في العاشر من يوليو/تموز عام 1961، استدعى رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف كبار صانعي الأسلحة النووية في الاتحاد السوفييتي، وطلب منهم استئناف الاختبارات النووية على وجه السرعة. فبعد تعنيفه الرئيس الأمريكي الجديد الشاب كينيدي في مؤتمرٍ بفيينا، شهر يونيو/حزيران، كان خروتشوف في مزاجٍ جيد دفعه للرغبة في أن "يعرض للإمبرياليين ما يُمكننا فعله" وفقاً لأندريه ساخاروف.
وطيلة عامين، إبان انضمام بلاده إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تعليقٍ طوعي لنشاط الاختبارات النووية، عمل العلماء النوويون السوفييت -ومن بينهم "أبو القنبلة الهيدروجينية السوفييتية" أندريه ساخاروف– من أجل تطوير وصقل مفاهيم وتصاميم الأسلحة الجديدة كما تقول مجلة The National Interest الأمريكية. والآن بات عليهم تقديم نتائج كبيرة في وقتٍ قصير للغاية، إذ كان خروتشوف يُريد عرضاً سياسياً ضخماً يُبهر الغرب، لذا يُستحسن أن تسير الأمور على ما يرام.
القنبلة النووية الأكثر قوةً على الإطلاق
كان المؤتمر الـ22 للحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 يتطلّب حدثاً خاصاً، ولم تتضح تحديداً هوية صاحب فكرة القنبلة بقوة 100 ميغاطن -خروتشوف أم صانعو الأسلحة- لكن السلاح النووي الأكثر قوةً على الإطلاق كان يجب أن يجهز في غضون أربعة شهور فقط بأمر القائد الأعلى.
وظهرت هذه القنبلة الضخمة فقط بفضل امتلاك علماء السوفييت فكرةً جيدة عن عملهم. فكما أوضح كاري سوبليت من موقع Nuclear Weapons Archive: "يسهل افتراض أنّ القنبلة بقوة 100 ميغاطن كانت تصميماً متحفظاً للغاية، لم يُقدّم أي جديد باستثناء الحجم الهائل. والأسباب الرئيسية لهذا الاعتقاد هي جدول التطوير المضغوط بشدة، والمكانة الكبيرة للاختبار".
وكان للاختبار مكانة كبيرة بالفعل، إذ جاءت خطوة خروتشوف الثانية في الـ13 من أغسطس/آب عام 1961، حين بدأت ألمانيا الشرقية تنصيب جدار برلين. ففي الـ31 من أغسطس/آب، أعلن رئيس الوزراء عن القنبلة الضخمة الجديدة والإنهاء المفاجئ للتعليق الطوعي لنشاط الاختبارات النووية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، وأعقب ذلك باختبارٍ نووي في الغلاف الجوي اليوم التالي، وردّت الولايات المتحدة بالمثل في الشهر نفسه.
هكذا تم تصميمها على يد ساخاروف
إذ يُمكنك صنع قنبلة ضخمة للغاية بدون أي تقنيةٍ جديدة، عن طريق تجميع ثمانٍ أو أكثر من القنابل الهيدروجينية الأصغر، وجميعها بمجموعات من كبسولات الوقود النووي الحراري. وينتج عن ذلك سلاحٌ هائل الحجم، ربما لن يكون متطوراً، ولكنّه شديد القوة بالتأكيد، ويجب أن يكون قوياً بالطبع، فالفشل ليس خياراً متاحاً هنا.
حيث صُمِّم السلاح الضخم -الذي يتجاوز طوله السبعة أمتار وقطره نحو مترين مع كتلةٍ تصل إلى 27 طناً- وجرت هندسته وتصنيعه في وقتٍ واحد. وحدث التجميع واختبار المكونات داخل ورشةٍ مبنية فوق عربة سكة حديد مسطحة. وحين انتهى بناؤه، سُحِبَت القاطرة إلى مطار من أجل تحميلها داخل قاذفة قنابل توبوليف مُعدّلة خصيصاً من طراز Tu-95N.
وحتى تستطيع قاذفة القنابل الفرار من الانفجار بأمان كان يجب إبطاء سقوط القنبلة. وتطلّب إبطاء سقوط جسمٍ بحجم صندوق قاطرة، مليئة باليورانيوم والحديد على سرعات الطيران، أن يتم ربطه بمظلة هبوط ضخمة الحجم.
وفي الـ30 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، وتحت الأعين الساهرة عن بُعد لرئيس لجنة الحكومة اللواء نيقولاي فافيلوف وجمعٍ من الشخصيات البارزة على بعد 965 كيلومتراً، شقت قاذفة قنابل Tu-95N طريقها في اتجاه نوفايا زيمليا -الجزيرة الكبيرة المحاطة بالجليد في المحيط المتجمد الشمالي- ومعها مختبر أبحاثٍ محمول على متن طائرة من طراز Tu-16.
قنبلة القيصر.. رقم قياسي
وانفجرت قنبلة القيصر أو "إيفان الكبير" على ارتفاع ثلاثة كيلومترات عن الأرض، لكن نيرانها وصلت إلى الأرض تقريباً. وارتدت موجتها الانفجارية على سطح نوفايا زيمليا ليرتفع جسمها المتوهج بعرض ثمانية كيلومترات مرة أخرى إلى السماء. وسجلت أجهزة قياس الزلازل تأثيراً مساوياً لزلزالٍ بقوة خمس درجات. بينما انهارت المباني على بُعد 48 كيلومتراً، انكسر زجاج النوافذ على بُعد نحو 800 كليومتر.
وبعد اجتياز نقطة الصفر، قال أحد شهود العيان: "تعرّض سطح الجزيرة للتسوية والاكتساح والصقل ليصير أشبه بحلبة تزلج. وحدث ذلك للصخور أيضاً، كما ذاب الجليد وأصبحت حوافه وجوانبه لامعة. لم يوجد أثرٌ للتفاوت في مستويات الأرض… كان كل شيء في المنطقة مكسوحاً، ونظيفاً، وجافاً، وذائباً، ومنفجراً".
وقدّرت الوكالات الأمريكية حجم انفجار قنبلة القيصر بما يُعادل نحو 57 مليون طن من مادة التي إن تي -وهو الرقم القياسي العالمي الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. بينما قال العلماء السوفييت إنّه يُعادل 50 ميغاطناً فقط، لكن بلادهم ظلّت لسنوات سعيدةً بقبول الرقم الأمريكي الأعلى.
ساخاروف.. صاحب قنبلة القيصر أصبح يكافح ضد الأسلحة النووية
هل كانت قنبلة القيصر سلاحاً عملياً إذن؟ على الأرجح لا، فقد كانت فاعليتها العسكرية محل شك.
فبعيداً عن الهدف السياسي المُعلن لم تكُن قاذفة قنابل Tu-95N (وسيلة الاتحاد السوفييتي الوحيدة لإلقاء قنبلة القيصر) بمثابة منصة توصيلٍ عملية، إذ كانت مقاتلات الناتو قادرةً على ضرب الطائرة ثقيلة الحركة وهي في السماء، قبل أن يتسنى لها إسقاط القنبلة الضخمة. كما كانت الأهداف التي تستحق إلقاء قنبلة القيصر عليها في أوروبا تُحصى على صوابع اليد الواحدة، إذ تكفي قنبلة قيصر وحيدة لحرق ألمانيا الغربية بالكامل، إن استطاعت الوصول إلى هناك بالطبع.
يُستحسن ببعض الألعاب أن تظل داخل صناديقها، وقد رأى أندريه ساخاروف ذلك بعد أن شهد اختبار قنبلة القيصر، وصار لاحقاً معارضاً بارزاً في الاتحاد السوفييتي، ومن أشد مناهضي الأسلحة النووية. وهذا هو أكبر تأثيرٍ أحدثته قنبلة القيصر.