مرَّ أسبوعان منذ بدء الصراع العسكري الأخير أديس أبابا وتيغراي بين القوات الإقليمية والجيش الفيدرالي الإثيوبي. ويخشى بعض المحللين تفاقم الصراع أكثر فأكثر مع مرور الوقت، ما قد يُفضي إلى تفكك البلاد، ويأتي بتداعيات اقتصادية وسياسية شديدة الوطأة على جميع دول القرن الإفريقي. لكن، وعلى أهمية ذلك، فإن الأسباب الأساسية للصراع يُساء فهمها.
إذ ينزع المراقبون والمحللون الخارجيون إلى تتبع السبب الذي يبدو أقرب للوهلة الأولى، وهو أن الأمر مرجعه الخلاف الأخير بين زعماء الإقليم والحكومة الفيدرالية -التي يقودها رئيس الوزراء الحائز على جائزة نوبل للسلام أبي أحمد- فيما يتعلق بدستورية قرار البرلمان بتأجيل الانتخابات العامة والإقليمية في إثيوبيا بسبب جائحة كورونا. فقد أجرى زعماء تيغراي الإقليميون انتخابات إقليمية في تحدٍّ لهذا القرار، لتسفر تلك الانتخابات عن فوز "جبهة تحرير شعب تيغراي" بجميع المقاعد، قبل أن يعلن البرلمان العام للبلاد لاحقاً أن تلك الانتخابات ونتائجها باطلة وملغاة، بحسب تقرير لمجلة Foreign policy الأمريكية.
يذهب محللون آخرون إلى أن الاختلافات الأيديولوجية المهيمنة بين أبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي هي المصدر الرئيسي للخلاف. ومع ذلك، فإن هذه الحجج لا تفسر السبب وراء تحول اختلافات كتلك إلى مواجهة عسكرية مفتوحة. وهي عاجزة عن التفسير، لأنها على الحقيقة ليست الأسباب الكامنة وراء هذا الصراع على الإطلاق.
ليست السياسة وحدها السبب!
إن هذه الحرب في حقيقتها هي معركة للسيطرة على اقتصاد إثيوبيا ومواردها الطبيعية ومليارات الدولارات التي تتلقاها البلاد سنوياً من المانحين والمقرضين الدوليين. فالوصول إلى تلك الثروات يقع بحكم الوظيفة في يد من يرأس الحكومة الفيدرالية، التي كانت تسيطر عليها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لما يقرب من ثلاثة عقود قبل أن يتولى أبي أحمد السلطة في أبريل/نيسان 2018، بعد احتجاجات واسعة النطاق ضد الحكومة التي كانت تقودها جبهة تحرير تيغراي.
بعبارة أخرى، هذا ليس صراعاً حول من يحكم تيغراي، وهي منطقة صغيرة لا يمثل سكانها سوى 6% من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 110 ملايين نسمة، إنها معركة حول من يملك زمام السيطرة على اقتصاد البلاد، وهي غنيمة كانت في حيازة زعماء تيغراي الإقليميين في وقت من الأوقات، وهم عازمون على استعادتها بأي ثمن.
ظلت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هي القوة المهيمنة على السياسة الإثيوبية لما يقرب من 30 عاماً، إذ بعد أن أطاحت الجبهة بالحكومة العسكرية للديكتاتور منغستو هيلا مريام في عام 1991 في كفاح مسلح طويل الأمد إلى جانب جبهة التحرير الشعبية الإريترية، انفصلت إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993، وحكم إثيوبيا زعيم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي السابق، رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي، البلادَ بقبضة من حديد، حتى وفاته في عام 2012.
وإضافةً إلى المدير العام الحالي لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الذي كان أيضاً عضواً في قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وشغل منصب وزير الصحة في إثيوبيا لسنوات عديدة تحت حكم ميليس، فإن جميع رؤساء أجهزة الاستخبارات والقادة العسكريين في البلاد، قبل صعود أبي أحمد إلى السلطة، جاؤوا من جبهة تحرير تيغراي أو كانوا أعضاء في الجناح العسكري للجبهة أثناء فترة الكفاح المسلح ضد منغستو، وبعد وصول الجبهة إلى السلطة، حلّت الجيش الإثيوبي تماماً واستبدلت بقواته قيادات وقوات تنتمي إلى إقليم تيغراي، ما ضمن لها السيطرة على الجيش طوال تلك السنوات.
وبالطبع، جاءت على إثر القوة السياسية والعسكرية المتغلبة لجبهة تحرير تيغراي الهيمنةُ الاقتصادية على البلاد، فقد مكّنت تلك القوة قادةَ الجبهة من السيطرة الكاملة على اقتصاد البلاد ومواردها الطبيعية –أراضيها في المقام الأول- علاوة على تدفقات المساعدات والقروض.
نهر المساعدات الذي لا ينضب
ويكفي الإشارة إلى أنه في السنوات الأخيرة، تلقت إثيوبيا، في المتوسط، نحو 3.5 مليار دولار سنوياً من المساعدات الخارجية وحدها، وهي التدفقات التي كانت تمثل نحو نصف الميزانية العامة للبلاد خلال سنوات ميليس الأخيرة. كما حصلت الحكومات التي قادتها جبهة تيغراي على مبالغ كبيرة من القروض من دائنين من القطاع الخاص وحكومات أجنبية، خاصة الصين، والتي كانت قد وصلت إلى 60 % من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عندما تولى أبي أحمد السلطة.
زاد على ذلك أن الدستور الذي قدمته الحكومة بقيادة جبهة تيغراي في عام 1994، والذي لم يسمح سوى بالملكية العامة للأرض، أعطى في الوقت نفسه المسؤولين الحكوميين حق التصرف غير المقيد في موارد الأراضي الوفيرة في الأجزاء الجنوبية من البلاد، لا سيما في منطقة بني شنقول قماز ومنطقة جامبيلا، ليتجه هؤلاء إلى تأجير تلك الأراضي لمستثمرين أجانب ومحليين بعقود إيجار طويلة الأجل، ويكدّسوا من خلال ذلك مليارات الدولارات. ومن الأدلة على ذلك، ما تشير إليه بيانات لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، من أنه بحلول يناير/كانون الثاني 2011، كانت الحكومة الإثيوبية قد أجّرت 3.6 مليون هكتار (نحو 9 مليون فدان) من الأراضي، وهي مساحة تعادل مساحة هولندا تقريباً، لمستثمرين أجانب.
كما تمكنت الجبهة من السيطرة فعلياً على جميع قطاعات الاقتصاد الإثيوبي بواسطة شبكة الشركات التابعة من الباطن لتكتلها الاقتصادي الضخم، المعروف باسم "صندوق الهبات لإعادة تأهيل تيغراي" (EFFORT)، الذي يعد أكبر تكتل اقتصادي في البلاد ويتمتع مسؤولوه حتى الآن بوصول كبير إلى قروض القطاع المالي الذي يسيطر عليه البنك التجاري الإثيوبي المملوك للدولة وبنك التنمية الإثيوبي.
ولم تقتصر هيمنة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على الاقتصاد، فقد تدخلت تدخلاً مباشراً في اختيار زعماء الطوائف الدينية الرئيسية في البلاد، في نوع من فرض الرقابة الاجتماعية، وهكذا جاء بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية من تيغراي، كما تدخلت الجبهة في اختيار قيادات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في إثيوبيا، ما أفضى إلى احتجاجات واسعة النطاق للمسلمين في جميع أنحاء البلاد في عام 2012.
مدفوعة باستثمارات ضخمة في البنية التحتية وقطاعي التعليم والصحة، وبتمويل يعتمد في المقام الأول على المساعدات والقروض الأجنبية، أشرفت حكومات الجبهة بقيادة ميليس زيناوي، على تحقيق تقدم اقتصادي كبير في البلاد على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود تولت فيها السلطة. لكن، إلى جانب ذلك، كان النظام استبدادياً، وكثيراً ما سجن السياسيين والصحفيين المعارضين واستخدم جيش البلاد وقوات الأمن لقمع الاحتجاجات المناهضة للحكومة.
لكن، وعلى الرغم من علم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بسجل الحكومة السيئ في مجال حقوق الإنسان، فإن التقدم الاقتصادي الذي رأوه والدور الرئيسي لإثيوبيا في محاربة مسلحي حركة "الشباب" في الصومال المجاور جعلهم مترددين حيال الضغط على حكومات تيغراي لإجراء إصلاحات ديمقراطية، حتى عندما فتحت قوات الأمن الحكومية النارَ على المتظاهرين وقتلت مئات منهم في أديس أبابا في عام 2005، على إثر احتجاجات على نتائج انتخابات كانت الحكومة قد زعمت أنها فازت بها رغم اتهامات التزوير.
حين فقدت تيغراي السيطرة
كان من الواضح لسنوات عديدة أن الهيمنة السياسية لجبهة تيغراي لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. ومع حلول عام 2018، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في منطقتي أوروميا وأمهرة، وهما موطن أكبر مجموعتين عرقيتين في البلاد، لتنتهي بإجبار التحالف الحاكم بقيادة جبهة تيغراي، وحليفه وقتها "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية"، على استبدال رئيس الوزراء آنذاك هايلي مريام ديسالين، الذي تولى الحكم بعد وفاة ميليس زيناوي في عام 2012.
حدث هذا عندما قرر قادة حزبين في التحالف الحاكم الذي كانت تقوده جبهة تيغراي، وهما "حركة أمهرة الديمقراطية الوطنية" (ANDM) و"المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو" (OPDO)، اللذان كان يضطلعان بدور الغطاء الذي تدير جبهة تحرير تيغراي الأمورَ من ورائه، التحالف سراً وتوحيد قواهما لكسر هيمنة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بالتصويت لأبي أحمد قائداً للتحالف الحاكم، وهي خطة لم تتوقعها قيادة جبهة تيغراي ولا يبدو أنها قد تغفرها لهم.
منذ وصول أبي أحمد إلى السلطة في 2018، شكّلت الإدارة الفيدرالية الجديدة لأبي أحمد تهديداً مباشراً لهيمنة "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" طويلة الأمد على إثيوبيا ككل، من خلال العمل على قصر نطاق نفوذها على منطقة تيغراي الصغيرة فحسب.
ومضى أبي أحمد إلى تنفيذ إجراءات اقتصادية مهمة تهدد الهيمنة الاقتصادية للجبهة، على رأسها خطة إدارته لخصخصة شركة الاتصالات الإثيوبية "إثيو تيليكوم" المملوكة للدولة، ومؤسسة السكر الإثيوبية، إضافة إلى شركات قطاع الطاقة، التي تبلغ قيمة أصولها ما يزيد على 7 مليارات دولار.
وأخيراً، أدخلت الحكومة أوراق عملات جديدة، صرّح أبي أحمد بأنها مصممة لمكافحة الفساد والتهريب، فيما أشار بعض المراقبين إلى أن هدفها الأساسي السيطرة على حركة الأموال خارج النظام المالي وتلك التي يحتفظ بها مسؤولون حكوميون سابقون وكياناتهم الاقتصادية وتشتبه السلطات في تورطها في أعمال تجارية غير مشروعة وغيرها من الأنشطة المخالفة للقانون.
أدت إصلاحات أبي أحمد إلى تقليص نفوذ الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في مختلف القطاعات، الأمنية والاقتصادية والسياسية، ما أقنع قادة الجبهة بأن استمرار أبي أحمد يشكل تهديداً خطيراً لهيمنتهم طويلة الأمد على القوات المسلحة والاقتصاد الإثيوبيين. ومن ثَم قرروا التصرف لاستعادة السيطرة.
فمنذ أن فقدت الجبهة سيطرتها على الحكومة الفيدرالية، ارتفعت وتيرة النزاعات العرقية في جميع الولايات الإقليمية، باستثناء إقليم تيغراي، إلى حد كبير. وشيئاً فشيئاً، بدا أن عديداً من الهجمات التي اشتعلت في مناطق المسيحيين الأرثوذكس والأمهرة الذين يعيشون في جنوب البلاد وحرق المنازل والكنائس والمحال التجارية، قد تم تنظيمها وتمويلها من قِبَل أولئك الذين خسروا نفوذهم بعد صعود أبي أحمد إلى السلطة والإصلاحات التي يجريها. وهناك إجماع ساحق على أن قادة الجبهة هم أكبر الخاسرين من إصلاحات أبي أحمد، وهم في الوقت ذاته، من يملكون القدرة على التخطيط وتنفيذ هجمات كهذه، من خلال توظيف القوة المالية والشبكة الأمنية التي بنوها على مدى ثلاثة عقود من الهيمنة السياسية في البلاد.
ذريعة تأجيل الانتخابات
مسار الأحداث يجعل من الجليّ أن الصراع الحالي لا يدور حول مَن يحكم إقليم تيغراي، لأن تأجيل الانتخابات العامة والإقليمية أدى إلى تمديد فترة السلطتين التشريعية والتنفيذية لجميع الحكومات الإقليمية في البلاد، ومنها إقليم تيغراي، الذي ما زالت تحكمه الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. كما أنه ليس صداماً بين الفيدراليين والوحدويين، لأن النظام الفيدرالي في إثيوبيا لا يزال على حاله.
واقع الأمر أن جوهر الصراع المحتدم حالياً هو الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي يقوم بها أبي أحمد ووتيرتها التي لا هوادة فيها، وهي كلها خطوات يرى قادة جبهة تيغراي أنها تهدد الهيمنة الاقتصادية والسياسية التي تمتعوا بها لزمن طويل والتأثير الكبير الذي ما زالوا يتمتعون به عبر مفاصل الحكم في إثيوبيا.
هذه الهيمنة هي أمرٌ تبدو جبهة تحرير تيغراي عازمةً على القتال من أجل الحفاظ عليها، وهو ما يكشف عنه التصعيد الأخير الذي وصفه مسؤول كبير في الجبهة بأنه "ضربة استباقية" ضد القيادة الشمالية للجيش الفيدرالي، ما أدى إلى اندلاع الصراع الحالي. لكن الخطر المحدق الآن هو أن المقاومة المستمرة والماضية قدماً في عنادها وتجاسُرها لجبهة تحرير تيغراي قد تجعل إصلاحات أبي أحمد السلمية مستحيلة، وهو ما قد يجعل الانتقال العنيف أمراً لا مفر منه.