قد يعتقد البعض أن صراع شرق المتوسط فجَّرته اكتشافات الغاز في أعماق البحر، لكن القصة تتعلق أكثر بالهوية والسيادة والتوترات الإثنية والعرقية، فكيف يمكن فهم جذور الصراع وتداعياته؟
مجلة The National Interest الأمريكية تناولت القصة في تقرير بعنوان: "الصراع في شرق المتوسط لا يقتصر على الغاز الطبيعي"، ألقى الضوء على الجذور التاريخية للصراع بين تركيا واليونان وانعكاساته على الوضع في جزيرة قبرص والمنطقة ككل.
ماذا تريد تركيا؟
في 17 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب عن الاكتشاف الحديث لحقل غاز طبيعي في البحر الأسود، أنَّ السبيل لتحقيق السلام بشرق المتوسط يتمثل في "احترام الجمهورية التركية بشمالي قبرص والاعتراف بها وإقرار حقوق تركيا".
ويلخص هذا الخطاب، الذي تتداخل فيه مشكلات أمن الطاقة مع السيادة والهوية والصراع الإثني، العوامل العديدة التي تقف خلف التوترات الأخيرة في شرق المتوسط، بيد أنَّ أغلب التغطية الإخبارية للصراع منذ أغسطس/آب، لا تشير إلى هذه المحركات إلا إشارة عابرة، وعلى الرغم من أنَّ التنافس على الطاقة له دور مهم في التوترات الأخيرة، فإنه مجرد إضافة حديثة لصراع يتعلق في الأساس بالسيادة والأرض والهوية.
تسهم التوترات التاريخية حول الهويات الوطنية والسيادة الإقليمية لكل دولة بدور أساسي في الموقف العسكري الحالي، ولم تكن عودة سفن المسح السيزمي التركية إلى المياه المتنازع عليها ببحر إيجه في أوائل أكتوبر/تشرين الأول، إلا رداً مباشراً على الجدول الزمني لتدريبات إطلاق النار اليونانية في 29 أكتوبر/تشرين الأول (الذي أُلغِي الآن)، والذي تزامن مع الاحتفال بيوم الجمهورية التركية.
كيف انتهكت اليونان معاهدة لوزان؟
علاوة على ذلك، اعتبرت أنقرة موقع التدريبات (على جزر مختلفة قريبة من شريط الساحل التركي) انتهاكاً لمعاهدة لوزان لعام 1923، المعاهدة التأسيسية التي نشأت بموجبها الدولة التركية الحديثة، ورداً على ذلك، أعلنت تركيا إجراء مناورات إطلاق نار، في 28 أكتوبر/تشرين الأول، الموافق ليوم الاحتفال بالمقاومة الوطنية اليونانية ضد احتلال قوات المحور، (التي أُلغيت أيضاً)، ويُظهر تزامن هذه التدريبات العسكرية مع الأعياد الوطنية التي (تعيد) بناء الهويات الحديثة لكل دولة، تأثير الهوية في الصراع.
ترتبط نزاعات الطاقة ارتباطاً جوهرياً بالمنافسة السيادية على الأرض، ويتعلق وجود سفينة المسح السيزمي التركية "Oruç Reis" في المياه المتنازع عليها حول جزيرتي كاستيلوريزو ورودس منذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول، باعتراض ما تعتبره تركيا مزاعم اليونان "المتطرفة" بقدر ما يتعلق باكتشاف النفط والغاز.
ووفقاً لقياسات جهاز ناتفكس (التلكس الملاحي)، الذي حدد أبعاد أنشطة المسح السيزمي لسفينة Oruç Reis، كانت السفينة على بُعد أقل من نصف ميل بحري خارج المياه الإقليمية التي تطالب بها اليونان حالياً (ومساحتها 6 أميال بحرية) قبالة جزيرة كاستيلوريزو، وكانت هذه خطوة محسوبة ومتعمدة من تركيا؛ للتصدي لقانون أصدره البرلمان اليوناني عام 1995، والذي سمح لحكومته بتوسيع سيادتها على المياه في بحر إيجه إلى 12 ميلاً بحرياً، وفي ذلك الوقت، وصفت أنقرة القانون بأنه سبب للحرب، وتبرز المواجهة التي اندلعت الأسبوع الماضي، بين السفن الحربية اليونانية والتركية على جانبي حدود الأميال البحرية الستة، كيف تَأكَّد الصراع من خلال تعارض المطالبات الإقليمية.
المواقف الإقليمية تزيد التوتر اشتعالاً
ويُضاف إلى ذلك أنَّ المواقف الحالية للدولتين بشأن القضية القبرصية تفاقم استمرار تأثير الهوية في الصراع، ولا تقتصر دوافع محاولة أثينا الأخيرة فرض عقوبات على تركيا في قمة المجلس الأوروبي الأسبوع الماضي، على عودة سفينة Oruç Reis التركية، بل تشمل أيضاً قرار إعادة فتح شاطئ فاروشا أمام المجتمع القبرصي التركي في أوائل أكتوبر/تشرين الأول.
وقد تسببت هذه الخطوة، التي تنتهك قرار الأمم المتحدة رقم 550 لعام 1984، في إثارة الذعر على نطاق واسع داخل المجتمع القبرصي اليوناني وزادت من توتر العلاقات اليونانية التركية؛ مما أضعف بلا شك، آفاق الحوار والتعاون بين الجانبين، والأهم من ذلك أنه يعزز- بلا شك- رفض أثينا النظر في قضايا تتجاوز ترسيم الحدود البحرية في المفاوضات المستقبلية.
ومن غير المرجح أن تلبي قبرص أو اليونان دعوة تركيا إلى إجراء محادثات تشمل النزاع القبرصي، على الرغم من كونه شرطاً تركياً مسبقاً للمحادثات، وتوضح حقيقة سعي أنقرة إلى معالجة قضايا استغلال الطاقة والحدود البحرية والصراع القبرصي معاً، أنَّ التوترات الحالية تمتد إلى ما هو أبعد من المنافسة البسيطة على النفط والغاز.
ومع ذلك، تمثل أيضاً المنافسة على استغلال الهيدروكربونات في المياه المتنازع عليها حول قبرص والجزر اليونانية في بحر إيجه قوةً دافعة بارزة وراء الأعمال العدائية الأخيرة، وقد صيغت المعاهدة البحرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية- التي تتخذ من طرابلس مقراً لها- لمنع مد خط أنابيب "إيست ميد" المُخطَّط له، والتصدي لتهميش دول المنطقة الأخرى لتركيا (والذي يتجلى في استبعاد أنقرة من منتدى غاز شرق البحر المتوسط)، وجاء رد اليونان- بتوقيع اتفاقية بحرية جديدة مع مصر في أوائل أغسطس/آب- معارضاً لهذه الصفقة وكان- بلا شك- حافزاً لقرار أنقرة، في أغسطس/آب، إرسال سفينة Oruç Reis إلى المياه المتنازع عليها.
لكن في الوقت نفسه، يعزى استبعاد تركيا من منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط وخط أنابيب "إيست ميد" إلى أكثر بكثير من مجرد المنافسة في مجال الطاقة، حيث تشير تصريحات أثينا ونيقوسيا إلى أنَّ خط الأنابيب مشروع "دفاعي" يهدف إلى الحد من نفوذ تركيا المتزايد في شرق البحر المتوسط من خلال تعزيز المطالبات اليونانية والقبرصية بالمياه المتنازع عليها حول جنوب شرقي قبرص وكريت.
هذا لا يعني أن الغاز غير مهم
علاوة على ذلك، يمتد المسار المُخطَّط لخط الأنابيب- من حقلي الغاز "ليفياثان" و"أفروديت" إلى اليونان عبر قبرص وكريت- على مساحة تُقدَّر بـ1300 كيلومتر (مما يجعله أطول خط أنابيب في العالم) بتكلفة تقديرية تبلغ 7 مليارات دولار، وتشير الجدوى الاقتصادية والبنية التحتية المحدودة لهذا الخط إلى أنَّه مناورة جيوسياسية لمواجهة تركيا أكثر من كونه مشروعاً مدفوعاً بحوافز اقتصادية.
مع أخذ النقاط المذكورة أعلاه في الاعتبار، يتضح أنَّ الصراع في شرق المتوسط يتعلق بالهوية والأراضي بقدر ما هو تنافس على الطاقة الهيدروكربونية، ومن المهم عدم المبالغة في التركيز على تفسير واحد لإعادة التصعيد الأخير في التوترات منذ أغسطس/آب، ويمكن العثور على عديد من الحجج المقنعة، ومن ضمنها تحليلات عقيدة "الوطن الأزرق" التركية وتأثيرها المتزايد منذ عام 2016، وتأثير القطبية المتغيرة.