يقف العالم أجمع متابعاً الانتخابات الأمريكية الأخيرة ومنتظراً للنتيجة التي قد يطول انتظارها بسبب بطاقات التصويت المتأخرة، سواء كان التصويت بالبريد، أو تصويت الجنود والعسكريين من الجيش الأمريكي. ويعتبر الكثيرون أن عواقب الانتخابات الأمريكية تتخطى الشعب والحدود الأمريكية إلى كل شعوب العالم تقريباً، مما يعطي العديد من القوى الخارجية الدافع لمحاولة التأثير عليها وفقاً لمصالحهم، ولعل أكثر القوى الخارجية تأثيراً على الانتخابات الأمريكية وصعود دونالد ترامب هي روسيا، فوفقاً لتقرير هيئة الاستخبارات الأمريكية، فإن الكرملين قد قام بتدخلات واسعة للتأثير على نتائج الانتخابات ومساعدة دونالد ترامب للفوز بالرئاسة، وهو الأمر الذي وعد بوتين ساخراً بتكراره في انتخابات هذا العام.
ولكن كيف يمكن لبوتين التأثير على الانتخابات الأهم في العالم بدون أن يقوم بالتدخل بشكل مباشر ويظل قادراً على نفي كل الاتهامات الموجهة إلى نظامه في التدخل. سنستعرض في هذه المقالة أهم الأدوات والاستراتيجيات التي تملكها وتستخدمها روسيا للتأثير على مسار الانتخابات.
الجيش الإلكتروني الروسي يتلاعب بنتائج انتخابات العالم
تمتلك روسيا واحداً من أقوى الجيوش الإلكترونية أو السيبرانية في العالم، فالجيش الروسي السيبراني استطاع من قبل قطع الإنترنت عن دول بأكملها مثلما حدث في جورجيا في عام 2008 خلال الحرب، بالإضافة إلى انتهاكات سيبرانية أخرى تستهدف عادة التأثير على نتائج الانتخابات.
وتشير العديد من التقارير إلى وكالة أبحاث الإنترنت الروسية التابعة للكرملين
وتشمل قائمة ضحايا انتهاكات الجيش الإلكتروني الروسي الكثير من الدول والحكومات والسياسيين، من ضمنهم على سبيل المثال حملة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الذي قامت روسيا باختراق البريد الإلكتروني الخاص بحملته في عام 2017 ونشرت أكثر من 22 ألف بريد إلكتروني تتضمن بعض الفضائح التي ساعدت منافسته ماري لوبان في كسب الكثير من الأصوات على الرغم من انتصار ماكرون في النهاية بالانتخابات.
أما في الانتخابات الأوكرانية عام 2014 فقد نجح الجيش الإلكتروني الروسي في اختراق موقع الهيئة العليا للانتخابات ونشر خبر مفاده فوز مرشح اليمين المتطرف دميترو ياروش بالانتخابات. كما استطاع المخترقون التأثير على موعد إعلان النتيجة.
أما في بولندا فقد كشف تحقيق قام به موقع Avaaz عن أن روسيا استطاعت القيام بحملة نشر للأخبار الكاذبة استمرت لثلاث سنوات بين 2015 و2018 واستطاعت التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية البولندية في 2015.
وبعيداً عن الانتخابات فقد أثبت الجيش الإلكتروني الروسي أيضاً نجاحه في اختراق عدد من حكومات ومؤسسات بعض الدول على رأسها ألمانيا التي استطاع المخترقون تسريب بيانات حساسة من البرلمان الخاص بها ونشرها على موقع ويكيليكس في عام 2015، وكذلك قاموا بتنظيم اختراق ضخم ضد دولة إستونيا في عام 2007 استطاع شلّ الإنترنت الحكومي بعدما قاموا بإيقاف العديد من المواقع الإخبارية والحكومية وكذلك مواقع المؤسسات المالية كالبنوك والبورصة.
الجيش الإلكتروني الروسي في خدمة ترامب
أما في الولايات المتحدة، فقد قام بوتين بتوظيف الجيش الإلكتروني الروسي لمساعدة دونالد ترامب للفوز بالانتخابات في عام 2016، وقد عمل هذا الجيش على عدّة جبهات لمساعدة ترامب وهو الشيء الذي تكرر مرة أخرى خلال هذه الانتخابات.
وحارب الجيش الإلكتروني الروسي على جبهتين متوازيتين خلال عام 2016 لمساعدة ترامب، الجبهة الأولى كانت الهجوم المباشر على حملة هيلاري كلينتون والمؤسسات المساعدة لها وتسريب الإيميلات الخاصة بمدير حملتها وغيرها، والجبهة الثانية كانت عبر تضليل الرأي العام بالأخبار الكاذبة، سنستعرض هاتين الجبهتين، ونحاول رصد الاختلاف الذي حدث بين انتخابات 2016 والانتخابات الحالية.
الأخبار الكاذبة
"البابا فرانسيس يؤيد دونالد ترامب للرئاسة" و"طبيب يعلن وفاة هيلارى كلينتون دماغياً"، كانت هذه ضمن مئات من عناوين الأخبار الكاذبة التي انتشرت على الإنترنت قُبيل الانتخابات الرئاسية في عام 2016، بحسب ما نعرفه الآن من تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية حول تدخل روسيا للتأثير على الانتخابات الأمريكية شمل عشرات المواقع المزيّفة التي تدّعي أنها إخبارية، بالإضافة لآلاف الحسابات على شبكتي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر.
قام الجيش الإلكتروني الروسي -بحسب تقرير روبرت مولر الشهير- بدفع مئات الآلاف من الدولارات في الإعلانات على كل من فيسبوك وتويتر لنشر الأخبار الكاذبة عبر عدد كبير من الحسابات المزيفة، وقام عدد من أعضاء حملة دونالد ترامب بالترويج لهذه الحسابات المزيفة عبر إعادة تغريد ما يقومون بكتابته، فعلي سبيل المثال قام كل من إريك ترامب ودونالد ترامب الابن ابنا دونالد ترامب بإعادة تغريد عدد من الأخبار الكاذبة من حساب يسمى عشرة جمهوريين أو @TEN_GOP.
يختلف الأمر كثيراً في هذه الانتخابات، فبعد جلسات تحقيق ساخنة في الكونغرس قام كل من فيسبوك وتويتر على حد سواء بوضع معايير أقوى للحد من الأخبار الكاذبة، فلعلّك لاحظت أنه حتى الحساب الرسمي للرئيس الأمريكي الحالي لا يستطيع نشر أخبار كاذبة بدون تنويه على الأقل حول أن هذه الأخبار مزيفة.
ولكن لم يمنع هذا الأمر العملاء الروس من الترويج للأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة التي لا دليل عليها، ولكن هذه المرة توجهوا لأماكن أكثر إظلاماً على الإنترنت لنشر هذه الأخبار بعيداً عن مراقبة فيسبوك وتويتر. استخدم الروس منتديات مجهّلة الهوية لنشر ادعاءاتهم مثل منتديات 4Chan و8Chan وكذلك موقع ريديت.
أما عن شبكات التواصل الاجتماعي فقد توجهت الدعاية لمواقع أقل شعبية مثل موقع MINDS الشبيه بفيسبوك على سبيل المثال، والذي يمكنك ترويج المنشورات فيه وعمل إعلانات عبر العملات المشفرة بدون الكشف عن هويتك أو الدولة التي تعمل بها. ويسيطر على الموقع بشكل كبير أنصار نظريات المؤامرة من داعمي ترامب.
نظرية كيو المجهول QANON
بدأ الأمر بمنشور على موقع 4chan كتبه شخص مجهول أطلق على نفسه تصريح بدرجة كيو Q clearance. وهو نوع من التصريحات الذي يعطي لبعض العاملين في الوكالة الأمريكية الفيدرالية للطاقة ويمكن لأصحابه الاطلاع على بيانات حكومية سريّة وغير معروفة للعامة، وكتب هذا المستخدم في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017 منشوراً بعنوان "الهدوء الذي يسبق العاصفة".
في هذا المنشور قام كيو بوصف نظرية مؤامرة لا يوجد أية أدلة عليها يقول فيها إن الرئيس الامريكي دونالد ترامب يقوم بمحاربة شبكة ضخمة من السياسيين الأمريكيين الفاسدين ضمنهم هيلارى كلينتون وباراك أوباما وجو بايدن وغيرهم، ووفقاً للمنشور، فإن هذه الشبكة تقوم بالتخطيط لانقلاب عسكري على الرئيس الأمريكي بسبب اكتشاف الرئيس الأمريكي لكونهم يقومون بالتجارة في الأطفال واستغلالهم جنسياً.
بدأت النظرية في كسب الشعبية على موقع 4Chan وفى خلال أيام كانت قد انتقلت إلى موقع ريديت وتم فتح قسم في الموقع Subreddit خاص بها تحت اسم r/QAnon. وتحولت إلى حركة سياسية قائمة على نظريات المؤامرة لها مروجيها والمؤمنين بها حتى وصل الأمر وفقاً لموقع شبكة سي إن إن الإخبارية إلى أن هنالك 24 مرشحاً جمهورياً يؤمنون بالنظرية.
كيف استغلّت روسيا منعها من نشر الأخبار الزائفة على تويتر لصالحها؟
وفقاً لوكالة رويترز فإن الجيش الإلكتروني الروسي قام هنا بالعمل على الترويج للنظرية بأدوار صغيرة، ولكنها محورية للغاية، فوفقاً للباحثين فقد قامت روسيا بالترويج للنظرية على موقع يوتيوب ونشرها هناك عبر عدد من الفيديوهات. ولكن الدور المحورى الأكبر الذي قامت به روسيا كان على موقع تويتر، حيث قامت بنشر عدد ضخم من التغريدات التي حملت وسم Qanon وكذلك شعار الحركة #WWG1WGA وهو اختصار لعبارة "أينما ذهب واحد منّا ذهبنا جميعاً". الأمر الذي جعل تويتر يرد بشكل عنيف عبر حذف كل التغريدات في نهاية العام 2019.
حذف التغريدات هو ما جذب انتباه العامة إلى النظرية وكذلك أعطى المؤمنين بالنظرية الإحساس بالأهمية وأن النظرية حقيقية بالفعل، حيث تؤمن النظرية بأن موقع تويتر هو جزء من المؤامرة أيضاً، وحذف التغريدات كان بالنسبة لهم دليلاً على صحة النظرية. وبهذا استطاعت روسيا استخدام منعها من نشر الأخبار الزائفة لصالح ترامب مرة أخرى ولصالح ترويج الأخبار الكاذبة.
الهجوم السيبراني على الحزب الديمقراطي
أما بالنسبة للهجوم السيبراني، ففي عام 2016 قام الجيش الإلكتروني الروسي باختراقين هامين أثَّرا كثيراً على نتيجة الانتخابات، الاختراق الأول كان موجهاً ضد جون بوديستا مدير حملة هيلاري كلينتون الذي وقع ضحية رسالة مزيفة ادّعى خلالها المخترقون الروس أنهم من شركة جوجل، الأمر الذي جعل بوديستا يعطي كلمة السر الخاصة ببريده الإلكتروني مما مكّن المخترقين من نشر كافة الرسائل من على بريده الإلكتروني والتي انتهى بها الحال على موقع ويكيليكس، أما الاختراق الثاني فقد استهدف مؤتمر الحزب الديمقراطي نفسه وتمكنوا خلاله من الاطلاع على وثائق المؤتمر في اختراق استمر 11 شهراً بدون اكتشافه في الفترة بين يوليو/تموز 2015 ويونيو/حزيران 2016.
أما في هذا العام، فوفقاً لتقرير حصري نشرته وكالة رويترز منذ أربعة أيام يشير إلى أن المخترقين الروس قاموا بشنّ عدد من الهجمات السيبرانية على حملة جو بايدن وبعض المؤسسات الداعمة له.
واستهدف الاختراق عناوين البريد الإلكتروني الخاصة بالحزب الديمقراطي في ولاية كاليفورنيا (التي فاز بها دونالد ترامب بعكس التوقعات) وكذلك ولاية إنديانا. وكذلك بعض مراكز الأبحاث التابعة للحزب الديمقراطي في واشنطن ونيويورك مثل مركز كارنيغي الذي أكد محاولة الاختراق، ولكن لم يكشف التقرير عن مدى نجاح الاختراق في الحصول على أية معلومات قد تؤثر على نتائج الانتخابات.
خاتمة
أصبحت المساحة السيبرانية اليوم عاملاً مهماً في حسم الانتخابات الأمريكية، مما فتح المجال للقوى الخارجية للتدخل في الانتخابات والتأثير على سيرها، وقد لعب مركز أبحاث الإنترنت الروسي والتابع للكرملين دوراً كبيراً في التأثير على مسار الانتخابات في 2016 وقد حاول مرة أخرى التأثير على الانتخابات هذا العام، ولكن الأيام القادمة وحدها ستكشف عما إذا كان هذا التأثير قد نجح هذه المرة.