بغض النظر عمّن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، فإنَّ الديمقراطية الأمريكية لن تتعافى قريباً ممّا لحق بها من الأضرار التي تسبب بها دونالد ترامب.
على مدى العقد الماضي تابع باحثون في مجال الديمقراطية، لاسيما خلال الـ4 سنوات الماضية، التدهور التدريجي في جودة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية. بدأ هذا التراجع، المتأصل جزئياً في تعميق الاستقطاب العرقي والحزبي، قبل فترة طويلة من انتخاب دونالد ترامب رئيساً في عام 2016، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
لكن هذا الرئيس أضر بشدة بالمعايير وإلى حد ما بالمؤسسات الديمقراطية الأمريكية إلى درجة تجاوز بها أسلافه الـ44، إذ لا يوجد مثيل في تاريخ الرئاسة الأمريكية لثرثرته المستمرة بالأكاذيب والمعلومات المضللة واعتداءاته بلا هوادة على وسائل الإعلام والمحاكم والمعارضة السياسية وجهوده لتسييس مؤسسات الدولة ومطالبتها بالولاء الشخصي، فضلاً عن إساءة استخدامه لسلطته الرئاسية والتقديرية لتحقيق مكاسب سياسية ومالية وإيماءات تعاطفه ودعمه للجماعات العنصرية اليمينية المتطرفة.
الديمقراطية الأمريكية لن تتعافى قريباً من أضرار ترامب
مهما كانت النتيجة النهائية للانتخابات، فإن معظم دول العالم- وكذلك الولايات المتحدة- سوف تُذهل من حقيقة أنَّ ديماغوجياً شعبوياً وصديقاً للحكّام المستبدين في جميع أنحاء العالم قد حصل على عدد أصوات يفوق أي مرشح رئاسي في التاريخ الأمريكي، فيما عدا باراك أوباما عام 2008 وجو بايدن عام 2020.
سيكافح الباحثون والمحلّلون والدبلوماسيون الأجانب لسنوات كي يشرحوا كيف استطاع ترامب، في أعقاب أسوأ أداء في إدارة أزمة جائحة كورونا ومواجهة المرشح الديمقراطي الأكثر اعتدالاً والأقل استقطاباً على الإطلاق، الحصول على هذا القدر الهائل من التصويت الشعبي ولم يثنه، وفي أسوأ الأحوال، عن تحقيق الفوز الحاسم إلا فارق ضئيل في نتيجة تصويت المجمع الانتخابي.

أضر سلوك ترامب على نحوٍ خاص خلال حملته الانتخابية بالديمقراطية الأمريكية، لاسيما محاولاته السابقة للانتخابات لقمع الناخبين ومزاعمه الوهمية بأنَّ التصويت عبر البريد سيؤدي إلى حدوث عمليات تزوير. هبط الرئيس إلى مستوى متدنٍّ جديد ليلة الانتخابات عندما كرَّر تأكيده الكاذب على أنَّ هناك "عملية احتيال كبيرة على الشعب الأمريكي"، مُدّعياً أنَّه فاز في العديد من الولايات التي كانت لا تزال قيد الفرز (من ضمنها ولاية ميشيغان، التي خسرها وحُسمت لصالح جو بادين).
أعلن ترامب صراحةً فوزه بالانتخابات وتعهّد- في حال الخسارة- بالطعن في النتيجة أمام المحكمة العليا. تؤدي مثل هذه التصريحات- التي أدانتها دانا بيرينو، المُعلّقة بقناة "فوكس نيوز" الأمريكية ووصفتها بأنَّها "تصريحات غير مسؤولة للغاية"- إلى إثارة انعدام الثقة في العملية الانتخابية وتخاطر بإذكاء العنف.
تزايد نسبة من يبررون اللجوء للعنف
كشفت استطلاعات الرأي قبل الانتخابات عن تزايد نسبة الديمقراطيين والجمهوريين الذين يعتقدون أنَّ هناك "ما يبرر" استخدام العنف للدفاع عن قضيتهم أو للاحتجاج ضد الهزيمة الانتخابية. في ضوء ذلك، فإنَّ دونالد ترامب يلعب بالنار في سعيه لنزع الشرعية عن العملية الانتخابية.
لا يوجد ما يدعو إلى التوقع بأنَّ ترامب سيكون أقل سُمّية أو استقطاباً في حال فاز بولاية رئاسية ثانية. ومع ذلك، لن يداوي فوز بايدن بحد ذاته الجروح والندوب العميقة التي أصابت الديمقراطية الأمريكية في السنوات الأخيرة.
في النظام السياسي القائم على حزبين، يتطلب الأمر من هذين الحزبين تقليل الاستقطاب السياسي وتعزيز القواعد والمعايير الديمقراطية. لكن الحزب الجمهوري فقد تدريجياً إدراكه لهذه المعايير في ظل تكتيكات ترامب المتطرفة على نحو متزايد للتلاعب بتلك المعايير والقواعد لتحقيق مصلحته المباشرة، وقمع أصوات الأقليات العرقية، وتعيين قضاة موالين لضمان أفضلية للجمهوريين في المحكمة العليا. يُرجح أن يظل الحزب الجمهوري تحت تأثير شعبوية ترامب غير الليبرالية لبعض الوقت في المستقبل.
ظاهرة غير مسبوقة
يصعب عقد مقارنات مع تراجع الديمقراطيات الأخرى على مستوى العالم ولأنَّه لا توجد ديمقراطية ليبرالية ثرية ناضجة قد عانت من انهيار مؤسسي مماثل، لكن علامات الاضمحلال السياسي تبدو مألوفة ومثيرة للقلق بالنسبة للمراقبين والباحثين في مجال الديمقراطية، إذ تتمثّل في تنامي الاستقطاب وانعدام الثقة والتعصّب بين أنصار الأحزاب المتعارضة الرئيسية وحدوث تداخل بين الانتماءات الحزبية والهويات العرقية أو الدينية وعدم القدرة على صياغة تسويات سياسية عبر الانقسامات الحزبية لتنظيم استجابات سياسية فعّالة تجاه القضايا الوطنية. يعلم باحثو الديمقراطية إلى أين قادت هذه الاتجاهات في الماضي- إلى الانهيارات الديمقراطية في أوروبا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وفي أمريكا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية وإلى صعود الشعبويين الاستبداديين مؤخراً في دول مثل فنزويلا.
بالطبع، لا تُعد الولايات المتحدة وحدها في مواجهة تدهور ديمقراطي، فثمة ديمقراطيات قديمة العهد- مثل الهند- وإسرائيل- تواجه تحديات مماثلة.
وسائل التواصل الاجتماعي تتحمل المسؤولية
يشهد العالم موسم الشعبويين المستبدين والسخط الديمقراطي. تفاقمت المشكلة بسبب تطورات غير مؤاتية أضرّت بالديمقراطية في كل مكان بالعالم في الآونة الأخيرة، من ضمنها التأثير الوخيم لوسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتمد على المشاركات العاطفية، ومن ثمَّ تميل بطبيعتها إلى استقطاب المعلومات المضللة وإذكاء التوترات؛ وهناك أيضاً التقلبات التقنية والاقتصادية والبيئية المتعددة المتسارعة التي تهدد إحساس الناس بالذات والأمان؛ بالإضافة إلى صعود الصين وعودة روسيا إلى الظهور قوة استبدادية ترى ضرورة وجودية في إضعاف الديمقراطية وزعزعة الاستقرار؛ وسعي دولة كانت في العقود السابقة المدافع الرئيسي عن الديمقراطيات المحاصرة للتنصّل من مسؤوليتها العالمية– هذه الدولة هي الولايات المتحدة.
تشهد الولايات المتحدة حالياً أزمتها الديمقراطية الخاصة بها مع تآكل الغشاء الحامي لجوهر ديمقراطيتها- والمُتمثّل في تبني قيم التسامح المتبادل وضبط النفس والالتزام الراسخ بقواعد اللعبة الديمقراطية.
سواء لجأ ترامب المهزوم أو لم يلجأ إلى المحاكم أو الكونغرس لتغيير نتيجة المجمع الانتخابي، ستبقى الديمقراطية الأمريكية في أزمة خطيرة بقدوم الـ20 من يناير/كانون الثاني المقبل، والشعب الأمريكي هو الوحيد القادر على معالجة تلك الأزمة.