تحرَّكَ كيم جونغ أون من منصته الفاخرة، عابراً ميدان كيم إيل سونغ، حين انطلق أكبر صاروخ باليستي عابر للقارات في العالم، بعد وقتٍ قصير من منتصف ليلة 10 أكتوبر/تشرين الأول، كان ذلك دليلاً لا جدال فيه على تقدُّم كوريا الشمالية في التكنولوجيا العسكرية بشكل سريع لاسيما الأسلحة النووية والصواريخ.
وفي اليوم التالي، حين بُثَّت لقطاتٌ بارعة الدقة للعرض العسكري من بيونغ يانغ، تساءل مُحلِّلوا الأسلحة والمُحلِّلون الأمنيون من واشنطن إلى سيول، في حيرةٍ، كيف تمكَّنَت هذه الدولة الفقيرة والمعزولة من بناء أسلحة دمار شامل؟ حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
قصة تقدُّم كوريا الشمالية في التكنولوجيا العسكرية
وقال خبراءٌ إن العقود التي قضتها هذه الدولة في سريةٍ تامة قد حفرت فجواتٍ في المعرفة ببرامجها للأسلحة. غير أن كثيرين اتفقوا على أن السرعة التي تتقدَّم بها الأسلحة المحلية في كوريا الشمالية هي سرعةٌ فائقة، وهو تغيُّرٌ عن سنواتٍ كانت تعتمد فيها بيونغ يانغ على المساعدات الأجنبية.
وقال أنكيت باندا، من مؤسَّسة كارنيغي للسلام الدولي: "لا يشرع الكوريون الشماليون في اختراع العجلة من جديد إن لم يُضطروا لذلك".
وأضاف: "تبقى الحقيقة أنهم قادرون على تجاوز هذه العقبات التقنية، التي تبدو بصراحة مُذهِلة بالنسبة للكثيرين من خارج البلاد".
البداية من روسيا والاتحاد السوفييتي وباكستان
كشفت بياناتٌ من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن الصين، ثم الاتحاد السوفييتي سابقاً، وروسيا حالياً، صدَّروا الأسلحة إلى كوريا الشمالية على مدار أغلب النصف الثاني من القرن العشرين.
عُزِّزَت ترسانة الأسلحة والمُخطَّطات الكورية الشمالية من خلال تكنولوجيا المواد النووية في التسعينيات التي اكتسبتها كوريا الشمالية من شبكة الانتشار للفيزيائي الباكستاني عبدالقدير خان، بالإضافة إلى المعرفة المباشرة من العلماء الروس في الاتحاد السوفييتي السابق. مَنَحَ هذا بيونغ يانغ تقنياتٍ حيوية أعادت هندستها، وهيَّأت نظام كيم لينتهي أخيراً من الرادع الذي اعتقد أنه سوف يضمن أمنه.
ولجأوا إلى مصانع سرية والتعاون مع إيران
أمضت كوريا الشمالية أيضاً عقوداً في وضع الأساس من أجل تحسين قدراتها التصنيعية. وحدَّدَ تقريرٌ أصدره معهد ميدلبوري للدراسات الدولية سلسلةً من المصانع التي حاولت كوريا الشمالية إخفاءها لسنوات.
وتتضمَّن هذه المواقع عملياتٍ لإنتاج عربات وشرائح حاسوبية وآلاتٍ حاسوبية للتحكُّم العددي. وقال جيفري لويس وديف شميرلر، كاتبا التقرير، إن كلاً من هذه المُنتَجات "مرتبطةٌ ببرنامج الصواريخ بطريقةٍ أو بأخرى".
وحدَّدَت وزارة الخزانة الأمريكية صلاتٍ بين طهران وبيونغ يانغ. ووَصَفَ باندا العلاقة بأنها علاقة "ذهاب وإياب"، موضحاً: "هناك مناحٍ معينة ينتفع فيها الكوريون الشماليون من الإيرانيين. وهناك مناحٍ أخرى ينتفع فيها الإيرانيون من الكوريين الشماليين".
رعاية المواهب في العلوم والتكنولوجيا.. جامعة كورية تتفوق على هارفارد وأكسفورد
على مدار 10 سنوات، منع حظر الأسلحة شحن الأسلحة الكبيرة التقليدية إلى بيونغ يانغ. ولا يعتقد خبراء معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن كوريا الشمالية حصلت على الأسلحة الجديدة بطرقٍ سرية.
وقال جوست أوليمانز، الباحث المستقل الذي يركِّز على جيش كوريا الشمالية، إن العرض العسكري في أكتوبر/تشرين الأول لم يستعرض فقط التقدُّم في برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بل أيضاً العديد من جوانب المعدَّات العسكرية. ويبدو أن الكوريين الشماليين يطابقون التصاميم التي تستخدمها الجيوش الحديثة في جميع أنحاء العالم، من مُحرِّكات ومركبات نقل الصواريخ إلى مختلف الأسلحة التقليدية، بما في ذلك البنادق الهجومية المُزوَّدة بقاذف القنابل اليدوية.
وقال باندا إنه بينما لا تزال هناك "أجزاءٌ كثيرة مفقودة في القصة"، هناك تكريسٌ استراتيجي للمواد وتشديدٌ على رعاية المواهب العلمية والتكنولوجية منذ تولي كيم جونغ أون السلطة في 2011.
وذَكَرَ مارتين ويليامز، المُحلِّل لدى شركة 38 North الاستشارية في واشنطن، أن جامعة كيم تشيك للتكنولوجيا في كوريا الشمالية احتلَّت العام الماضي المرتبة الثامنة عالمياً في المسابقة الدولية للبرمجة لطلبة الجامعات، متفوِّقةً على جامعاتٍ غربية كبرى مثل أوكسفورد وهارفارد.
وقالت هاينا جو، المُحلِّلة بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بالمملكة المتحدة، إنه رغم تعهُّدات كيم جونغ أون بالسعي لمزيدٍ من التنمية الاقتصادية، لم تنخفض مستويات الإنفاق العسكري في ظلِّ قيادته.
الصلات الأجنبية تساعد على التملُّص من العقوبات
في الحالات التي لا يتمكَّن فيها العلماء والمهندسون العسكريون الكوريون الشماليون من الحصول على الموارد أو التقنيات التي يحتاجونها، تعتمد بيونغ يانغ على الدبلوماسيين عبر العالم وشركات الظل التجارية، التي تقع أغلبها في الصين، علاوةً على جيشٍ من المُخترِقين.
ووفقاً لوثائق تابعة للأمم المتحدة، تضطلع هذه الشبكات الأجنبية بدورٍ حاسمٍ في مساعدة النظام على التملُّص من عقوباتٍ واسعة المدى من الأمم المتحدة، لاسيما تلك العقوبات المُتعلِّقة بشراء التقنيات ذات الاستخدام المزدوج.
وأثارت لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، التي تراقب أنشطة كوريا الشمالية لخرق العقوبات، المخاوف مرةً أخرى هذا العام من أن مثل هذه الشبكات لا تزال تُستخدَم لشراء "عناصر خنق". وتشمل هذه العناصر مواد متخصِّصة وأجهزةً عالية التقنية "يمكن من خلالها استخدام آلات ومُكوِّنات معيَّنة في برنامج أسلحة الدمار الشامل".
قرصنة أم تبادل معلومات؟
تُولِّد السرعة التي يجري بها تطوير الأسلحة في كوريا الشمالية والانخفاض في معدَّلات الفشل في تجاربها الصاروخية علامات استفهام لا إجابة لها حول مدى قدرات كوريا الشمالية ومصدرها.
قال أوليمانز: "يميل المُحلِّلون إلى الاندهاش من التقنيات التي تُستخدَم وأعدادها الكبيرة".
وأضاف أنه يبدو أن هناك تفسيراتٍ بديلة. وأوضح: "إما أنهم لا يتلقون أيَّ تقنيات وأن كلَّ هذا سراب.. وإما أنهم بطريقةٍ ما يتجسَّسون على دولٍ أخرى.. ومن المُحتَمَل أنهم يحصلون على هذه التقنيات من خلال الاختراق أو برنامج ما لتبادل المعلومات بين كوريا الشمالية ودولٍ مثل الصين وروسيا".
لكن باندا قلَّل من شأن فكرة أن بيونغ يانغ تعتمد على شراء أنظمة أسلحة "بالجملة من مجرمين معدومي الضمير". وقال: "حتى إن حدثت مثل هذه الصفقات مرة ذي قبل، فهي لا تفسِّر وضع البرنامج الكوري الشمالي اليوم، إذ إنهم قادرون على تصنيع أسلحة بأعدادٍ كبيرة".