استضاف النظام السوري مؤتمراً فخماً في العاصمة دمشق الأسبوع الجاري، حول إعادة اللاجئين السوريين لبلادهم بعد أن فرّوا من الحرب في البلاد، والذين يقدر عددهم بأكثر من ستة ملايين لاجئ.
قال بشار الأسد للحضور إنّ أولئك اللاجئين مُنعوا من العودة بواسطة الدول الغربية التي دمّرت الاقتصاد السوري بالعقوبات، وعملت من أجل إبقاء اللاجئين في الدول المجاورة.
لكنّه تناسى السبب الرئيسي الذي يدفع الكثير من اللاجئين إلى القول إنّهم غير جاهزين للعودة: بشار الأسد نفسه. إذ يخشى غالبية اللاجئين العودة إلى أرض الوطن طالما أنه ما يزال الأسد وحكومته في السلطة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
لا يثقون في النظام
حيث قالت يسرا عبود (40 عاماً)، التي فرّت إلى لبنان بعد اندلاع الصراع عام 2011: "لا أثق في النظام، ولا بشار".
فمنذ بدء الحرب في سوريا واحتجاجات الربيع العربي التي دعت للإطاحة بالأسد، نزح أكثر من نصف سكان البلاد في زمن ما قبل الحرب، وتحوّلت أزمة اللاجئين فيها إلى واحدةٍ من أكثر القضايا الإنسانية إلحاحاً في الشرق الأوسط.
إذ جرى تسجيل أكثر من 5.5 مليون سوري كلاجئين بواسطة الأمم المتحدة، وغالبيتهم يعيشون في لبنان وتركيا والأردن. كما هاجر أكثر من مليون سوري إلى أوروبا، ويقول خبراء اللاجئين إنّهم لا يتوقّعون عودة أعداد كبيرة من النازحين إلى وطنهم إلّا في حال حدوث تغييرات جوهرية داخل سوريا نفسها.
والآن، يبدو أنّ الأسد قد أمّن كرسيه بعد أن خفّت وطأة المعارك الكبرى، لكن الهدوء النسبي لم يدفع بأعدادٍ كبيرة من اللاجئين إلى العودة، حتى رغم أنّ غالبيتهم يعيشون في فقرٍ مُدقع داخل بلدان تتمنى رحيلهم.
فمنذ عام 2016 لم يعُد سوى 65 ألف لاجئ في لبنان إلى سوريا، وفقاً للأمم المتحدة، بينما اختار أكثر من 879 ألفاً البقاء داخل البلد الذي يُعاني أزماته السياسية والاقتصادية الخاصة.
ويتّفق خبراء اللاجئين على أنّ غالبية النازحين يرغبون في العودة، ولكن لديهم عدة أسباب تمنعهم من ذلك.
فسوريا دولةٌ ممزقة، لا يحكم الأسد سوى جزء من أراضيها. ومدنها متضرّرة، مما يعني أنّ بعض اللاجئين لن تكون لديهم منازل ليعودوا إليها. كما أنّ انهيار اقتصادها، وعزوف العديد من الحكومات عن التعامل مع الأسد، هي أمورٌ حالت دون إعادة الإعمار على نطاقٍ واسع.
الخوف من الاعتقال
وعلاوةً على المخاوف المادية، فقد فرّ غالبية اللاجئين من العنف الذي يرتكبه نظام الأسد، ويخشون حال عودتهم الآن أن يتعرّضوا للاعتقال أو يُجبروا على التجنيد الإجباري في جيشه.
وحتى عام 2018 كان هناك 13 مليون سوري بين نازح داخل البلاد ولاجئ خارجها، وهو ما يمثل حوالي 60% من عدد السكان قبل الحرب، وهي نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل خلال العقود الأخيرة، بحسب مركز بيو للأبحاث.
هناك دلائل قوية أن العرب السنة الذين يمثلون الغالبية التقليدية للبلاد، قد فقدوا هذا الوضع، أو اقتربوا من ذلك على الأقل، والأخطر أن هناك مؤشرات قوية على أن هذا الأمر كان مقصوداً منذ بداية الثورة السورية.
فرغم أن العرب السنة يمثلون الأغلبية، فإنهم لم يكونوا يمثلون أغلبية كبيرة، الأمر الذي يعني أن قتل بضع مئات من الآلاف منهم، وتهجير بضعة ملايين كفيل بتغيير هوية البلاد، وتصبح البلاد معرضة لفقدان أغلبيتها العربية السنية، ويصبح الأقليات هم الأغلبية.
فالعرب السنة هم الضحية الأولى للتغير الديموغرافي في سوريا وفقاً لتقديرات جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة.
إذ انخفض عددهم بين عامي 2010 و2018 بنسبة 30%، لكن نسبتهم من إجمالي السكان انخفضت بنسبة 10.2%، وفقاً لتقديرات جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة.
اللافت أن عدد العلويين (الطائفة التي ينتمي لها الأسد) ارتفع عام 2018 مقارنة مع عام 2010 بنسبة 22%، وزادت نسبتهم إلى إجمالي السكان بنسبة 5.4%.
ولم تُناقَش أيٌّ من هذه القضايا خلال المؤتمر الذي امتد ليومين في سوريا حول عودة اللاجئين، والذي اختتم أعماله داخل دمشق يوم الخميس 13 نوفمبر/تشرين الثاني. وبدلاً من ذلك، أكّد المتحدثون وخطاب الفيديو الذي ألقاه الأسد على روايته بشأن الحرب، التي ألقى باللوم فيها على مؤامرةٍ دولية لإسقاط حكومته عبر دعم الجماعات الإرهابية.
كما رفضت وكالة اللاجئين بالأمم المتحدة الحضور، إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي التي وصفت المؤتمر بأنّه "سابقٌ لأوانه".
وفي بيانها، سردت الكتلة الأوروبية أسباب عدم قدرة اللاجئين على العودة بأمان، ومنها: الإخفاءات القسرية، والاعتقالات العشوائية، والتجنيد الإجباري، وسوء الخدمات أو انعدامها، والعنف الجنسي والجسدي، والتعذيب.
بينما أرسلت نحو 20 دولة ممثليها، ومنها: الصين، وروسيا، وباكستان، والبرازيل، والهند، وجنوب إفريقيا. لكن تلك الدول لا تستضيف أيّ لاجئين تقريباً.
ومن بين الدول الثلاث التي تضم الغالبية العظمى من اللاجئين، كانت لبنان هي الوحيدة التي أرسلت ممثلين عنها.
وأشار الحاضرون إلى الوجود الروسي القوي، الذي بدا في بعض الأحيان أنّه يفوق وجود النظام السوري كماً وكيفاً. إذ أجرى حراس الأمن الروس دورياتهم في مركز المؤتمر حاملين أجهزة الاتصال اللاسلكي، بينما حضر المسؤولون المدنيون والعسكريون الروس المؤتمر في الداخل.
وقال المحللون إنّ المؤتمر بدا وكأنّه مدفوعٌ بالحسابات السياسية والاقتصادية الروسية والسورية أكثر من القلق بشأن أوضاع اللاجئين.
وقد بذلت روسيا جهوداً كبيرة لضمان انتصار الأسد منذ تدخلها لمساعدة قواته عام 2015، وهو استثمارٌ لن يُؤتي ثماره إذا ظلّت سوريا في حالةٍ من الفوضى.
ويرى النظام السوري أنّ الترحيب بعودة اللاجئين بات وسيلةً لتجديد قواه، وربما تفتح الطريق أمام تحرير المساعدات التي تشتد الحاجة إليها.
ولكن ليس هناك ما يُشير إلى أنّ المؤتمر أثار أيّ حماسة في أوساط اللاجئين أنفسهم.
في حين تساءل مهند الأحمد، الذي فرّ إلى لبنان مطلع الحرب: "إذا كان النظام السوري يدعونا إلى العودة، فهل سيمنحني أيّ ضمانات بعدم اعتقالي وإجباري على الخدمة العسكرية؟ هل يستطيع النظام أن يضمن لي منزلاً، وطعاماً، وعملاً في سوريا؟".
هل يتحمَّل اللاجئون المسؤولية؟
يحاول بعض مؤيدي النظام وصم اللاجئين بأنهم تركوا ديارهم، وبالتالي يستحقون ما يجري لهم.
فكثير من مؤيدي النظام يتحدثون عن رفض إعادة اللاجئين لداخل البلاد، لأنهم تركوها في أوقات الأزمة وذهبوا إلى أراضي الأعداء.
في حين أن بعضاً من مؤيدي الثورة السورية ينتقدون اللاجئين لأنهم ساهموا في تحقيق هدف الأسد من تغيير هوية سوريا المذهبية والديموغرافية.
فر اللاجئون السوريون متبعين غرائزهم البشرية الطبيعية في البحث عن الأمن، كما فعل من قبلهم الفلسطينيون والأفغان والعراقيون والبوسنيون.
ولكن ما لم يكن يعلمه أغلب اللاجئين السوريين وهم يفرون لحماية حياتهم، أن النظام كان يتعمّد ممارسة التطهير الطائفي في أغلب مراحل الحرب السورية.
إيران ساعدت الأسد في عمليات التطهير الطائفي / مواقع تواصل
فتخويف السنة كان هدفاً مبكراً للنظام منذ مذبحة كرم الزيتون، التي وقعت في مدينة حمص ذات الغالبية السنية، والتي يقول كثير من السنة إن العلويين كانت لديهم رغبة في الهيمنة عليها.
وفي مناطق متعددة كان النظام يقوم بعمليات تطهير طائفي عقب طرد قوات المعارضة.
ويشير موقع جنوبية الشيعي اللبناني، إلى أن النظام السوري وحزب الله وغيرهما من الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت قيادة إيران قامت بحملات تطهير عرقي ممنهج في العديد من المناطق السورية، خاصة حول دمشق.
وسبق أن حذفت جريدة الأخبار اللبنانية الموالية لحزب الله، مقالاً للكاتب الأردني الراحل ناهض حتر، الصديق للنظام السوري، يقسم السوريين بين لاجئين ومقيمين، وقسمهم ما بين "إرهابيي ووطنيين وعبيد ومسلحين"، وهاجم اللاجئين معتبراً أن الأفضلَ بقاؤهم في الخارج، متحدثاً عن سوريا المفيدة، وقد بلغ من حدة المقال أن الجريدة حذفت المقال، لأنه فهم منه أنه يشكل عنصرية ضد اللاجئين، الذين ينتمي أغلبهم للطائفة السنية.
هذا ما حدث مع اللاجئين السوريين في لبنان الذين تقدموا بطلب العودة
لفهم طريقة تفكير النظام، لننظر لحالة اللاجئين السوريين الراغبين في العودة من لبنان، الدولة التي تستضيف 1.5 مليون سوري، وهي دولة صديقة للأسد مقارنة بتركيا أو أوروبا. إذ إن رئيسها العماد ميشال عون حليف للأسد وحزب الله هو الذي أنقذ الأسد من السقوط، ورغم ذلك ترفض الحكومة السورية باستمرار عودة اللاجئين السوريين، دون تقديم أي تفسير رسمي في العادة.
رغم أن وجود اللاجئين السوريين في لبنان يمثل حساسية طائفية بالغة للمجتمع المنقسم بين المسلمين والمسيحيين، كما أن مناهضة الوجود السوري قضية يثيرها بالأساس التيار الوطني الذي أسسه عون.
ولكن لم يستطع عون ولا صهره جبران باسيل ولا الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إقناع الأسد باستعادة اللاجئين السوريين، في وقت بات فيه لبنان على شفا مجاعة.
وسبق أن نفذت السلطات اللبنانية مبادرة لإعادة بعض اللاجئين السوريين، مع مراعاة أنها قامت على أساس أنه لا يحصل على حق العودة إلا أولئك الذين يسمح لهم النظام.
وقال معين المرعبي، وزير الدولة لشؤون النازحين في لبنان حتى يناير/كانون الثاني من هذا العام، إنهم لا يسمحون لأي شخص بالعودة دون موافقة من المخابرات (المخابرات السورية)، "هل من المنطقي أن يحتاج السوريون في لبنان إلى إذن للعودة إلى بلدهم؟".
وأضاف المرعبي أنه خلال فترة وجوده في منصبه، كان الفرق بين أرقام من تقدموا بطلب للعودة وبين أولئك الذين استطاعوا أن يعودوا في النهاية، هائلاً، مضيفاً: "لقد أخبرني مسؤولو الأمن العام (جهاز أمني لبناني محسوب على الشيعة ومقرب للأسد) أنه عندما أُرسلت قائمة تضم 5000 سوري، قُبل منهم ما بين 60 إلى 70 شخصاً في المتوسط".
كيف يشرعن النظام عملية تغيير ديموغرافيةِ سوريا؟
يمكن القول إن النظام انتهى تقريباً من عملية تطهير طائفي، ويقوم حالياً بتكييفها قانونياً لضمان عدم عودة اللاجئين للأبد، عبر مصادرة أملاك اللاجئين ومنعهم من المشاركة بأي انتخابات، وصولاً إلى إسقاط الجنسية عن اللاجئين السوريين.
فقد تقدَّم أحد أعضاء "مجلس الشعب" السوري منذ بضعة أشهر بطلب لمناقشة مسألة تجنيس تركيا لجزء من اللاجئين السوريين، الذين اتَّهمهم بأنهم "مرتهنون" لأنقرة، حسبما ورد في موقع "السورية نت".
ودعا العضو نبيل الصالح إلى طرح الموضوع في المجلس، والحديث عما وصفها بـ"النوايا المبيتة" خلف مسألة التجنيس، وتحدث عن تجنيس تركيا لقرابة 80 ألف سوري.
ويبدو حديث البرلماني السوري تمهيداً إلى إسقاط الجنسية عن اللاجئين السوريين، الذين حصلوا على الجنسية التركية، خاصة أنه ادعى أن غالبيتهم ينتمون إلى "بقايا العائلات العثمانية في سوريا".
ويأتي هذا ضمن مساعٍ متعدِّدة للنظام السوري لتبديد فرص عودة اللاجئين إلى بلادهم، وسَن عدد من القوانين التي تسهِّل الاستيلاء على ممتلكاتهم، إضافة إلى خططه الرامية إلى إسقاط الجنسية عن اللاجئين السوريين.
وطالب النظام النظام قبل عدة أشهر أكثر من 10 ملايين سوري ممن فرّوا من الحرب المستعرة في البلاد أن يتقدموا بإثبات ملكيتهم لمنازلهم، في موعد أقصاه أوائل مايو/أيار 2019، وإلا فإن الحكومة ستضع يدها عليها.
وأثار قانون الملكية هذا مخاوفَ واسعة النطاق لدى المواطنين السوريين الذين عارضوا بشار الأسد، من أنهم يواجهون خطر العيش في المنفى الدائم، وأن أشخاصاً آخرين ممن يُعتبرون موالين للنظام قد يُسمح لهم بالتوطين في مجتمعاتهم المحلية، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وبما أن غالبية اللاجئين النازحين داخلياً والمغتربين خارجياً ليسوا قادرين أو راغبين في العودة لإثبات ملكيتهم للممتلكات، فإن المحللين والمنفيين يقولون إن القانون، والمعروف باسم المادة 10، والإطار الزمني الضيق المحيط به، يُمكن أن يستخدم كأداة للتغيير الديموغرافي والأمن الاجتماعي.
ويشبه هذا القانون قانون أملاك الغائبين في إسرائيل، الصادر عام 1950، الذي يُجيز الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم.
ومن الأمور اللافتة أن تقارير إعلامية غربية أفادت بأن الأسد سبق أن وافق على خطة فرنسية للحل في سوريا، تتضمن إجراء انتخابات، ولكن الرئيس السوري اشترط عدم مشاركة اللاجئين في الانتخابات.
ويسعى النظام من كل ذلك، إلى تحقيق هدفين: الأول سياسي، وهو استبعاد اللاجئين وهم الفئة التي يفترض أنها الأكثر معارضة له.
والثاني طائفي، وهو إضعاف وزن الطائفة السنية، باعتبار أن غالبية اللاجئين منهم.