي حقوق الإنسان".
قد يكون لهذا النهج مزايا واضحة: فقد أجريت جميع العمليات العسكرية الأمريكية تقريباً على مدار الـ19 عاماً الماضية بموجب تشريع يُطلق عليه "ترخيص استخدام القوة العسكرية" (AUMF)، والذي تم إقراره في عام 2001 لمنح إدارة جورج دبليو بوش مجالاً واسعاً جداً من الحرية في عملها بالخارج. كرد على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. لكن هذا كان أمراً سخيفاً؛ ما كان يجب السماح للقانون أبداً بتبرير ما يقرب من عقدين من الحرب حول العالم، في دول مختلفة مثل النيجر والفلبين على سبيل المثال.
لكن حتى استراتيجية ساندرز ستواجه مشاكل إذا نظرنا إلى حقيقة أن الكونغرس أبدى اهتماماً شبه معدوم بتحمل المزيد من المسؤولية عن حروب أمريكا. فشلت المحاولات التي قام بها السيناتور الديمقراطي عن ولاية فرجينيا ، تيم كين وعدد قليل مثله لتقديم تشريع لإلغاء قانون AUMF لعام 2001 (وقانون آخر مشابه صدر في عام 2002 لتمكين الحرب في العراق) مراراً وتكراراً. لقد فضل الكونغرس ترك القرارات الصعبة للبيت الأبيض بالكامل، ثم انتقادها عندما تسوء الأمور. ومن الصعب تخيل سبب تخلي غالبية المشرعين عن هذا النهج ، على الرغم من كونه ساخراً، في أي وقت قريب.
لذلك سيفشل بايدن في تحقيق وعوده
ما يعنيه كل هذا بالنسبة لبايدن هو أنه من غير المرجح أن يحرز تقدماً كبيراً في ما كان أحد المواقف الرئيسية في السياسة الخارجية التي اتخذها خلال الحملة الانتخابية. وهو الموقف الذي حظي بشعبية كبيرة بين أنصاره.
وسنتطرق لاحقاً إلى ما يمكن أن يعنيه هذا الفشل بالنسبة لقدرة بايدن على التمسك بالتقدميين الذين يشكلون جزءاً أساسياً من ائتلافه. في الوقت الحالي، يكفي أن نقول إنه كلما استمرت حروب الولايات المتحدة إلى الأبد -واستمر الأمريكيون في العودة إلى منازلهم في أكياس الجثث- ارتفع السعر الذي قد يدفعه بايدن. قد تكون مخاطر تقليص النفقات على الأمن القومي خطيرة، ولكن قد تكون كذلك المخاطر السياسية لعدم القيام بذلك.