شكّل اغتيال الناشطة الحقوقية حنان البرعصي، المعروفة بـ"عزوز برقة"، وسط مدينة بنغازي، وفي وضح النهار، صدمةً لدى سكان وقبائل الشرق الليبي، الخاضع لسيطرة قوات خليفة حفتر، ودليلاً على الانفلات الأمني بالمنطقة.
وجاء اغتيال البرعصي (47 عاماً) بعد دقائق من بثها فيديو مباشراً على شبكات التواصل الاجتماعي، تهاجم فيه حفتر، ونجله صدام، وتطرح أسئلة حول ترقية الأخير إلى رتبة عقيد خلال أربع سنوات فقط، وعن الثروة التي أصبح يمتلكها خلال هذه الفترة.
وتحدَّثت وسائل إعلام محلية أن مجموعة ملثمة على متن ثلاث سيارات تتبع ميليشيا "اللواء 106″، الذي يقوده صدام حفتر، وأمام مرأى ومسمع من المارة، أطلقت 27 رصاصة، على الأقل، على جسد "حنان البرعصي" فأردتها قتيلة، بشارع عشرين، وسط بنغازي.
ليست الجريمة الأولى من نوعها
وأعاد اغتيال البرعصي الجرائم التي ارتُكبت خلال السنوات الأخيرة بحق ناشطات حقوقيات تجرّأن على انتقاد حفتر وميليشياته، على غرار اختطاف النائبة سهام سرقيوة من بيتها وأمام زوجها وابنها، في يوليو/تموز 2019، وسلوى بوقعيقص في يونيو/حزيران 2014.
لكن هذه المرة كانت ردود الفعل الداخلية والدولية قوية، سواء تنديد السفارات الأمريكية والبريطانية والألمانية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد هذه الجريمة، أو من طرف أعيان وشباب قبيلة البراعصة في مدينة البيضاء (شرق)، وحتى أنصار النظام السابق، فضلاً عن الحكومة الليبية في طرابلس، والهيئات والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
غضب محلي ودولي متصاعد ضد حفتر
وأمام هذا الضغط الدولي والداخلي، وبعد أكثر من 24 ساعة من صمت حفتر على هذا الاغتيال، خرج الناطق باسمه أحمد المسماري، مساء الأربعاء، ليعلن إدانة الانقلابي حفتر لهذه الجريمة خلال اجتماع مع قائد أركانه عبدالرزاق الناظوري وإبراهيم بوشناف وزير داخلية الحكومة الموازية غير المعترف بها دولياً.
ومتجاهلاً أن المتهم الرئيسي في اغتيال البرعصي هو نجله صدام وميليشيا 106، إلا أن حفتر زعم أن "لا أحد فوق القانون"، في محاولة لامتصاص غضب قبائل الشرق، وخاصة البراعصة، الذين أعلنوا أنهم "أولياء دم"، أي أنهم سيقتصون من قاتل "عزوز برقة".
لكن عدة ناشطين ليبيين مازالوا يتساءلون عن عدم القصاص إلى اليوم من خاطفي النائبة سرقيوة، والذين ارتكبوا عدة جرائم قتل وتعذيب واغتصاب واستيلاء على أراضي المواطنين، على غرار عائلة الحوتي في ضواحي بنغازي.
ويعكس هذا الوضع غياب المساءلة القانونية، والانفلات الأمني في الشرق الليبي الخاضع لسيطرة حفتر وأبنائه، دون وجود سلطة فعلية تستطيع محاسبتهم على جرائمهم. وتعزز هذه الجريمة موقف قادة "بركان الغضب" التابع للجيش الليبي، ورفضهم لأي دور يمكن أن يلعبه حفتر في مستقبل البلاد.
القاهرة تفتح قنوات اتصال مع الغرب الليبي
لكن حفتر لا يواجه فقط رفضاً من خصومه في الغرب الليبي، بل أيضاً فَقَدَ ثقة بعض حلفائه الدوليين، على غرار مصر، خاصة بعد فشله المتكرر في السيطرة على طرابلس، رغم الدعم العسكري الكبير الذي قُدِّم له.
ورغم أن مصر كانت ماضيةً في بناء مشروع تسليح قبائل الشرق الليبي، كبديل لفشل ميليشيات حفتر، فإن رفض الجزائر الصريح لهذا المشروع، وضغط الولايات المتحدة الأمريكية بقوة نحو الحل السياسي برعاية الأمم المتحدة، دفع القاهرة لإعادة ترتيب حساباتها.
وطالبت عدة شخصيات مثقفة موالية للنظام المصري، بضروة الانفتاح على "القبائل العربية في مدينة مصراتة" (200 كلم شرق طرابلس)، والتي تعتبر كتائبها القوة الرئيسية في الجيش الليبي الذي منع سقوط العاصمة في يد حفتر.
ويبدو أن صناع القرار في النظام المصري بدأوا يقتنعون بهذه المقاربة، مع تمسكهم بعدائهم ضد كل ما يرمز للإخوان المسلمين، ومن يسمونهم بـ"الميليشيات"، في إشارة إلى الكتائب التي أطاحت بنظام معمر القذافي، ووقفت في وجه "الثورة المضادة" التي يقودها حفتر.
ففي سبتمبر/أيلول الماضي، استقبلت القاهرة وفداً من الغرب الليبي مشكلاً من 9 أعضاء، 4 منهم من مصراتة، بهدف فتح قناة اتصال جديدة، بعد أن اهتزت صورتها في طرابلس إثر دعمها الفج لحفتر.
هل انتهى دور حفتر؟
كما أن ازدياد النفوذ الروسي في شرق ليبيا على حساب مصر، شجّع الأخيرة على توسيع أوراق لعبها، وعدم وضع كامل بيضها في سلة حفتر أو حتى عقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق (شرق).
وشكَّل الصعود المتزايد لفتحي باشاغا، وزير الداخلية في الحكومة الشرعية بطرابلس، فرصةً للقاهرة لجسّ نبض إمكانية التعاون معه. فباشاغا لعب دوراً مُهماً في إطلاق سراح عمال مصريين، اعتقلوا في غرب ليبيا، عقب اندحار ميليشيات حفتر إلى الشرق.
وهذه الحادثة منحت باشاغا مصداقية لدى السلطات المصرية، باعتباره رجل دولة قوياً، يمكنه ضبط تصرفات بعض المجموعات المسلحة غير المنضبطة.
ناهيك عن تبنّيه مشروع "تفكيك وإعادة دمج" المسلحين في المؤسسات الأمنية والعسكرية، بدعم من القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، وهو ما يتقاطع مع دعوات القاهرة لحلّ مَن تسميهم بـ"الميليشيات".
لذلك فزيارة باشاغا إلى مصر، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ثم فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي، يوم 10 من الشهر ذاته، تأتي ضمن هذه السياقات. فضلاً عن رغبة القاهرة في أن يكون لها دور مؤثر في تشكيل المجلس الرئاسي المقبل.
إذ إن باشاغا مرشح لأن يكون رئيساً للحكومة المقبلة، أو رئيساً للمجلس الرئاسي، أو البقاء في منصبه وزيراً للداخلية على الأقل.
يأتي ذلك في ظل استعداد السراج للتنحي عن منصبه، بينما لا يحظى نائبه أحمد معيتيق (من مصراتة أيضاً) بدعم كافٍ من النافذين في المنطقة الغربية، رغم أن حفتر يفضله على باشاغا، بعد اتفاق النفط المثير للجدل الذي توصل إليه الطرفان.
لكن من المستبعد أن تستبدل القاهرة حفتر وعقيلة بباشاغا، لكنها قد تحاول إقناع الأخير بأن يكون للجنرال الانقلابي دور في المرحلة المقبلة، رغم تراجع أسهمه كثيراً، خاصة مع مقتل "عزوز برقة".