يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحويل الانتخابات الأمريكية الحرة والنزيهة إلى فوضى واسعة من المعلومات المضللة والمزاعم القانونية الزائفة والهجمات التي لا أساس لها على قواعد الديمقراطية في البلاد، كما تقول وكالة Associated Press الأمريكية.
إذ يبدو أن حالة الفوضى المتفشية والاضطراب المهيمن الناتجة عن ذلك لم تكن نتيجةً ثانوية لاستراتيجية ترامب التي اتبعها بعد هزيمته أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن، بل إن الفوضى والاضطراب هي عينها الاستراتيجية المرجوة.
سخط وشك سيمزّق الأمة الأمريكية
وهكذا مهّدت هجمات ترامب العاصفة على الانتخابات الطريقَ له لإثارة السخط والشك بين مؤيديه الأشد ولاءً له، ما ترك لدى كثيرين منهم انطباعاً باطلاً بأن مرشحهم وقع ضحية لانتخابات تلبّسها التزوير. وفي حين أن ذلك لن يفضي إلى إبقاء ترامب في منصبه –في كل الأحوال سيؤدي بايدن اليمين في 20 يناير/كانون الثاني- فإن تلك الدعاوى، مع ذلك، يمكن أن تقوّض جهود الرئيس الجديد الرامية إلى توحيد الأمة الممزقة، كما أنها تمثل وقوداً لترامب في مساعيه التالية، سواء أكان ذلك العودة إلى البيت الأبيض مرة أخرى في عام 2024، أو كان التأسيس لمشروع إعلامي رفيع المستوى.
تعليقاً على الموقف، يقول جود جريج، الحاكم الجمهوري السابق والسيناتور الجمهوري لولاية نيوهامبشاير: "الأمر كله يتعلق بالحفاظ على كبريائه ومظهره. إنه يجمع أموالاً طائلة، وهو ينوي استخدامها".
استراتيجية ترامب تنجح بالفعل
وها هي آثار استراتيجية ترامب بدأت في الظهور بالفعل، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة مونموث ونشرت نتائجه يوم الأربعاء 18 نوفمبر/تشرين الثاني، أن 77% من مؤيدي ترامب يقولون إن فوز بايدن بالانتخابات كان بسبب الاحتيال والتزوير، رغم كل الأدلة الدامغة على خلاف ذلك.
والآن، بعد أكثر من أسبوعين من يوم الانتخابات لا يزال نهج ترامب صادماً وغير مفاجئ في الوقت نفسه، فهو من جانب يرقى إلى مستوى هجومٍ غير مسبوق على انتخابات ديمقراطية من قبل رئيس أمريكي في منصبه، هجوم التزم الحزب الجمهوري الصمتَ حياله، وامتنع إلى حد كبير عن إدانته، لكنه من جانب آخر، هو بالضبط السيناريو الذي أمضى ترامب معظم عام 2020 في وضع الأساس له، لاسيما ادعاءاته التي لا أساس لها، ولها منطق بأن بطاقات الاقتراع عبر البريد ستكون عرضة لعمليات احتيال نظامية، إذ لم يكن ذلك صحيحاً في أي وقت من الأوقات، لا قبل عام 2020 ولا في هذه الانتخابات.
في ضوء ذلك، يقول تيم باولنتي، الحاكم الجمهوري السابق لولاية مينيسوتا، إن "رد فعل ترامب لا ينبغي أن يمثل صدمة لأحد، فقد أخذ يؤسس لذلك قبل الانتخابات بفترة طويلة وهو استمرار لأسلوبه المعتاد بإعلان النصر، بغض النظر عن الحقائق الفعلية".
والحقائق في هذه الحالة ليست محل نزاع
فقد تفوق بايدن على ترامب بفوارق مريحة في ولايات حاسمة رئيسية، منها ميشيغان وبنسلفانيا، متجاوزاً عتبة 270 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي اللازمة للفوز برئاسة البيت الأبيض وحائزاً نحو 80 مليون صوت على مستوى البلاد، وهو رقم قياسي غير مسبوق. علاوة على أن مسؤولي الانتخابات الفيدراليين والمحليين أعلنوا أن المنافسة خلت من أي تزوير على نطاق واسع، وذهب بعضهم إلى حد وصف سباق 2020 بأنه الانتخابات الأشد تأميناً في تاريخ الولايات المتحدة.
ومع ذلك، كان رد ترامب على ذلك بإقالة مدير وكالة الأمن الإلكتروني وأمن البنية التحتية، كريس كريبس، كبير مسؤولي تأمين الانتخابات في البلاد، الذي أكد مراراً نزاهة انتخابات 2020.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فالتصريحات الموثوقة من كريبس وغيره من مسؤولي الدولة في جميع أنحاء البلاد لم تجد شيئاً في ردع ترامب عن الإصرار دون دليل على أن القوى الديمقراطية تآمرت لتزوير الانتخابات ضده. وهكذا رفض الإقرار رسمياً بهزيمته أمام بايدن، وعرقل وصول الرئيس المنتخب إلى كل شيء، بداية من معلومات الأمن القومي وحتى المخططات الخاصة بإطلاق الحكومة للقاح المضاد لفيروس كورونا، الذي على الأرجح سيحدث في عهد بايدن.
البحث عن احتمالات الفوز لم يعد أمراً مرجواً بالنسبة لترامب
وطوال الوقت، حاول ترامب وحلفاؤه رفع مزاعمه للتداول أمام المحاكم. وخرج مشرعون جمهوريون بارزون، على رأسهم زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، ليقول إنه ينبغي إعطاء ترامب فرصة لمتابعة جميع المسارات القانونية المتاحة. ومع ذلك فإن الواقع يأتي بإغلاق سريع لتلك المسارات، حيث يرفض القضاة في جميع أنحاء البلاد الدعاوى القضائية المرفوعة واحدةً تلو الأخرى.
غير أنه من جهة أخرى، يعترف بعض حلفاء ترامب في السر بأن استخدام المحاكم لنقض انتصار بايدن ليس هو الهدف الرئيس من جهودهم، كما أنهم لا يرون أي طريق حقيقي لإقناع المجالس التشريعية في الولايات التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري بتصويت من شأنه الانقلاب على إرادة الناخبين، حتى وإن تحمس بعض مستشاري ترامب هذا الأسبوع عندما صوّت نائبان جمهوريان في ميشيغان ضد التصديق على فوز بايدن الساحق في مقاطعة واين.
حقيقة الأمر أن الهدف ليس إلغاء نتائج الانتخابات، يقول حلفاء ترامب إن الهدف هو العمل على الحفاظ على مؤيدي الرئيس الأشد ولاء في حالة مشاركةٍ وتحفز وتأهب لأي شيء قد يسعى إليه ترامب بعد تركه لمنصبه، حتى وإن عنى ذلك تركهم مضلَّلين بشأن حقيقة ما وقع وأبانت عنه الانتخابات.
ترامب طمس الحقيقة بالوهم
من جهة أخرى، لطالما استطاب لترامب طمس الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والوهم والاستفادة من التشوّش الناجم عن ذلك. ولم تنجح رئاسته في أي شيء قدر نجاحها في حشد هذه الاتجاهات وتشجيعها، ويكفي دليلاً على ذلك النظر إلى الطرق التي ساعد بها الحزب الجمهوري ووسائل الإعلام الموالية له في الترويج لروايته للأحداث، حتى عندما تكون مزيفة بلا شائبة نزاع.
وقد استمرت هذه الديناميكيات نفسها تعمل عملها في دعم ترامب خلال فترة ما بعد الانتخابات. حتى إن بعض وسائل الإعلام الصغيرة ذات الاتجاه المحافظ رفضت القبولَ بفوز بايدن، والأدهى أنها شهدت نمواً لجمهورها نتيجة لذلك. كما ساعد معظم قادة الحزب الجمهوري في توفير غطاء لترامب من خلال امتناعهم عن الإقرار علناً بفوز بايدن، رغم أن كثيرين منهم يقرون بذلك ويفعلونه في الأحاديث الخاصة.
لكن ثمة استراتيجية خاصة للمشرعين الجمهوريين من وراء ذلك، فأغلبية الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ معلقةٌ في انتظار انتخابات الإعادة في ولاية جورجيا، في يناير/كانون الثاني، ويرى بعض استراتيجيي الانتخابات الجمهوريين أن قاعدة ترامب المدفوعة بمزاعم الاضطهاد هي مفتاح نجاح الحزب هناك. وهم سيدلون بأصواتهم لانتخابات مجلس الشيوخ واضعين نصب أعينهم الثأر من هزيمة ترامب في انتخابات يعتبرونها "مزورة"، لكبح جماح بايدن والسيطرة عليه بأغلبية للحزب الجمهوري في المجلس.
مع ذلك، يرى آخرون أن رد فعل الحزب الجمهوري ليس إلا إشارة إلى أنهم يحاولون ببساطة اجتياز الأسابيع الأخيرة من رئاسته دون وقوع اضطرابات كبيرة، حتى وإن عنى ذلك السماح بمزيد من الانتشار للمعلومات المضللة حول العملية الانتخابية.
وعن تلك السياسة، يقول مايك مورفي، الاستراتيجي الجمهوري المخضرم الذي دعم بايدن في الانتخابات: "إنها سياسة متزمتة وأنانية. إنهم لا يعتقدون أن الضجيج يمثل تهديداً فورياً لهم، لذا فهم ينتظرون خروجه". وفي إدانة لاذعة لحزبه، تابع مورفي: "لقد ذهب الفيل الذي كان رمزاً للحزب الجمهوري، وحل محله دجاجة" تخشى إغضاب ترامب.